الإمام الحلو حوار في التاريخ والفكر

 


 

 

عندما كتبت مقال ( أبوشوك يقول المستقبل في التاريخ و العقل) وصلتني تعليقات عديدة على الإيميل و الواتساب، و اغلبية الذين علقوا على المقال يميلون لجانب الفكر دون السياسة رغم الارتباط القوي بينهما، و أحمد إبراهيم أبوشوك رجل مؤرخ إذا اتفق الناس أو اختلفوا معه. و نحترم و نقدر مجهوداته. و الخلاف في التاريخ و الفكر متوقع و يفتح مشكاة للحوار العلمي الممنهج. و كنت قد استمعت لندوة أبوشوك التي القاها في ( مركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات) و كانت ورقة بعنوان ( جذور الأزمة السياسية السودانية و تحدياتها) قد لفتت نظري مقولته "أن المستقبل في التاريخ و العقل" و قراءة التاريخ مسألة مهمة لمعرفة التجارب و الأسباب التي أدت إلي الفشل أو الإخفاق و النجاحات، و أيضا المتغيرات و تدرجات التعليم من التقليدي إلي الحديث و انتشار التعليم و اتساع و ضيق درجة الوعي التي حدثت في المجتمع، إلي جانب دور النخب السياسية و المثقفة في هذه الرحلة التاريخية و غيرها. و الفكر هو أهم أداة للتغيير، لذلك يصبح دور المفكر ضرورة في أي بلد يتطلع إلي التنمية و الصعود على عتبات سلم الحضارة، و من هنا جاءت أهمية مقولة بروف أبوشوك. و كان يجب إظهارها كفكرة تحتاج لحوار معمق حولها.
أن المقولة تذكرني برؤية الدكتور إدور سعيد حول دور المثقف في مقدمة كتابه ( المثقف و السلطة) يقول " من المهام المنوطة بالمثقف أو المفكر أن يحاول تحطيم قوالب الأنماط الثابتة و التعميمات – الاختزالية- التي تفرض قيودا شديدة على الفكر الإنساني و على التواصل ما بين البشر" إذا مهمة المثقف إذا كان ثوري أو عضوي أو تقليدي هي تفكيك القوالب الجامدة و طرح الأسئلة التي تستعصى على الأخرين خاصة السياسيين، لآن طرح الأسئلة محاولة للتفكير خارج الصندوق، و أيضا محاولة لطريقة التفكير السائدة في المجتمع التي لا تستطيع أن تنقل العملية السياسية إلي مربعات جديدة. مثالا لذلك أن خالد عمر يوسف القيادي في حزب المؤتمر السوداني رغم أنني أختلف معه في بعض ما يطرح، إلا أنه يشكل مساحة كبيرة في المشهد السياسي بسبب قدرته على طرح القضايا و بعض الأفكار في الوقت الذي يتخوف الآخرين من طرحها. و إذا نظرنا للقوى السياسية الأخرى نجدها صامته لم يخرج أي من قياداتها لكي تقدم أفكارا حول إنهاء الحرب أو فترة ما بعد الحرب، و دائما يبرز دور العناصر التي تشتغل بالفكر في فترات الأزمات، لأنهم القادرين على فتح منافذ للحوار، و هو المطلوب في الساحة السياسية لأنه يشكل وعيا جديدا.
ربما تكون المقدمة طويلة قبل الدخول في تعليق الإمام الحلو رئيس لجنة السياسات في حزب الأمة القومي و لكنها مهمة لتوضح الرؤية. و أتخذت تعليق امام الحلو محور نقاش لأنها تتضمن فكرة جديرة بالحوار و الاجتهاد الفكري.
علق الإمام الحلو لرئيس لجنة السياسات في حزب الأمة على المقال أعلاه " مقال جيد و عميق . و أبرزت رؤيتك الواعية للتارخ من خلال مطارحة ورقة بروف أبوشوك.. صدمة حرب إبريل .. جعلت بعض المثقفين يراجعون قراءة التاريخ و مكونات المشهد السياسي للسودان .ز و الاعتراف بفشل النخب المدنية و العسكرية و ليس السياسية فقط.ز في رأي أن منهج أبوشوك في ( أن حل الأزمة يحتاج إلي توصيف لجذور المشكلة) ( Root cause analysis ) عبر طرائق تفكير جديدة .. هو تكتيك جيد و عملي ..الا إني اعتقد أن أبوشوك لم يصل إلي توصيف الجذور بقدر ما قاربتها أنت خفيفا في حملة محمد على باشا .. و مرور عابر غير عميق عن دينامية الثورة المهدية.. في رأي أن أزمتنا السودانية جذورها ضاربة في التاريخ ما قبل محمد على و ورثته .. حيث المكونات الثقافية المتبادلة لكيانات سياسية متجاورة نظر إليها يوما ما الخديوي أسماعيل بارض السودان .. التحليل يبدأ من هنا في رأي.
زبدة تعليق الإمام الحلو هي السطور الأخيرة في التعليق أنها تحتوي فكرة. حيث حدد فيها جذور المشكلة في السودان و بداية قراءة التاريخ كمرجعية للأزمة السودانية يقول فيها " أن أزمتنا السودانية جذورها ضاربة في التاريخ ما قبل محمد على و ورثته.. حيث المكونات الثقافية المتبادلة لكيانات سياسية متجاورة نظر إليها يوما ما الخديوي أسماعيل بارض السودان .. التحليل يبدأ من هنا في رأي." قبل الدخول في الحوار مع فكرة الحلو. في تسعينيات القرن الماضي و في القاهرة أهداني الدكتور عبد السلام سيد احمد كتابه ( مملكة سنار) و قال إلي: الذي يريد أن يعرف أزمة السودان عليه قراءة تاريخ المملكة السنارية و عصرها و الواقع الاجتماعي و السياسي في ذالك الوقت. و هو ما يشير إليه الإمام الحلو.
معلوم تاريخيا، أن سودان ما بعد حملة محمد على باشا كان عبارة عن ممالك و دويلات و مشايخ ذات ثقافات متنوعة، و استطاع اسماعيل باشا أن يوحدها رغم أنه فطن إلي تنوعها لذلك جعل دولته مركزية لكي يسيطر عليها. و انني بالفعل تعرضت في المقال للثورة المهدية بشكل طفيف لأن الدولة المهدية في عهد الثورة استطاع المهدي أن يستقطب بدعوته قاعدة اجتماعية عريضة تمتد من شمال السودان إلي جنوبه و من شرقه إلي غربه، باعتبار أن الفكرة مؤسسة على التغيير، و إزالة الحكم الاستبدادي الذي تضرر منه جميع الشعب، لكن أختلفت الفكرة بعد سقوط الحكم التركي، حيث جاء الخليفة عبد الله التعايشي الذي اختزل قضية الحكم في السيطرة و الاعتماد على اسرته، حيث قزم فكرة المهدي و لم يستطيع الاحتفاظ باللحمة الوطنية التي تخلقت في عهد المهدي. و التحمت اللحمة الوطنية في الصراع ضد الاستعمار لكن حكم العسكر فترات طويلة للبلاد أدى إلي ضعف الأحزاب السياسية التي كان من المفترض أن تكون الأوعية الوطنية القومية البديلة للبناءات الأولية ( القبلية – العشائرية – المناطقية) و النظم العسكرية اعتمدت على ألة القمع في الحكم و ليس على اتساع الحريات و سلطة القانون، الأمر الذي أضعف الرباط القومي و أيضا البناء العدلي لذلك رجع الناس لبناءاتهم الأولية التي تشكل تهديدا الآن للاستقرار السياسي و الاجتماعي في البلاد.
أن سودان ما قبل محمد على و ما بعد سقوط المهدي كان عرضة للغذو من قبل القوى العظمة بريطانيا التي احتلت السودان من 1898م إلي 1956م و فرنسا التي حاولت الدخول في مناطق جنوب غرب السودان. و ربما تكون ذات الفكرة الآن موجودة عند الدول العظمى (الصراع على ثروات السودان و موقعه الإستراتيجي) يعني أن موقع السودان و ثرواته هي التي تشكل له تحديا كبيرا، و تزعزع استقراره، و الدول الكبرى تحاول أن تدخل من خلال هذا التنوع الكبير أن كان اثنيا أو ثقافيا. و هذه الفكرة التي يشير إليها امام الحلو التنوع و الثروات التي لم تجد الحل المرضي. و أيضا هي التي تشكل تحديا للعقل السياسي. لكن السؤال كيف تستطيع التجارب القاسية في السودان أن تنقل العقل السياسي من الأفكار الضيقة التي تتمحور حول الذات و المؤسسات الحزبية إلي فكرة بناء الوطن. و النقلة تكون عبر الحوار المفتوح بعيدا عن شعارات الإقصاء و العزل التي تحاول الأيديولوجية تجذيرها في ثقافة المجتمع، لكي تشكل عائقا للحلول السياسية. خاصة أن الغائب في القوى السياسية هو المفكر الذي يستطيع أن يخرج الخطاب السياسي من الجدل البيزنطي الذي استوطن الساحة السياسية الى افاق الفكر الذي ينقل الكل لطريقة جديدة في التفكير من خلال طرح الأسئلة، و هي التي تساعد على نمو وعي جديد في المجتمع يؤسس على احترام الأخر، و اعتبار رؤيته مكملة و ليست ضده.
أن امام الحلو لا يتعارض مع بروف أبوشوك كثيرا، لكنه يريد أن يحدد أبعاد الأزمة السودانية، و في نفس الوقت أن ينقل العقل من جدل السياسة إلي افاق الفكر باعتباره اوسع مجالا في تناول القضايا بالرجوع إلي أصولها و جذورها التي ساعدت على الصراع دون الحوار. أن أحد أسباب فشل القوى السياسية بعد ثورة ديسمبر 2018م أنها جعلت الشعارات بديلا للفكر، و لذلك عجزت أن تنزل الشعارات للواقع. أن غياب الفكر يعني غياب أهم أداة من أدوات التغيير. نفترض إذا كان هناك مفكر و اعطى فكرة للمجموعة التي استلمت السلطة أن تبدأ بانتخابات تجريبية في اختيار لجان الأحياء بالانتخاب، و لكي تدخل كل المجتمع في تمرين ديمقراطي، كانت قد وسعت درجة الوعي بالديمقراطية، و هي محاولة لترسيخ الممارسة الديمقراطية، ثم اعقبتها مباشرة بانتخابات في النقابات، هذه هي الأشياء التي تفرض على الساحة الإشارات و الرموز المدنية و تمكين ثقافتها في المجتمع دون الدخول في أي مشاكسات مع العسكر لأن العسكر بعد الانتخابات سوف يعودون للثكنات، لكن للأسف أن الفكر غاب و سيطرت الرغبات الخاصة و الحزبية على المشهد السياسي، و بدأ التفكير في السلطة و المحاصصات، و تراجعت فكرة التحول الديمقراطي، لغياب العناصر التي كان من المفترض أن تلعب دورا في تحديد اتجاهات السير. ربما نرجع نواصل في الحوار. نسأل الله حسن البصيرة.

zainsalih@hotmail.com
///////////////////////////////

 

آراء