الإخوان المسلمون الإبتلاء والمصيبة
د. زاهد زيد
31 March, 2023
31 March, 2023
ما دمنا نعيش في عصر وصلت فيه الدولة للقاع ، فلا نستغرب من ظهور العاهات التي تحكمت في مجتمعنا ، ووصلت به لدرجة ما كان أحد من الناس يفكر فيها ولا مرت بخيال بشر .
ففي أيامنا وعندما كنا في الجامعات ، كان للإخوان المسلمين أثر واضح ولهم أغلبية اكتسبوها لعوامل هي نفسها ما جعلهم بعد ذلك يتحكمون في البلاد والعباد.
الإخوان المسلمون كفكرة مستوردة من الجارة مصر ، وتقول الموسوعة العالمية : (في عام 1949م جاء وفد من جماعة الإخوان المسلمين من مصر إلى السودان وعقد كثيرًا من الاجتماعات لشرح فكرهم وأيديولوجيتهم بقيادة جمال الدين السنهوري. وفي أبريل 1949م ظهر أول فرع للاخوان في السودان، خلال دراسة الطلاب السودانيين في مصر وتعرف الكثير منهم على أيديولوجيا الإخوان وجاؤوا لنقلها إلى السودان، وخلال الأربعينيات بدأ نشاط مجموعات الإخوان داخل الجامعات السودانية وكان الطلاب الجامعيون هم الداعم لأكبر للحركة. في خطوة لتوحيد المجموعات تحت منظمة واحدة أقيم مؤتمر عام 1954م من مجموعات مختلفة ممثلة للإخوان لها نفس الفكر، وصوت المؤتمر على إنشاء منظمة موحدة تتبنى أفكار حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين. وكان أول انشقاق للذين رفضوا الاسم بقيادة أبابكر كرار. )
و لم تكن لها من بيئة صالحة للانتشار في مجتمعنا ، ذلك لأنه مجتمع محافظ وتقليدي انتشر الإسلام فيه بالتعايش السلمي والمحبة ، والحقبة الوحيدة التي ساد فيها التيار المستند للدين هي المهدية التي الهبت عزيمة الناس وشجعتهم للخروج على الحاكم التركي الظالم مستخدمة الدين بفكر مستمد من فكرة الامامية المعروفة عند قطاع من المسلمين ، ساهم في انضمام الناس إليها شعورهم بالظلم واضطهاد التركي لهم وجهلهم بالدين الصحيح .
ولعلنا لا نبعد كثيرا عن أسباب قيام الثورة المهدية عندما نبحث عن الفكر الإخواني الذي لبس مسوح الدين ليستنهض الناس فرفعوا شعارات كبيرة ، أكبر منهم بكثير ولم يسعفهم الدين نفسه لمحاربة نفوسهم النهمة للدنيا .
لعل القيادة الأولى قبل الانشقاق لهم كان هدفها أن يستقيم الناس على هدى الدين ، هذا ما ظهر منهم بعد ان انشقت جماعة منهم وظلت تحمل اسم الإخوان المسلمين إلى اليوم(حدث انشقاق آخر انشقاق في صفوف (الإخوان المسلمون) في العام 1991م حيث تم انتخاب الشيخ سليمان أبو نارو رئيسا لجماعة الإخوان المسلمين، إلا أن الكثيرين ظلوا مع قيادات الإخوان التقليديةصادق عبد الله عبد الماجد( ، أما المجموعة الكبرى منهم فقد كانت تحت عرابها الدكتور الترابي الذي وجد في هذا التيار بغيته ، فقد كان الترابي المتطلع للزعامة يريد ان يضاهي اصهاره من آل المهدي ، ولم يرغب في أن يظهر من خلالهم كتابع لن يجد له مكانة لعائلة تتوارث الزعامات جيلا بعد جيل .
جاء الترابي الرجل الذكي ، الذي يحمل بين جنبيه طموحات لا نهاية لها ، ودرس المجتمع السوداني ولا شك انه لم تغب عنه اسباب قيام وصمود المهدية ، ولابد أنه وصل الى فكرة أساسية وهي لكي ينجح في تنظيم قوي عليه ان يستند للدين لما له من مكانة عند السودانيين ثم عليه أن يستغل جهل الناس بالدين في عامتهم ، فكثير من الناس خاصة في القرى مفاهيمهم عن الدين مرتبطة بالصوفية ، وهي تستند الى الغيبيات التي لا تقدم لهم شيئا لتحسين اوضاعهم الحياتية . وهذا ايضا العامل الذي جعل الناس ينفضون ايدهم عن شيوخ الصوفية في ايام المهدية ، فالناس كانوا يأملون خيرا في المهدية لتقدم لهم حياة أفضل ، ولكنها فشلت تماما في ذلك كما يقول التاريخ . ولعل الدكتور الترابي كان واثقا من نفسه ومن تنظيمه الجديد ولم يفكر يوما ان يكون مصيره كمصير المهدية .
معظم الذين انتموا لجماعة الإخوان في نسختها الجديدة بقيادة د. الترابي كانوا من الطبقة الدنيا من المجتمع و من الطبقة الوسطى ، من النابهين والمميزين في المدارس والجامعات ، وهؤلاء تمت السيطرة عليهم بوسيلتين ، الأولى وهي الاداة الأكثر فاعلية وهي مداعبة احلامهم المتوارثة لاقامة الدين ، ورفع رايات الإسلام ، وكانت شعاراتهم كلها تتكلم عن هذا الهدف ، ونشطوا جدا في الدعوة التي وجدت بيئة صالحة لها ، وكان الأمر سهلا أن يظن كل من هو اخ مسلم منتم لهم هو الوحيد الذي سيقود هذا المجتمع الجاهل الى النور الإلهي الذين هم جنوده على الارض .
لقد ساهم وجود الشيوعيين والبعثيين بشكل خاص في تزكية الفكر المتأسلم بشكل كبير ، خاصة في اوساط المتعلمين وانصاف المتعلمين ، فما اسهل من لصق صفة الكفر بالخصوم وضربهم في مقتل . ثم استخدام مبدأ قتل الشخصية ضد الآخرين من غير هؤلاء من خصومهم الذين لا يستطيعون وصمهم بالكفر كالشيخ سليمان أبو نارو . الذي استخدموا معه أبشع الوسائل في قتل شخصيته وانتهى الأمر باتهامه بالجنون ، ومات كمدا وحسرة .
لقد عرف الدكتور الترابي الاساس الذي نجحت به الثورة المهدية التي ورثها ابناؤهم من جيله كالصادق المهدي . ثم حاول ان يسحب البساط من تحت ارجلهم بنفس سلاحهم لكن بفكر مختلف .
في البداية كان من ينضم لهم من الشباب يكون منبهرا بهؤلاء الصحابة الجدد ومنبهرين بشخصية الترابي و طريقة كلامه و اسلوبه في السخرية من خصومه بابتسامة لا تخلو من خبث مبطن .
حتى اني رأيت الرجال منهم وقد اصابتهم الصدمة والنساء يبكين بحرقة عندما تم الاعتداء عليه في كندا من قبل لاعب الكراتيه بدر الدين .
كل هذا التنظيم وهذا التحرك كان من الممكن ان ينجح لكنه كان سيستغرق سنوات ايس في وسع طموح العراب ان ينتظرها ، خاصة وانه تمكن من اختراق المحظور و وصل لتجنيد وتربية عناصر في الجيش ، ففكرة الانقلاب المسلح لم تكن غائبة عنه من البداية .
وبدأ التنظيم ينحرف بقوة كبيرة يوم أن دخل في لعبة التحالفات مع نظام مايو ، هذه الحقبة جديرة بالدراسة المتعمقة ، فهناك نظام قائم ويحكم البلد ويسمي نفسه ثوريا وبدأ يساريا ثم حاول ان يجد له منظرون و منظمون ليولد الاتحاد الاشتراكي وتنظيماته ، ولعل ضعف مايو وفشلها في استقطاب الناس هو الذي دفع النميري للتحالف مع الإخوان المسلمين . وكان يعد هذا التحالف مرحليا ليتفرغ لمنازلة من يعتبرهم الخطر الأول وهم احزاب الطائفية . فحسبها حسبة خطأ حيث ظن انه بالتحالف مع الإخوان سيضعف هؤلاء الخصوم ، ولكنه كان كمن يربي الثعابين في بيته .
لا يمكن لوم الانتهازي اذا اخذ الفرصة من غافل ، لقد كانت اكبر عملية انتهازية في وضح النهار سلب فيها الاخوان المسلمين مفاصل السلطة والنميري يظن انه لازال متحكما في الأمر ، في تلك الحقبة استولى الاخوان على مرافق مالية مهمة وسيطروا عليها تماما كقطاع البنوك والاستثمار ثم كان انتشارهم وتمددهم داخل الجيش والقوات الامنية وكله تحت غطاء من التزلف لنميري ومن حوله ، حتى انهم نصبوه اماما للمسلمين وقائدا للصحوة الاسلامية الكبرى ، لم يستمع النميري للمشفقين وللمخلصين الذين نصحوه ان يحذر من هؤلاء ولكنه ، كان واثقا من نفسه لدرجة الغفلة .
كل ما تم في خلال تلك الفترة كان مخططا له بالكامل ، وقد خدمتهم الظروف في ذلك خدمة عظيمة ، لان التخطيط كان ان يتم في مرحلة ما تقويض النظام المايوي من الداخل والسيطرة عليه بالكامل عندما تحين الفرصة .
لقد تنبه النميري بعد فوات الاوان ولعل من هذه الظروف ان يمرض ويذهب للعلاج في امريكا في ظرف دقيق جدا . فهو كان مطمئنا جدا بعد ان كشف الاعيب الاخوان فوضع قياداتهم في السجن وعلى راسهم عرابهم الترابي ، لكن سقوط مايو كان قاب قوسين او ادني وهنا لعبت عضويتهم في الجيش لعبتها وكان " انحياز الجيش للشعب " هكذا سموه ، ومهما قيل عن سوار الذهب لكنه لم يقم باكثر مما هو ممكن له ، وترك الباقي لاخوانه ليتموه فيما بعد .
فلو كرمه الكيزان وجعلوه على راس مؤسسة من اكبر مؤسساتهم فليس هناك ادني شك في انه خدمهم اكبر خدمة باطلاق رصاصة الرحمة على نظام مايو ، سواء اكان سوار الذهب منهم او متعاطف معهم ؟ فهذا لا يهم الآن .
المهم أن الترابي وصحبه خرجوا منها كما تخرج الابرة من العجين ، بل وقاد حزبه بكل صفاقة وجراءة في انتخابات الديمقراطية الثانية ، ورغم سقوطه الداوي في دائرة الصحافة فقد فاز احد مساعديه الكبار في الدائرة المجاورة في امتداد الدرجة الثالثة والعشرة .
لقد كان هذا الفصل مخططا له من قبل الاخوان واستعدوا له بكل الطرق ، فالمال الذي كونوه وجمعوه ايامهم في مايو كان حاضرا لشراء الزمم و شعارات الاسلام تملأ الدنيا و التخوين والتكفير واغتيال الشخصيات كلها حاضرة في اكبر عملية خم وتجييش عرفتها البلاد .
وجاء ترتبهم الثالث بعد الحزبين التقليديين ، نتيجة طيبة إلا انها لم ترض الطموح ولا التطلع الى اعلى .
لم يكن من الممكن الانقلاب عسكريا على مايو ، وتجربة الحزب الشيوعي لازالت ماثلة ، والكيزان اجبن من ان يواجهوا بهذا الشكل . أما الانقلاب على الحكم المدني فيحتاج للخبث و التنظيم الجيد داخل الجيش و تحين الفرصة المناسبة .
اما الخبث والتصنع فهذا عملهم وتلك طريقتهم ، لذا ظلوا يشاركون في كافة المؤسسات الديمقراطية وبكثافة لأخر يوم قبل الانقلاب. لذر الرماد في العيون قاد هذا المخطط نائب العراب بنفسه من داخل البرلمان . وفي الخارج ملأوا الدنيا ضجيجا بفشل الحكومة الديمقراطية , ولعبوا اخبث دور في التضييق على الناس في معاشهم . فامتدت صفوف الخبز والبترول و الغاز ، لقد خنقوا الاقتصاد بما حازوا عليه ايام النميري . لم ير الناس في تاريخهم القريب مثلما رأوا في تلك الأيام .
كان الناس يتتبعون اخبار وصول البواخر من بوتسودان حتى تصل محطات الوقود ، وكان الخبز شبه معدوم ، واللحم غلا سعره ولم يصل من المواشي لاسواق الخرطوم منها شيء لانعدام الجازولين حتى اضطر وزير التجارة دكتور ابو حريرة لاستيراد الكباش من استراليا لعيد الاضحى ، تخيل هذا في بلد هو الاول في تربية الحيوانات اللاحمة . كل هذا في سبيل وصول الكيزان اللئام للسلطة . وتهيئة للانقلاب الذي مهدوا له الارض جيدا ، حتي قال النائب الاتحادي ذو الصوت الجهور " لو ان كلبا اخذ السلطة اليوم ما قال له احد جر"
وفعلا جاء الكلب واخذها ولم يقل له احد " جر "
ونواصل إن شاء الله
zahidzaidd@hotmail.com
ففي أيامنا وعندما كنا في الجامعات ، كان للإخوان المسلمين أثر واضح ولهم أغلبية اكتسبوها لعوامل هي نفسها ما جعلهم بعد ذلك يتحكمون في البلاد والعباد.
الإخوان المسلمون كفكرة مستوردة من الجارة مصر ، وتقول الموسوعة العالمية : (في عام 1949م جاء وفد من جماعة الإخوان المسلمين من مصر إلى السودان وعقد كثيرًا من الاجتماعات لشرح فكرهم وأيديولوجيتهم بقيادة جمال الدين السنهوري. وفي أبريل 1949م ظهر أول فرع للاخوان في السودان، خلال دراسة الطلاب السودانيين في مصر وتعرف الكثير منهم على أيديولوجيا الإخوان وجاؤوا لنقلها إلى السودان، وخلال الأربعينيات بدأ نشاط مجموعات الإخوان داخل الجامعات السودانية وكان الطلاب الجامعيون هم الداعم لأكبر للحركة. في خطوة لتوحيد المجموعات تحت منظمة واحدة أقيم مؤتمر عام 1954م من مجموعات مختلفة ممثلة للإخوان لها نفس الفكر، وصوت المؤتمر على إنشاء منظمة موحدة تتبنى أفكار حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين. وكان أول انشقاق للذين رفضوا الاسم بقيادة أبابكر كرار. )
و لم تكن لها من بيئة صالحة للانتشار في مجتمعنا ، ذلك لأنه مجتمع محافظ وتقليدي انتشر الإسلام فيه بالتعايش السلمي والمحبة ، والحقبة الوحيدة التي ساد فيها التيار المستند للدين هي المهدية التي الهبت عزيمة الناس وشجعتهم للخروج على الحاكم التركي الظالم مستخدمة الدين بفكر مستمد من فكرة الامامية المعروفة عند قطاع من المسلمين ، ساهم في انضمام الناس إليها شعورهم بالظلم واضطهاد التركي لهم وجهلهم بالدين الصحيح .
ولعلنا لا نبعد كثيرا عن أسباب قيام الثورة المهدية عندما نبحث عن الفكر الإخواني الذي لبس مسوح الدين ليستنهض الناس فرفعوا شعارات كبيرة ، أكبر منهم بكثير ولم يسعفهم الدين نفسه لمحاربة نفوسهم النهمة للدنيا .
لعل القيادة الأولى قبل الانشقاق لهم كان هدفها أن يستقيم الناس على هدى الدين ، هذا ما ظهر منهم بعد ان انشقت جماعة منهم وظلت تحمل اسم الإخوان المسلمين إلى اليوم(حدث انشقاق آخر انشقاق في صفوف (الإخوان المسلمون) في العام 1991م حيث تم انتخاب الشيخ سليمان أبو نارو رئيسا لجماعة الإخوان المسلمين، إلا أن الكثيرين ظلوا مع قيادات الإخوان التقليديةصادق عبد الله عبد الماجد( ، أما المجموعة الكبرى منهم فقد كانت تحت عرابها الدكتور الترابي الذي وجد في هذا التيار بغيته ، فقد كان الترابي المتطلع للزعامة يريد ان يضاهي اصهاره من آل المهدي ، ولم يرغب في أن يظهر من خلالهم كتابع لن يجد له مكانة لعائلة تتوارث الزعامات جيلا بعد جيل .
جاء الترابي الرجل الذكي ، الذي يحمل بين جنبيه طموحات لا نهاية لها ، ودرس المجتمع السوداني ولا شك انه لم تغب عنه اسباب قيام وصمود المهدية ، ولابد أنه وصل الى فكرة أساسية وهي لكي ينجح في تنظيم قوي عليه ان يستند للدين لما له من مكانة عند السودانيين ثم عليه أن يستغل جهل الناس بالدين في عامتهم ، فكثير من الناس خاصة في القرى مفاهيمهم عن الدين مرتبطة بالصوفية ، وهي تستند الى الغيبيات التي لا تقدم لهم شيئا لتحسين اوضاعهم الحياتية . وهذا ايضا العامل الذي جعل الناس ينفضون ايدهم عن شيوخ الصوفية في ايام المهدية ، فالناس كانوا يأملون خيرا في المهدية لتقدم لهم حياة أفضل ، ولكنها فشلت تماما في ذلك كما يقول التاريخ . ولعل الدكتور الترابي كان واثقا من نفسه ومن تنظيمه الجديد ولم يفكر يوما ان يكون مصيره كمصير المهدية .
معظم الذين انتموا لجماعة الإخوان في نسختها الجديدة بقيادة د. الترابي كانوا من الطبقة الدنيا من المجتمع و من الطبقة الوسطى ، من النابهين والمميزين في المدارس والجامعات ، وهؤلاء تمت السيطرة عليهم بوسيلتين ، الأولى وهي الاداة الأكثر فاعلية وهي مداعبة احلامهم المتوارثة لاقامة الدين ، ورفع رايات الإسلام ، وكانت شعاراتهم كلها تتكلم عن هذا الهدف ، ونشطوا جدا في الدعوة التي وجدت بيئة صالحة لها ، وكان الأمر سهلا أن يظن كل من هو اخ مسلم منتم لهم هو الوحيد الذي سيقود هذا المجتمع الجاهل الى النور الإلهي الذين هم جنوده على الارض .
لقد ساهم وجود الشيوعيين والبعثيين بشكل خاص في تزكية الفكر المتأسلم بشكل كبير ، خاصة في اوساط المتعلمين وانصاف المتعلمين ، فما اسهل من لصق صفة الكفر بالخصوم وضربهم في مقتل . ثم استخدام مبدأ قتل الشخصية ضد الآخرين من غير هؤلاء من خصومهم الذين لا يستطيعون وصمهم بالكفر كالشيخ سليمان أبو نارو . الذي استخدموا معه أبشع الوسائل في قتل شخصيته وانتهى الأمر باتهامه بالجنون ، ومات كمدا وحسرة .
لقد عرف الدكتور الترابي الاساس الذي نجحت به الثورة المهدية التي ورثها ابناؤهم من جيله كالصادق المهدي . ثم حاول ان يسحب البساط من تحت ارجلهم بنفس سلاحهم لكن بفكر مختلف .
في البداية كان من ينضم لهم من الشباب يكون منبهرا بهؤلاء الصحابة الجدد ومنبهرين بشخصية الترابي و طريقة كلامه و اسلوبه في السخرية من خصومه بابتسامة لا تخلو من خبث مبطن .
حتى اني رأيت الرجال منهم وقد اصابتهم الصدمة والنساء يبكين بحرقة عندما تم الاعتداء عليه في كندا من قبل لاعب الكراتيه بدر الدين .
كل هذا التنظيم وهذا التحرك كان من الممكن ان ينجح لكنه كان سيستغرق سنوات ايس في وسع طموح العراب ان ينتظرها ، خاصة وانه تمكن من اختراق المحظور و وصل لتجنيد وتربية عناصر في الجيش ، ففكرة الانقلاب المسلح لم تكن غائبة عنه من البداية .
وبدأ التنظيم ينحرف بقوة كبيرة يوم أن دخل في لعبة التحالفات مع نظام مايو ، هذه الحقبة جديرة بالدراسة المتعمقة ، فهناك نظام قائم ويحكم البلد ويسمي نفسه ثوريا وبدأ يساريا ثم حاول ان يجد له منظرون و منظمون ليولد الاتحاد الاشتراكي وتنظيماته ، ولعل ضعف مايو وفشلها في استقطاب الناس هو الذي دفع النميري للتحالف مع الإخوان المسلمين . وكان يعد هذا التحالف مرحليا ليتفرغ لمنازلة من يعتبرهم الخطر الأول وهم احزاب الطائفية . فحسبها حسبة خطأ حيث ظن انه بالتحالف مع الإخوان سيضعف هؤلاء الخصوم ، ولكنه كان كمن يربي الثعابين في بيته .
لا يمكن لوم الانتهازي اذا اخذ الفرصة من غافل ، لقد كانت اكبر عملية انتهازية في وضح النهار سلب فيها الاخوان المسلمين مفاصل السلطة والنميري يظن انه لازال متحكما في الأمر ، في تلك الحقبة استولى الاخوان على مرافق مالية مهمة وسيطروا عليها تماما كقطاع البنوك والاستثمار ثم كان انتشارهم وتمددهم داخل الجيش والقوات الامنية وكله تحت غطاء من التزلف لنميري ومن حوله ، حتى انهم نصبوه اماما للمسلمين وقائدا للصحوة الاسلامية الكبرى ، لم يستمع النميري للمشفقين وللمخلصين الذين نصحوه ان يحذر من هؤلاء ولكنه ، كان واثقا من نفسه لدرجة الغفلة .
كل ما تم في خلال تلك الفترة كان مخططا له بالكامل ، وقد خدمتهم الظروف في ذلك خدمة عظيمة ، لان التخطيط كان ان يتم في مرحلة ما تقويض النظام المايوي من الداخل والسيطرة عليه بالكامل عندما تحين الفرصة .
لقد تنبه النميري بعد فوات الاوان ولعل من هذه الظروف ان يمرض ويذهب للعلاج في امريكا في ظرف دقيق جدا . فهو كان مطمئنا جدا بعد ان كشف الاعيب الاخوان فوضع قياداتهم في السجن وعلى راسهم عرابهم الترابي ، لكن سقوط مايو كان قاب قوسين او ادني وهنا لعبت عضويتهم في الجيش لعبتها وكان " انحياز الجيش للشعب " هكذا سموه ، ومهما قيل عن سوار الذهب لكنه لم يقم باكثر مما هو ممكن له ، وترك الباقي لاخوانه ليتموه فيما بعد .
فلو كرمه الكيزان وجعلوه على راس مؤسسة من اكبر مؤسساتهم فليس هناك ادني شك في انه خدمهم اكبر خدمة باطلاق رصاصة الرحمة على نظام مايو ، سواء اكان سوار الذهب منهم او متعاطف معهم ؟ فهذا لا يهم الآن .
المهم أن الترابي وصحبه خرجوا منها كما تخرج الابرة من العجين ، بل وقاد حزبه بكل صفاقة وجراءة في انتخابات الديمقراطية الثانية ، ورغم سقوطه الداوي في دائرة الصحافة فقد فاز احد مساعديه الكبار في الدائرة المجاورة في امتداد الدرجة الثالثة والعشرة .
لقد كان هذا الفصل مخططا له من قبل الاخوان واستعدوا له بكل الطرق ، فالمال الذي كونوه وجمعوه ايامهم في مايو كان حاضرا لشراء الزمم و شعارات الاسلام تملأ الدنيا و التخوين والتكفير واغتيال الشخصيات كلها حاضرة في اكبر عملية خم وتجييش عرفتها البلاد .
وجاء ترتبهم الثالث بعد الحزبين التقليديين ، نتيجة طيبة إلا انها لم ترض الطموح ولا التطلع الى اعلى .
لم يكن من الممكن الانقلاب عسكريا على مايو ، وتجربة الحزب الشيوعي لازالت ماثلة ، والكيزان اجبن من ان يواجهوا بهذا الشكل . أما الانقلاب على الحكم المدني فيحتاج للخبث و التنظيم الجيد داخل الجيش و تحين الفرصة المناسبة .
اما الخبث والتصنع فهذا عملهم وتلك طريقتهم ، لذا ظلوا يشاركون في كافة المؤسسات الديمقراطية وبكثافة لأخر يوم قبل الانقلاب. لذر الرماد في العيون قاد هذا المخطط نائب العراب بنفسه من داخل البرلمان . وفي الخارج ملأوا الدنيا ضجيجا بفشل الحكومة الديمقراطية , ولعبوا اخبث دور في التضييق على الناس في معاشهم . فامتدت صفوف الخبز والبترول و الغاز ، لقد خنقوا الاقتصاد بما حازوا عليه ايام النميري . لم ير الناس في تاريخهم القريب مثلما رأوا في تلك الأيام .
كان الناس يتتبعون اخبار وصول البواخر من بوتسودان حتى تصل محطات الوقود ، وكان الخبز شبه معدوم ، واللحم غلا سعره ولم يصل من المواشي لاسواق الخرطوم منها شيء لانعدام الجازولين حتى اضطر وزير التجارة دكتور ابو حريرة لاستيراد الكباش من استراليا لعيد الاضحى ، تخيل هذا في بلد هو الاول في تربية الحيوانات اللاحمة . كل هذا في سبيل وصول الكيزان اللئام للسلطة . وتهيئة للانقلاب الذي مهدوا له الارض جيدا ، حتي قال النائب الاتحادي ذو الصوت الجهور " لو ان كلبا اخذ السلطة اليوم ما قال له احد جر"
وفعلا جاء الكلب واخذها ولم يقل له احد " جر "
ونواصل إن شاء الله
zahidzaidd@hotmail.com