الأزمة المنسية .. ما الذي يجري في دارفور؟

 


 

 



khalidtigani@gmail.com

آخر ما يمكن أن يوصف به الوضع في دارفور بأنه أصبح "أزمة منسية" لكثافة ما أحيط به من اهتمام غير مسبوق ظل مستمراً على مدى عشر سنوات,  وجراء تسليط أضواء إعلامية مركزة عليه على نحو غير مألوف لم تحظ به قضية جنوب السودان التي دامت نصف قرن, وحراك وتدخلات دولية محمومة, وعشرات القرارات الأممية, ونشر أكبر قوة حفظ سلام عرفتها الأمم المتحدة, وسنوات من مارثوانات التفاوض أثمرت اتفاقية أبوجا, ثم وثيقة الدوحة للسلام.
على الرغم من ذلك كله دخلت أزمة دارفور غياهب النسيان, وأصبحت "أزمة منسية" بامتياز على الأقل في الوعي العام والضمير الوطني السوداني, ولا أدل على ذلك من أن الأوضاع الآخذة في التدهور أمنياً وسياساً في الإقليم على مدار الأشهر الماضية, على خطورتها لم تعد تثير اهتمام أحد في الجماعة الوطنية السودانية لا شعبياً ولا رسمياً ولا سياسياً, وبات التفاعل مع هذه التطورات الخطيرة من كل أطراف الساحة السودانية باهتاً وكأنها تحدث في بلد بعيد مما يتسمع الناس أخبار مآسيه خطفاً في وسائل الإعلام.
ما الذي يجري في دارفور حتى يقتضي التنبيه من مغبة الانصراف عنه بمشاغل أقل شأناً, أو الغفلة عنه بداعي أن الأمر لم يعد يعني أحداً, أو على أقل تقدير تطبيع التعامل مع تطورات الأزمة المتسارعة وكأنها أمر عادي متوقع على أي حال في ظل غياب أفق حقيقي لتسوية فعلية تقود إلى حل سلمي نهائي. وهو نهج لا يضع اعتباراً جدياً للمدى الذي يمكن أن تنزلق إليه الأمور, ودون تحسب بعيد النظر لتبعات وتداعيات خروج الأوضاع من السيطرة تماماً.
شهد الإقليم في خلال الأشهر القليلة الماضية تحولات عميقة سياسياً وأمنياً في بنية أزمة دارفور بمعطياتها المعلومة, وهي للمفارقة تحولات تسير عكس الإتجاه الذي كان مأمولاً بأن تعبد وثيقة الدوحة, وإن جاءت منقوصة من حيث غياب فصائل مسلحة مؤثرة عن الانخراط فيها, طريق التسوية الشاملة عبر سلسلة المعالجات التي تضمنتها, ولكن بعد مرور أكثر من عام من التوقيع عليها يبدو السلام بعيد المنال ليس بسبب الفصائل الرافضة لتلك التسوية بل بسبب بروز عناصر جديدة في معادلات الأزمة زادتها تعقيداً, بل هي للغرابة من داخل الفئات المؤيدة للوثيقة بسبب اشتداد أوار الصراع على السلطة والنفوذ ومحاولة حجز مكان ودور في معادلات السلطة المستقبلية, وهو صراع لم ينحصر في الجوانب السياسية ولكن انزلق للتعبير عن هذه التطلعات السياسية باستخدام القوة والعنف.
وكانت النتيجة أن شهدت دارفور حالة انفلات أمني متصاعد يكاد يخرج الإقليم عن سيطرة الدولة الفعلية, وما ذلك إلا أن جانباً من هذا العنف يغذيه مشاركة أطراف حكومية نظامية ضد بعضها البعض بسبب حرصها على الانتصار لتحيزاتها القبلية على حساب دورها الحاكم بين الأطراف باعتبارها ممثلة السلطة المسؤولة عن فرض النظام, وهو أمر لم يعد سراً أو محل تخمين بعد أن اضطر حاكم شمال دارفور للاعتراف بذلك علانية تحت وطأة تزايد وتيرة العنف التي دارت عجلتها لا لتطحن غمار الناس فحسب بل باتت تلاحق كبار المسؤولين الحكوميين في بعض المناطق, وما جرته من حملات ردود فعل انتقامية زادت الأمور ضغثاً على إبالة.
وهذا الانفلات الأمني الذي تتواتر أخباره وتتسع دائرته مما باتت تحمله الأنباء بصورة شبه يومية ليس سوى تعبير إلى درجة كبيرة عن حالة الاحتقان السياسي الذي يعيشه الإقليم, لا سيما في أوساط نخبة حزب المؤتمر الوطني الحاكم في دارفور الذين يتحملون بفعل صراعاتهم المستعرة مسؤولية موجة تدهور الأوضاع الحالية في الإقليم, وما يثير الاستغراب أن إقدام الحكومة الاتحادية على توليد المزيد من الولايات في الإقليم, في خطوة مغايرة للمطالب المتزايدة بتقليص الهياكل الإدارية للدولة, والتي جرى تأسيسها على اعتبارات قبلية في مفارقة تامة لمنطق الرشد السياسي فقط بغرض توفير المزيد من الوظائف الدستورية لاستيعاب التطلعات والطموحات السياسية للقيادات المحلية أدت إلى عكس المرجو منها تماماً فقد خلقت المزيد من الصراعات والتنافس المحموم بدلاً من أن تسهم في تخفيف تلك النزعات المدمرة للنسيج الوطني.
وخطورة موجة العنف الحالية في دارفور أنها تجاوزت ثنائية الصراع بين الحكومة المركزية والجماعات المسلحة المتمردة, التي لا تخلو إلى حد ما من وجاهة في مبرراتها السياسية, إلى حالة انفلات أمني وعنف عبثي يفتقر إلى أي مضمون سياسي مما يجعل التعامل معه في حكم المستحيل لغياب مطالب موضوعية يمكن التحاور بشأنها, مما يجعلها جبهة استنزاف مفتوحة على حدود مكانية وزمانية غير معلومة النهايات. ولعل أخطر في ما موجة العنف الجنونية هذه أنها باتت تضرب هيبة الدولة, أو ما تبقى منها في دارفور, في الصميم فالقتل بعد أن كان محتكراً لغمار الناس من المستضعفين بات يطارد مسؤولين حكوميين دستوريين, وبدأت في الانتشار ظاهرة أخذ القانون باليد انتقاماً بأيدي قوة نظامية دورها فرض القانون لا القفز عليه, ووصل الاستهزاء بهيبة الحكم مبلغها في حادثة الاعتداء على مقر السلطة الانتقالية وبعض مسؤوليها, وحوادث العنف والقتل في الآونة الأخيرة باتت أكثر من أن تحصى, من مقتلة الطلاب المحتجين في نيالا, إلى الهجمات الانتقامية على المعسكرات.
تحدث كل هذه السلسلة المتواترة من أعمال العنف وتبعاتها الخطيرة ثم تفاجأ بأن لا صدى لها على الإطلاق مما تستحقه من اهتمام ومساع لازمة لاحتوائها ومنع تطورها إلى ما هو أسوأ عاقبة, فالحكومة الاتحادية تبدو كمن زهد في الأمر بعد طول رهق في مجاهل الأزمة الدارفورية وتداعياتها التي قادت إلى عواقب وخيمة شكلت عناصر ضاغطة لا فكاك منها للحكم الإنقاذي, ومن الواضح أن الخرطوم المرهقة قررت ترك التعاطي مع هذه التطورات, مع خطورتها البالغة, لحكام الإقليم في السلطة الانتقالية والولاة لإطفاء نيرانها, ولم تعد تتدخل إلا لماماً, وعلى مستوى أدنى بكثير مما هو منتظر لتدارك هذا الوضع المنذر. ربما ليس زهداً ولكن لأنه ليس بيدها الكثير مما يمكن أن تقدمه, أو لفقدانها التأثير على مجريات الأحداث بعد تورط بعض قادة الحزب الحاكم في الإقليم في أتون الصراعات المسببة لهذا الانفلات.
وما يثير الاستغراب أنه حتى التصريحات الصحافية الرسمية والحزبية التي عادة ما تطلق بغير حساب وتفتي في كل موضوع لا تكاد تجد لها حساً عن ما يدور في دارفور, وكأنها تشير إلى أنها باتت خارج دائرة اهتمام النخبة الحاكمة, وخارج الحسابات أيضاً ما دامت غير مؤثرة على معادلاتها في الوقت الراهن.
يشكل الوضع الراهن في دارفور أكبر تحد في قياس مدى نجاعة وثيقة الدوحة في تحريك قطار التسوية في إتجاه محطة السلام, ولكن بعد مرور أكثر من عام من توقيعها, لا يبدو أن الأطراف الملتزمة بها قطعت شوطاً في هذا الإتجاه, فما أنجز حتى الآن لا يتجاوز التأسيس الشكلي لمؤسسات السلطة الانتقالية والتسكين الوظيفي لنخبة الفصائل الموقعة المتصارعة على السلطة, والملاحظ أن الاهتمام الغالب على الأطراف هو إنفاق الوقت في بحث أمور إدارية ومالية في ما ظلت القضايا الجوهرية التي تضمنتها بنود الوثيقة باقية على حالها لم يتم إحراز تقدم فيها ذي بال نحو ما رصده آخر تقييم ورد في التقرير الدوري قدمه الأمين العام للأمم المتحدة لمجلس الأمن في يوليو الماضي بشأن دارفور.
ومن عجائب أزمة دارفور التي لا تنقضي, والتي تكاد تجعل الجد في طلب السلام نسياً منسياً, أن آفة "تطبيع الأزمة" والتعامل مع مآسيها الإنسانية بدم بارد غشيت المجتمع الدولي الذي ملأ العالم ضجيجاً بلا طحين في شأنها, فلقد تحول الاهتمام بها إلى "مسألة بيروقراطية" مجرد تقارير روتينية دورية ربع سنوية يصدرها الأمين العام يكرر فيها في كل مرة الحكي عن عجز أكبر بعثة حفظ سلام في تاريخ المنظمة عن حماية نفسها دعك من أن تفرض سلاماً لا وجود له, ثم يسرد حوادث الاختطاف والقتل التي يتعرض لها جنودها, في مشهد عبثي لا تجد فيه أية حكمة من أية نوع عن المغزى من هذا الوجود الكثيف للبعثة المشتركة للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي (يوناميد), فلا هي بعد سنوات من وجودها أنهت العنف, أو على الأقل حدت منه, ولا هي حققت أمناً. ومن طرائف تقارير البعثة أن بان كي مون طلب في أحد توصيات تقريره الأخير لمجلس الأمن "الحكومة السودانية بأن تعمل على المسارعة إلى ضبط المسؤولين عن ترويع منسوبي يوناميد وتقديمهم إلى العدالة", وطالما أن السيد مون يقر بأن الحكومة السودانية تمتلك كل هذه القدرات الاستثنائية في ضبط المتفلتين وإقامة العدل والقيام على أتم وجه بمهمة "حفظ سلام قوات حفظ السلام الدولية" إذن فما هي مهمة بعثته ذات العدد والعتاد, التي تبلغ ميزانيتها السنوية المعتمدة ملياراً ونصف المليار دولار, وفي غضون السنوات القليلة الماضية صُرفت, حسب خبراء مختصين, أكثر من عشرة مليارات دولار باسم تحقيق وحفظ السلام في دارفور, أنفقت كلها على البعثة, ولو أن معشار هذا المبلغ استثمر في مساهمة دولية حقيقية في تنمية الإقليم لقضي على جذور الصراع فيها التي اندلعت, ضمن أسباب آخرى, بسبب التنافس على الموارد الطبيعية المحدودة بسبب غوائل العوامل البيئية.
والغريب أن المنظمة الدولية تتنصل عن أية مسؤولية لها في عملية إعادة إعمار دارفور, وتعتبرها مسؤولية تقع على عاتق الحكومة السودانية وحدها, إذ يذهب كي مون إلى الإقرار بأن" من المشكوك فيه, في الوقت الراهن, أن توجه حكومة السودان , بسبب أزمتها الاقتصادية والمالية, الاهتمام والدعم اللازمين نحو عملية الإنعاش وإعادة التأهيل والتنمية التي تشتد إليها الحاجة في دارفور, أي أن آمال السكان في دارفور في تحقيق سلام دائم ستظل مجرد تطلعات" قد يصلح أن يصدر هذا الحديث من محلل سياسي, ولكن كيف يصح صدوره من الأمين العام للأمم المتحدة أن يكتفي بان يتحول إلى مجرد معلق على الأحداث, في وقت ينفق المجتمع الدولي مليارات الدولارات على عملية فاشلة بامتياز لم يُعرف لها غرض واحد نجحت في تحقيقه, ثم يضن بأي إسهام على عملية إعادة الإعمار موكل أمرها لحكومة تعايش ضائقة اقتصادية طاحنة يعرف سلفاً أن لا طاقة لها بذلك, ثم إن المستفيدين الحقيقيين من أية عملية إعمار هم المواطنون العاديون المطحنون في دارفور, فلماذا تريد المنظمة الدولية أن يظلوا في بؤسهم فقط لاستخدامهم كرت ضغط ضد الخرطوم دون أي اعتبار لأدميتهم؟.
في الواقع إن مواطن دارفور البسيط هو من يدفع في نهاية الأمر ثمن استخدامه من قبل جميع أطراف الصراع المحلية والدولية, كبشاً للفداء لأجندة ومصالح هذه الأطراف المختلفة. ويساعد على هذا الاستغلال البشع لإنسان دارفور أن نخبة أبناء الإقليم من قادة الجماعات المسلحة أو السياسيين هم من يتحملون المسؤولية الأكبر في إطالة أمد النزاع واستمرار معاناة مواطنيهم بسبب الانقسامات الأميبية الحادة التي شهدتها هذه الحركات بلا مبررات موضوعية إلا التنافس على الزعامة والسعي للحصول على وظائف حكومية على أجساد مواطنيهم مما أضعف حجة المطالب المشروعة الساعية للتغيير, واضاع فرص التسوية العادلة التي ذبحت على أعتاب المطامع الشخصية على حساب المصلحة العامة لأهل دارفور, واتهام الحكم في الخرطوم بأنه انتهج سياسة فرق تسد في أوساط المناضلين يسئ إلى النخبة الدارفورية التي ترضي أن تكون سلعة تباع وتشترى في سوق السياسة؟, ألم يكن حرياً بالنخبة الدارفورية أن تتعلم من الثوار الجنوبيين أنهم لم يسمحوا للانقسامات بينهم أن تصل إلى حد أن تكون سبباً في ضياع أصل قضيتهم.
ومن المهم للجماعة الوطنية السودانية عامة أن تدرك أن الانصراف عن أزمة دارفور أو تجاهلها والتعامل معها وكأنه شأن لا يخصها يدخل في باب الغفلة التي لا يجب أن تتكرر والبلاد لا تزال تدفع ثمن الغفلة الكبرى عن قضية الجنوب حتى استهانوا باحتمال انفصاله الذي ذهب البعض إلى اعتباره حلاً, وما استفاق السودانيون على هولها حتى عندما حدث تقسيم البلاد, ولم ينتبهوا إلى شأنها إلا عندما مست تبعات التقسيم الاقتصادية, بذهاب ريع النفط, جيب كل مواطن فطفق الجميع يتابعون بدقة كما لم يفعلوا من قبل أمر مفاوضات أديس أبابا عسى أن تعيد الحياة إلى أنابيب النفط, وتعيد بعض القيمة إلى المال في جيوبهم المكدودة, فلماذا ينتظر السودانيون كل مرة وقوع الكارثة على رؤوسهم حتى يستفيقوا, ودارفور سائرة على طريق أخطر مما انتهت إليه قضية الجنوب ما لم يتم تداركها, ووعي الضمير الوطني بأمر ما يجري في دارفور وتحريك الرأي العام في إتجاه الضغط من أجل وقف دخولها في "نفق النسيان" سيسهم بلا شك في إبقاء آمال وجهود البحث عن حل وطني شامل حية وممكنة.             
عن صحيفة إيلاف
12 سبتمبر 2012

 

آراء