الإسلام السوداني ومبادرة كدباس

 


 

 

 

جاءتني حادثة تلاوة الاستاذة آمنة حيدر للقرآن في مناسبة ذكرى الأستاذ محمود محمد طه، وأنا غارق في تأليف كتاب جديد بالعنوان أعلاه لكي تؤكد لي الفهوم الخاصة للسودانيين لدينهم، برزت فكرة الكتابة عن الإسلام السوداني بعد متابعة دقيقة لإسهامات المفكر التونسي عبد المجيد الشرفي فقد أصدر سلسلة من الكتب تحت عنون (الإسلام واحداً ومتعدداً) باعتبار أن الإسلام كعقيدة هو واحد ولكن الممارسات متعددة. وهذا مدخل أنثروبولوجي جديد لدراسة الدين الإسلامي. لأن توصيف وتحليل أي دين يعتمد على عاملين أساسيين. الأول طريقة دخول الدين والقوى الاجتماعية التي قامت بالمهمة والعامل الثاني هو تفاعل الدين القادم الجديد مع الواقع والثقافات المحلية التي ينتشر فيها أي أشكال التاثير والتأثر المتبادلين. ومن هنا جاء اختلاف ممارسات وتجليات الإسلام داخل القطر الواحد حسب الفروق الإثنية والجغرافية والتاريخية والاقتصادية.

صدر من السلسلة المذكورة عدد من الكتب منها على سبيل المثال: الإسلام الآسيوي للدكتورة آمال قرامي، والإسلام السني للأستاذ بسام الجمل، إسلام الأكراد د. تهامي العدولي، إسلام الفقهاء للأستاذ نار حمامي والإسلام الأسود للاستاذ محمد شقرون ركز فيه على الإسلام جنوب الصحراء.. وللدكتور عبد المجيد الشرفي نفسه كتاب عنوانه: (الإسلام بين الرسالة والتاريخ) بيروت دار الطليعة 2001، يشرح فكرته عن تعددية الإسلام من خلال متابعة تاريخ الرسالة وتنوعها وانقساماتها إلى مذاهب وفرق دينية ودول مختلفة. وللكاتب مكسيم رودنسون كتاب عنوانه (الإسلام – سياسة وعقيدة) ترجمة أسعد صقر. بيروت. دار عطية 1996م – له نفس مقاربة الشرفي للموضوع من مدخل آخر.

ومما حفزني أكثر لكتابة هذا المقال ليس حادثة ترتيل القرآن ولكن مبادرة كدباس للشيخ الجعلي. وهذا أيقظ في ذهني علاقة السياسة والدين في الإسلام السوداني وعدم وجود تخصص وتقسيم عمل في المجالين ضمن الإسلام السوداني حيث يقحم المتصوفة ورجال الدين أنفسهم في الحياة السياسية كقادة ومرشدين وليس مجرد مواطنين عاديين، يقدمون النصح والإرشاد بطريقة لا تاريخية حسب شطحات الذهن الصوفي، المتعالي على الواقع الحي. فقد تميز الصوفي السوداني بالزهد والورع والبعد عن ملذات وصراعات الدنيا الفانية.

تسربت الدعوة الإسلامية إلى بلاد السودان من خلال القبائل العربية المهاجرة وللهجرة دائماً أسبابها السلبية التي تجبر المرء على ترك وطنه أو داره، لذلك لم تكن هذه القبائل التي أتت إلى السودان من المجموعات المتميزة في وطنها الأصل. كما أن الإسلام في البداية لم ينتشر عن طريق العلماء والفقهاء بل عن طريق التجار والرعاة. كذلك من الملاحظ من الناحية التاريخية أن الإسلام لم يدخل إلى السودان في فترة ازدهار وصعود الحضارة الإسلامية بل على العكس في فترة شهد فيها العالم الإسلامي كثيراً من النكسات والهزائم خاصة بعد القرن الحادي عشر الميلادي حين تحطمت بغداد عاصمة الخلافة العباسية التي زالت تحت سنابك خيل التتار عام 1215م ثم كان سقوط الأندلس على يدي الفرنجة في أواخر القرن الخامس عشر. وهكذا دخل الإسلام إلى السودان في فترة تفرقت فيها كلمة المسلمين هاجر كثير من مشائخ الطرق الصوفية لدوافع مختلفة.

وكان الإسلام السوداني صوفياً وبالطريقة السودانية أيضاً لم تكن صوفية فلسفية تشغلها موضوعات مثل وحدة الوجود أو العشق الإلهي ولكن صوفية السودان يمكن أن تسمى الطرقية نسبة للطرق الصوفية التي تقدس الأولياء وتعتبر الولي الوسيط الروحي مع السماء ويحتل النبي (محمد ص) المكانة العليا والأولى في الفكر الصوفي السوداني كما تدل على ذلك المدائح النبوية والقسم بالنبي. كانت الصوفية أقرب إلى وجدان السودانيين لأنها تلبي احتياجات اجتماعية كما أنها تساعد الإنسان في إضفاء المعنى للحياة وتجيب على أسئلة ما بعد الموت. والأهم من ذلك أن التدين الوافد لم يصطدم بالثقافات المحلية ولم يحاول القضاء عليها بالقوة لذلك استمرت كثير من العادات الفرعونية والمسيحية وتعايش معها الإسلام السوداني. خاصة فيما يتعلق بطقوس الميلاد والزواج والوفاة. واستمر نفوذ الولي الروحي تسنده الأساطير والخرافات، فهناك الشيخ الذي يطير في الهواء أو يمشي على الماء أو يحيي (بغارة) بعد موتها، ويمنح الأطفال للأمهات. وكان السلاطين أنفسهم يؤمنون بهذه الخوارق لذلك حاولوا استمالة الزعماء الروحيين وكانت لهم سلطة الشفاعة عند الحكام، وكانت هذه بداية التداخل بين السياسة والدين في البلاد. وعاش السودان نوعاً من تقسيم السلطة بين السلاطين والمشائخ، ولكن المهدية كسرت هذه القاعدة حين ثارت على الحكم التركي من خلال شعارها أن يملأ المهدي الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً. وصارت الصوفية تمثل خطراً على السلطة السياسية.

تفرض عليّ شروط المقال الصحفي القفز على المراحل التاريخية وعدم الدخول في التفاصيل والإسهاب ولكن علي شرح أسباب تدخل شيوخ الصوفية الحالي في السياسة والعلماء أيضاً، فقد تغيرت العلاقات والأدوار بعد سقوط المهدية.

كون السير ونجت المفتش العام في سنة 1902م هيئة العلماء برئاسة الشيخ أحمد محمد البدوي وعضوية المشائخ: محمد عبد الماجد والعاقب الأمين وعيسى الدوليب وحاج أحمد المجذوب ومحمد الأمين الضرير وإسماعيل الولي ومحمد أحمد نور والجعلي التلب وذكرت الحكومة أن هدف الهيئة هو التعامل مع الطرق الصوفية. وكان رأي اللورد كرومر أن يقوم الحاكم العام بتقوية الإسلام السني في مواجهة الطرق الصوفية وفي باله خطر المهدية. ومن مهام الهيئة: الإشراف على تدريس العلم الشريف في جامع أم درمان والتوصية على من يعمل بالتدريس فيه، وتكون في وضع الاستشارة للحاكم العام والحكومة البريطانية في الشؤون الدينية وهي غير مكلفة بالنظر في أي موضوع من تلقاء نفسها بل ما يعرض عليها. وأن تطلع الحكومة على أي أحداث أو تطورات يهمها الاطلاع عليه.

وعقب وفاة الشيخ البدوي عام 1911م تم تعيين الشيخ أبو القاسم هاشم الذي اهتم بالتعليم الديني وافتتح المعهد العلمي بأم درمان.

وكان الهدف من كل هذه الإجراءات إضعاف نفوذ المؤسسات الدينية التقليدية القائمة، ولكن الإدارة الاستعمارية لم تنجح في ذلك لقوة نفوذ الأسر الدينية، لذلك أجبرت على التصالح معها وتحولت سياستها إلى استمالتها والتحالف معها.

(نواصل– المراجع في نهاية المقالات)

 

آراء