الإسفاف في حياتنا الصحفية والسياسية … بقلم: محمد عثمان إبراهيم

 


 

 

 

moibrahim@aol.com.au

 

يحكى أن روبرت موغابي رئيس زيمبابوي الحالي كان في زيارة لتنزانيا (قبل توليه السلطة) إبان عهد صديقه الراحل جوليوس نيريري وأنه جاء لمقابلته في مكتبه فوجد عنده السفير البريطاني فانتظر حتى خرج السفير ثم دعاه نيريري للدخول والجلوس. نظر موقابي إلى الكرسي ثم قال لنيريري " لو كنت تعتقد إنني سأجلس حيث كانت تجلس تلك المؤخرة الضخمة فأنت لا تعرفني" والعبارة في غاية الإسفاف والبذاءة إذا تمت ترجمتها من اللغة الفصيحة إلى لغة الشارع سواء بالإنجليزية أو العربية. وموغابي (أعانه الله) ليس الرجل الذي يكترث للسانه فقد وصف عام 2003 رئيس منظمة دول الكومونولث حينذاك ورئيس وزراء أستراليا جون هوارد بأنه معدل جينياً بسبب سلالة المجرمين التي ينحدر منها. لكن كما يقولون فإن (التقيل ورا) وإن إسفاف موغابي يعتبر كلاماً رقيقاً ومهذباً إذا ما قورن بمستويات (خطاب) إنحدر إليها زعماء آخرون حول العالم مما يصعب كتابته إلا بلغة معامل (الاخوين أنيس وخورى عبيد) التى كانت قد تخصصت لسنوات طويلة فى ترجمة الافلام السينمائية الى العربية بطريقة اعتمدت على تطهير الأفلام الأجنبية من الإسفاف والإبتذال وقررت الإستعاضة عن التعابير السوقية التي ترد فيها بمفردات من على شاكلة (اللعنة... تباً لك وغيرها). سنعتمد في هذا المقال على مدرسة أنيس وخورى عبيد ذاتها !

في عام 2004 كان نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني (الرئيس السابق لشركة هاليبرتون الضخمة) يستعد لالتقاط الصور التقليدية مع كبار أعضاء الكونغرس حين وجه إليه السناتور الديمقراطي المرموق باتريك ليهي إتهاماً بأنه ساعد شركته القديمة على الفوز بعطاءات رابحة ضمن عقود إعمار العراق فرد عليه تشيني بعبارة بذيئة جداً ذات محمول جنسي (شوارعي) لو وقعت في يد معامل أنيس وخوري عبيد لأبدلاها ب"إذهب وصب اللعنة على نفسك" !

هاج الديمقراطيون وماجوا وحاولوا محاكمة تشيني بتهمة إهانة الكونغرس (Contempt of Congress) لكنه لم يكن تحت القبة وإنما كان في صالة خارجية ولم يكن حديثه مسجلاً في المضابط. إنتشر خبر إساءة تشيني للسناتور في وسائل الإعلام الأمريكية خصوصاً وفي اليوم التالي صرح ناطق باسم تشيني أنه حدث "تبادل صريح للآراء" بين الرجلين. الأمريكيون يعرفون كيف يستخدمون التعابير الملطفة والكنايات (Euphemism).

وفي الولايات المتحدة نفسها إعتذر منذ أيام قليلة المرشح لمنصب مستشار الرئيس فان جونز عن كلمة نابية وصف بها أعضاء الحزب الجمهوري.

الكوماندانتا فيدل كاسترو ، القاريء النهم، وصف رئيس وزراء اسبانيا إبان بدء الحرب الأخيرة على العراق )خوسيه ماريا أثنار) بأنه (سلستينا) أي أنه قواد في إشارة إلى القوادة سلستينا، بطلة إحدى روايات الكاتب الإسباني فرناندو دي روخاس التي كانت تمتهن القوادة من أجل دفع الرجال إلى ارتكاب الخطايا.

في محيطنا العربي ، تحفظ الذاكرة للزعيم الراحل جمال عبدالناصر مناداته لملك الأردن الراحل الحسين بن طلال باسم والدته السيدة (زين الشرف) حتى كادت إذاعة صوت العرب أن تتخذ للملك إسم (الحسين بن زين) إسماً رسمياً له وهو ما يمكن إعتباره إهانة وفق المنطوق به علناً في الثقافة العربية. لكن عبد الناصر لم يكن مثل وزير الدفاع السوري الأسبق العماد مصطفى طلاس الذي وجه مرة إهانات ما زالت راسخة في ذاكرة الفيديو والإنترنت للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ووصفته بأنه مثل راقصات التعري وإنه كان يجلس كالكلب والقط بين ستين ألف كلب وستين ألف كلبة وستين ألف (...) في البيت الأبيض.

      وفي السودان نشرت جماعة تدافع عن زعيم سياسي (آفل) بياناً إتهمت فيه صحافي مشاغب بتهم مقذعة فما كان من الصحافي إلا أن رد على البيان بمقال وجه فيه شتائم نابية ضد الزعيم حتى كاد يلقى حتفه بسيارة مسرعة ترصدته فنجا منها.

      وقبل سنوات عدة وصف سياسي مرموق الصحافة السودانية بعبارة نابية في حديث للأستاذ/ عثمان ميرغني الذي نقلها- دون وجل- في عموده الرائج (حديث المدينة) الذي كان يكتبه في صحيفة السوداني.

      أما الصحافة الرياضية فقد عاثت في الأرض –ذات حين –فساداً وشوهت المهنة باستخدامها لأساليب غاية في الإسفاف ضمن (حرب المهاترات) بين الزملاء حتى أعمل مجلس الصحافة والمطبوعات مبضعه في جسدها فخفف من درجة الإسفاف وإن لم يقض عليه تماماً وما زالت الصحف تترى كل حين وآخر بنشر عبارات تشنف الآذان والأعين وتسيء إلى الذوق العام والأدب.

صحفي آخر إعتاد على العبارات البذيئة في خطابه من على شاكلة مؤخرة ويتبول وإستخدام العبارات التي تطعن في سلوك الناس في غرف نومهم وقد رصدنا الكثير من كتاباته فساءنا ما وجدنا فيها. إستمعت إليه منذ شهرين او يزيد قليلاً في التلفزيون القومي وهو يتحدث عن الجمال في القرآن الكريم ووجدت نفسي أستمع إلى رجل لطيف الحديث، بسوم ، واسع المعرفة ، طلي العبارة وخطير جداً كأخطر ما يكون الموهوبون. خطرت ببالي عبارة أسر بها دبلوماسي أمريكي سابق للكاتبة الأمريكية المتخصصة في الشئون الأفريقية (شانا ويليس) في وصف المحارب الأنغولي الراحل جوناس سافيمبي الذي التقاه حوالي 25 مرة. قال الدبلوماسي أنه في كل مرة ينتهي من لقاء مع الرجل يشعر أنه كان في حضرة (شيطان نقي) موضحاً أن سافيمبي " كان جذاباً جداً وذكياً وبين العبارة وخطير" لدرجة أنه كان يبرمج أذهان ضيوفه فيتصورون أن رؤيته هي الصحيحة !

كاتب آخر ظل يسود الصحائف بمقالاته العنصرية والعدائية ضد جماعات مختلفة من أبناء الوطن في شماله وجنوبه واستعان ضمن كتاباته الماسخة بقاموس من الشتائم يطبع جميع كتاباته ولعل عبارة (الدعارة السياسية) تكاد تلتصق بعموده الشهير، وهي بالطبع عبارة نابية وبذيئة، ولن يغير من معناها شيء أن تكتب باللغة الفصحى، فهي تحمل نفس الدلالة سواء قيلت بالفصحي أو بالعامية، لكن مجلس الصحافة والمطبوعات لا يحاسب على ما يرد باللغة العربية الفصحى.

منذ أسابيع قليلة نشرت في الخرطوم وفي عدد من المواقع السودانية على شبكة الإنترنت إفادات صحفي سوداني معارض وصف فيها طائفة من المثقفين بممارسة ما أسماه ب(البغاء السياسي) وقال –من حيث يحسب أن لعبارته طلاوة- إن هؤلاء المثقفين –ممن عناهم –يغيرون ولاءاتهم وأحزابهم السياسية مثلما يغيرون "ملابسهم الداخلية" (يا سلام !) لم يخطر ببال الصحفي المخضرم أي تشبيه آخر سوى هذا لتكتمل الصورة. من الواضح أن إختيارالصحفي للعبارة لم يكن زلة لسان جانبه فيها التوفيق وإنما نحسب ان الرجل كان يحرص على طرح فكرته وتحميلها معاني الرفض والإحتقار بإستخدام مثل هذه المفردات ذات الدلالات العجيبة.

كتب الوزير الأديب عبد الباسط سبدرات الكثير من الشعر والنثر لكن الذاكرة الصحفية حفظت له عبارته المتوحشة " أنا لا أبصق على تاريخي" فصارت كما الشبح يطارد روح الرجل كلما حل ذكر له. لم يعد الكثيرون يذكرون الآن (عشان خاطر الفرح ) و (إتكاءة على حد السكين ) و(أنت بعيد) وتناسى البعض من كتب للبلابل ( رجعنالك وكيف ننكر رجوع القمرا لوطن القماري) لكنهم حفظوا العبارة النابية. وبعد سنوات طويلة على سك العبارة، قام الأستاذ على محمود حسنين نائب رئيس الحزب الإتحادي الديمقراطي بتضمينها (قسراً) في بيان اصدره رافضاً لاحتمالات التحالف مع حزب المؤتمر الوطني الحاكم. قال حسنين "ان من يفعل ذلك يكون قد بصق علي تاريخ الحزب و إرثه النضالي" وقد لاحظت أن غالبية الصحف اليومية الصادرة في الخرطوم –بما فيها صحيفتنا هذه- قد قامت بإعادة صياغة مفردات البيان مسقطة منه العبارة إياها. وبغض النظر عن توحش العبارة وفحشها فهي أيضاً عبارة مرعبة مرهبة حيث أنها تحدد مكاناً واضحاً لكل من تسول له نفسه التفكير في التحالف مع المؤتمر الوطني، وهي بهذا تصادر حق الحزب أو قادة الحزب على الأقل في تحريك مواقفهم. ذكرتني عبارة الأستاذ/ علي محمود المنحولة عبارة عجيبة تناقلتها وسائل الإعلام المصرية عن زعيم حزب الأمة (المصري) الراحل الحاج أحمد الصباحي ، الذي ترشح ضد الرئيس مبارك في إنتخابات رئاسة الجمهورية الأخيرة. قال الحاج الصباحي إن من ضمن بنود برنامجه –إذا قدر له الفوز- "إنهاء الإغتصاب السياسي" ولم يعرف أحد –فيما أعلم حتى الآن- معنى العبارة إذ لم يكن هناك أحد –عاقل- يشغل نفسه بفهم الصباحي الذي كان يوزع عدة حلاقة للشباب باسم حزبه ويخطط لإعادة إلزام المصريين بلبس الطربوش، غفر الله له ورحمه.

وفي الآونة الأخيرة نشرت إحدى الصحف اليومية في الخرطوم سلسلة مقالات تمثل نموذجاً –لا يمارى- في الخصومة وبالرغم من أن المقالات تشي بأن المعنيين بالسلسلة هم من المنافقين بحكم أن عناوين السلسلة حملت عنوان " إذا حدث كذب" وهو مجتزأ من حدث الرسول (ص) عن آيات المنافق فإن الكاتب لا بد تجاهل " وإذا خاصم فجر" التي تروى كجزء آخر من نفس حديث النبي الكريم. حملت المقالات إساءات بالغة تجاوزت نقد العام إلى التجريح الشخصي من على شاكلة أن فلاناً قضى جل عمره في تنظيم شئون الأماسي وغير ذلك! لكن حتى نكون منصفين فإن كاتب هذه السلسلة لم يكن الباديء الأظلم وإنما انجر إلى هذا الجدل المسف بواسطة خصومه، وبالرغم من أن سلسلته الثلاثية تجاهلت الإحالة إلى أي مصادر من تلك التي يقوم بالرد عليها، فقد تبين لنا بشيء من البحث أن خصوم الكاتب في الحزب الصغير فجروا هم أيضاً في الخصومة، وكالوا الإتهامات للناس بالعمالة، وبيع القضايا الوطنية، وتلقى الرشا، والكذب، والإفلاس الأخلاقي، والإحتواء على نفوس مريضة ... لاحول ولا قوة إلا بالله. ال(حق) إن هذا الجدال الحزبي الصغير مثير للأسى والغثيان.

لسنا بحاجة للكثير من الأمثلة للتدليل على أن الأمر مستفحل وإن حاجة صحافتنا إلى معايير وحدود دنيا للنشر أمر مهم، سواء جاء ذلك عن طريق المبادرات الخاصة للصحف أو عن طريق إصدار القوانين اللازمة والنظم. صحيح أن غالبية صحفنا اليوم لا تصدر عن مؤسسات راسخة ذات تقاليد مهنية يعتد بها، كما إن غالب هذه الصحف لا تصدر برساميل ضخمة تمكنها من الإعتماد على مواردها البشرية الخاصة لإنتاج صحيفة جيدة مع شح الإعلان، وعدم وجود ضوابط قانونية لضمان عدالة توزيعه، وضعف الإمكانات الطباعية لغالبية هذه المؤسسات. لذا فإن غالبية الصحف تلجأ كثيراً لإعتماد على مساهمات المتعاونين أوالقراء في بعض الأحيان، وهذه مساهمات تأتي في غالبها دون إلتزام بالحد الأدنى للمعايير المطلوبة، أو دون دراية بها، وقد شهدنا في كثير من الأحيان داخل كواليس الصحف مقالات يطلب البعض نشرها،وهي من على شاكلة المقالات التي تودي بصاحبها إلى السجن وتختم على قلب الصحيفة التي تنشرها-إن تجرأت- بالشمع الأحمر. في أحيان قليلة تتسرب بعض هذه المقالات وتجد طريقها للنشر فيحدث ما لايحمد عقباه.

***

سوق الصحف سوق مزدهرة في السودان وقابلة للتوسع بإستمرار رغم (شكاوى) الناشرين وكتمانهم عن الحديث بنعمة الله التي يجنونها في غالب الأحيان، والدليل على ذلك وجود هذا العدد الكبير من الصحف التي تصدر الصحف هي الأخرى. فلو لم يكن الأمر مجدياً لأحجم الناس عنه وتحول أصحاب الرساميل عنه إلى عمل آخر لأن الإلتزام الأول بالنسبة لصاحب المال-وفق ما نعرف- هو تجاه ماله وزيادته، وليس نحو شيء آخر. فإذا توفرت التجارة الرابحة التي تزيد المال وتأتي بالنفوذ معه فقد ربح البيع، ويا للكسب ! ومادم الأمر كذلك فإن على أصحاب الصحف واجبات تجاه المجتمع ينبغي عليهم الإلتزام بها مقابل ما يحصلون عليه من حقوق وما يتجاوز الحقوق، وأول هذه الإلتزامات إنتاج صحافة ملتزمة ترتقي بعقل وروح ووجدان القاريء ولا تنحدر به.

لكن الأمر لا يقع فقط على عاتق الناشرين فهناك عبء آخر على عاتق المؤسسات الصحفية ذات الصلة، مثل مجلس الصحافة والمطبوعات وإتحاد الصحفيين، الذين ينبغي عليهما الدفع باتجاه التأسيس لصحافة راقية وملتزمة ورفيعة المستوى، وذلك سواء عبر التدريب أو إصدار اللوائح المنظمة أو توفير الملاحظات (Feedback) للصحف بشكل دوري، كأن يصدر المجلس أو الإتحاد نشرة أسبوعية /يومية توزع على الصحف وتحمل رأي الإتحاد فيما ينشر. إضافة لذلك فإن الحاجة إلى التشجيع ضرورية وقيام المؤسستين المشار إليهما (إحداهما أو كلاهما) بعمل تقييم لما تنشره الصحف ومنح المؤسسات الصحفية والعاملين (بشكل جماعي وفردي) جوائز لا تشترط فيها القيمة المادية، وإنما صرامة المعايير المهنية والبعد عن المجاملات، سيضيف بعداً إيجابياً لمناخ المهنة التي تأخذ من العاملين بها الكثير من الجهد والعرق.

هناك حاجة للتشجيع داخل المؤسسات الصحفية نفسها ولست أجد نفسي هنا مبتدعاً لو إقترحت على هذه المؤسسات التخلي عن تشجيع العاملين فيها بمنحهم فرص السفر في الداخل أو في الخارج، ولكن بتشجيعهم بطريقة محترفة نحو أن يمنح مجلس الإدارة في كل صحيفة شهادة (لأفضل صحفي خلال الشهر مثلاً) إعترافاً بسبق حققه أو قضية مهمة قام برصدها والتحقيق فيها أو مقالاً كتبه فأسهم في رقي المجتمع وتنويره. إن هذا النوع من الإقرار بالفضل وتقديم الشكر بطريقة محترفة هو مما تحتاج إليه صحافتنا حتماً، على أن يتم ذلك وفقاً لمعايير شفافة وصارمة وحينها سنجد الكثير من الصحفيين والكتاب والمصححين والمخبرين الصحفيين وغيرهم، وهم يضعون بفخر إنجازاتهم تلك في سجلاتهم المهنية وسيرهم الذاتية، وستكون تلك الإنجازات هي المعيار إذ لا فضل لصحفي على صحفي إلا بسجله المهني.

(عن الأحداث)

 

 

آراء