الأصل البشري بين الروائي دان براون وبروفيسور منتصر الطيب والأستاذ محمود محمد طه .. بقلم د. أمجد إبراهيم سلمان

 


 

 

"من بابٍ صغير في المسرح المنصوب في الهواء الطلق في ساحة متحف چوچنهايم في مدينة بيلباو الإسبانية برزت الآنسة آمبرا ڨيدال - مديرة المتحف - مرتدية زياً لؤلؤياً أبيضاً ملتصقاً بقوامها الممشوق مزداناً بخطٍ أسودٍ مائل أضاف لمسة أنيقة لذلك الزي الجميل ، لكن الذي كتم أنفاس 300 ضيف من أكبر مشاهير العالم هو جمالها الأخّاذ و خطواتها المنسابة فوق المسرح ، و عندما عرّفت عن نفسها علت همهمات الحضور مع تصفيقٍ حار لمعرفتهم أنها خطيبة ولي عهد إسبانيا و الملكة المستقبلية للبلاد ، و في ركن قَصِي بين الحضور كان يستمع البروفيسور روبرت لانغدون أستاذ علم الرموز في جامعة برنستون و الذي جاء من أمريكا إلى بيلباو ملبياً دعوة مفاجأة من تلميذه النابغة في علوم التكنولوجيا الملياردير الأمريكي إدموند كيرش لحضور أمسية سيجري فيها الإفصاح عن إختراع جديد قد يغير العالم ، مثلما غيره كوبيرنيكوس عالم الفلك البولندي في القرن الخامس عشر عندما أثبت فرضية أن الأرض تدور حول الشمس و ليس العكس كما كان معروفاً في ذلك الوقت".

تلك هي فقرة صغيرة مقتبسة من رواية الأصل (أوريجين) للمؤلف الأمريكي المعروف دان بروان ، و هي رواية نشرت في العام 2017 بعد عدة روايات رائعة للمؤلف طبعت بعشرات اللغات حول العالم مثل رواية شفرة داڨينشي ، ملائكة و شياطين ، و رواية الجحيم ، و قد أنتجت هوليوود عدة أفلام من تلك الروايات مثّل فيها دور البطولة الممثل المتميز توم هانكس الذي جسّد شخصية عالم الرموز البروفيسور روبرت لانغدون بصورة رائعة. رواية الأصل تدور عن اكتشاف مُذهِل اكتشفه المخترع إدموند كيرش يدور حول أصل الإنسان ، الاكتشاف يجيب عن الأسئلة الفلسفية المعاصرة في الذهن الغربي و التي تتناول مآلات الإنسانية مع التطور العلمي المضطرد في كل مجالات التكنولوجيا و التصنيع و ما تبع ذلك من آثار بيئية أصبحت تهدد وجود البشرية نفسها و ما ارتفاع درجات حرارة أوروبا الحالية حتى في نوفمبر 2022 و فيضانات باكستان التي شردت 17 مليون نسمة ، أي ما يعادل أكثر من سكان بلدين أوروبيين مثل الدنمارك والسويد مجتمعتين إلا إرهاصات لما هو قادم.

في رواية الأصل يناقش دان براون بذكاء كل تلك التحديّات البشرية عبر شخصيته المحورية روبرت لانغدون مع طالبه النابغة إدموند كيرش الذي تربع على عرش الإبداع و التكنولوجيا في عمرٍ صغيرٍ جداً ، و لولا أن الرواية نشرت قبل 5 سنوات لخالجنا شعور أن الشخصية مستوحاة من الملياردير الأمريكي الغريب الأطوار السيد إلون ماسك مخترع سيارة تسلا الكهربائية و الذي شغل العالم و الناس بإستحواذه على منصة تويتر مؤخراً بمبلغ فلكي يبلغ 44 مليار دولار ، الأمر الذي يجسّد مأساة الإنسانية المعاصرة حيث يمتلك 1% من سكان هذا الكوكب حوالي 50% من الثروات المتاحة فيه. في نقاشات لانغدون مع كيرش يفاجئه هذا الأخير بأن السؤال الملح ليس من أين جئنا إلى هذه الحياة بل ما هي مآلاتنا كبشر ، و تجري الأحداث بصورة درامية و حبكة علمية متقنة لتوصلنا إلى نهاية مدهشة و عميقة في نفس الوقت ، ولكي لا يفسد المرء متعة قراءة الكتاب أترك للقراء فرصة اقتناءه و الاطلاع عليه خاصة و قد تمت ترجمته مؤخراً إلى اللغة العربية و التي أتمنى أن تكون قد عكست عمق النص العلمي الإنجليزي المسبوك.

في السادس من مايو في العام 2021 نظّمت لجنة تسيير الجالية السودانية في قطر و بالتنسيق مع المركز الثقافي السوداني ندوة للبروفيسور منتصر الطيب أستاذ علوم الوراثة الجزيئية في جامعة الخرطوم بعنوان " السودان عبر العصور جينياً " قامت الأستاذة منى علي من رابطة أساتذة الجامعات في قطر بإدارة الندوة باقتدار و حاور البروفيسور منتصر الباشمهندس عمر الحاج الموهوب علمياً و إعلامياً و المهتم بالتاريخ السوداني القديم بصورة خاصة ، و ذلك عبر برنامج الزووم من ولاية ميريلاند في الولايات المتحدة الأمريكية .

استعرض البروفيسور منتصر بدقة تاريخ هجرات الإنسان الأول من إفريقيا و خاصة من الهضبة الإثيوبية و السودان إلى بقية دول العالم متجهاً شمالاً إلى مصر و عبر سيناء إلى بقية دول آسيا و أوروبا ، و قد قدم في المحاضرة معلومات ثرّة عن أهمية التنوع الجيني الموجود في السودان الذي يبلغ 60% من جينات البشر على هذا الكوكب و الذي يجعله كنزاً إنسانياً و معرفياً خالصاً ، و قد ذكر أن قبيلة مثل قبيلة البجا في شرق السودان تجري في عروق أبنائها ما نسبته 25% من الجينوم الإنساني العالمي ما يؤكد أن هذه المنطقة الفقيرة حالياً في الموارد و التضاريس كانت في الماضي مكاناً خصباً لتلاقح بشري كبير إنداح حول العالم عبر الهجرات المتتابعة ، لذلك توجد في تلك المنطقة من السودان ثروة جينية هائلة ، و لتوضيح الفكرة فإن الإنسانية تحتفظ في كهوف ثلجية مخصصة في أرخبيل سفالبارد في شمال النرويج بكل الأصناف و البذور الغذائية في العالم في بنك جيني موحد كي تلجاء له البشرية إذا ما ألمّت بها آفات و كوارث أو حروب نووية دمّرت محاصيلها و حيواناتها و إنسانها ، و لنا أن نتخيل أن وباءً مثل الكورونا يتحور ليكون بشدة و شراسة حمى الإيبولا النزفية و ينتشر عبر الهواء لكي يقضي على مليارات البشر خلال أسابيع ، وفي هذه الحالة ستحتاج البشرية لعينات جينية قوية لتعويض الإنسان على هذه الأرض لذا فالجينات الأصيلة مثل تلك التي في السودان و إثيوبيا و تشاد ستكون ذات قيمة علمية و بحثية عالية .

وقد سألت البروفيسور منتصر عن تفسير فحص جيني أجريته لنفسي قبل بضعة سنوات ظهرت فيه جينات من بلدان إفريقية وأوروبية وعربية مختلفة حوالي 14 بلداً ، بل و أن فيه نسبة 1% من جينات يابانية ، فاستطرد قائلاً " أن هذه من التأويلات الجينية الخاطئة خاصة بعد انتشار الفحص الجيني عبر الشركات الحديثة" ، و أردف موضحاً "أنه لا يمكن تفسير الأصول عبر الفروع بمعنى آخر ولأن الإنسان الأول خرج من إفريقيا فمن الطبيعي أن تكون له انعكاسات جينية في كل العالم لأن البصمة الجينية لا تزول بهجرة حامليها من بلدٍ إلى آخر" ، و حسب ما فهمت منه لاحقاً أنه و بسبب أننا في السودان قد طرقنا باب الفحص الجيني في مرحلة لاحقة بعد أن قامت دول عديدة بتسجيل ملايين العينات لسكانها في بنوك الجينات العالمية ، فصارت النتائج الحديثة تقارن بما هو موجود في تلك البنوك الجينية من عينات ، و بالطبع فالحل أن تجرى حملات تحليل عينات بعشرات الآلاف أو ملايين من السودانيين حتى يتم تحديد و تسمية الجينات السودانية باسمها العلمي و توثيقها بصورة جيدة و هذا أمر عسير خاصة إذا علمنا أن تلك الشركات تتقاضي حوالي الـ 75 دولاراً للعينة الواحدة. و مما أسهب فيه بروفيسور منتصر أنه عند حدوث هجرات البشر حدثت معها هجرات لأمراض كانوا يحملونها معهم ، لذا فإن مرض الليشمانيا و هو مرض طفيلي جلدي تنقله ذبابة معينة تسمى بالذبابة الرملية له متشابهات آسيوية و عند عمل تحاليل جينية على مسببات المرض الآسيوية تستبين أصولها الإفريقية أيضاً ما يعكس وحدة الإنسانية في أصولها و مآلاتها بل و حتى في أمراضها. للأسف الشديد يحتدم صراع كبير حول الموارد و النفوذ في عالم اليوم و سباق للتسلح و التصنيع يؤدي بصورة مضطردة إلى دمار كبير للبيئة و الحيوان و الإنسان على حد سواء ، مع أن الحل يكمن في تكوين رؤية مشتركة حول مستقبل الإنسانية كوحدة وجودية.

بعيد إكمالي لكتاب دان بروان و استماعي لمحاضرة بروفيسور منتصر الطيب تذكّرت مقولة ملفتة للنظر للمفكر السوداني الأستاذ محمود محمد طه و الذي تم إعدامه من قبل الرئيس نميري في أواخر هرطقاته الديكتاتورية حيث نصب نفسه إماماً للمسلمين بتزيين ذلك من قبل حلفائه من الإخوان المسلمين بقيادة حسن الترابي الخصم الفكري للأستاذ محمود ، و في مسرحية هزيلة تمت إعادة محكمة لتلفيق تهمة الردّة تحصل عليها بالبراءة في 1968 و تم إعدامه يوم 18 يناير 1985 وهو في عمر الـ 76عاماً ، نشرت مقولة الأستاذ محمود الفلسفية في جريدة الشعب يوم 27 يناير 1951 بعنوان السودان هو مركز دائرة الوجود وهي كما وردت في موقع الفكرة الجمهورية كالتالي:
" أنا زعيمٌ بأن الإسلام هو قبلة العالم منذ اليوم .. وأن القرآن هو قانونه.. وأن السودان ، إذ يقدم ذلك القانون في صورته العملية ، المحققة للتوفيق بين حاجة الجماعة إلى الأمن ، وحاجة الفرد إلى الحرّية المطلقة ، هو مركز دائرة الوجود على هذا الكوكب .. ولا يهولن أحداً هذا القول ، لكون السودان جاهلاً ، خاملاً ، صغيراً ، فإن عناية الله قد حفظت على أهله من أصائل الطبائع ما سيجعلهم نقطة إلتقاء أسباب الأرض ، بأسباب السماء " إنتهى الأقتباس.

بالطبع فإن مقولة الأستاذ محمود تظل إستقراءً لواقع إنساني شهده خلال نضاله الطويل ضد الاستعمار بعيد تخرجه من كلية المساحة كلية غردون في العام 1936 و بعد ذلك مسيرة التصوف و الانقطاع للتمعن المعرفي منذ العام 1966 الذي ألف فيه العشرات من الكتب الفلسفية و أشهرها الرسالة الثانية للإسلام و التي أدت إلى إعدامه شنقاً في سجن كوبر بسبب إجتهاد ديني لم يستخدم فيه سوى الحُجة و الفِكر من قبل المتطرفين من الإخوان المسلمين ، إلا أن هذه المقولة عندما يتم النظر إليها بعيون الأبحاث علمية فإنها تكتسب بعداً آخر.

كما أسلفنا فإن رواية دان بروان الأصل تقدم نظرة فانتازية علمية عن مآلات عالم اليوم من خلال التحديات الوجودية التي تواجهها البشرية في ظل موارد طبيعية تنضب بسرعة تقابلها زيادات مضطردة في عدد سكان الكوكب ، و ما بين نتائج هذه الرواية وواقع وحدة الوجود الجيني الإنساني لكل البشر الذي وضحه بروفيسور منتصر الطيب و كما يظهره الفيديو المصاحب لهذا الموضوع فإن الكثير من الصراعات العنصرية و النزاعات الدينية يمكن نزع فتيلها عندما نضع مرآة الحقيقة العلمية أمام أوجهنا كبشر كي نكتشف أننا من عِرقٍ واحد آثرّت عليه ظروف الهجرة و السعي خلف الغذاء بقوانين الإنتخاب الطبيعي فصمد ذوو الطفرات الملائمة للبرد في مواجهة صقيع أوروبا و هلك غيرهم ، بينما قضت أمراض المناطق الحارة على من هم أقل توائماً مع القيظ في تلك الدول بسبب طول فترات الصيف وسطوع شمسه معظم فصول السنة و صمد من هم أكثر توائماً مع ذلك المناخ ، فهل يمكن أن يرتقي البشر لمثل هذه المفاهيم التي توحدهم ضد فرضيات زوالهم كجنس مهيمن على هذا الكوكب بأسباب سوء استخدامهم لموارده ؟

أمجد إبراهيم سلمان
الإثنين 14 نوفمبر 2022
amjadnl@yahoo.com
whatsapp 0031642427913
الفيديو المصاحب يمكن فتحه عبر هذه الوصلة
https://youtu.be/wA_yZFE9DPU
هذا المقال إهداء للصديقين الدكتور راشد سعيد في الإمارات و الباشمهندس علي دياب في المملكة العربية السعودية
لحثّهما المستمر لي بمواصلة الكتابة فلهما مني التحية و السلام

 

آراء