اللغة المروية تقدم تفسيراً لأسمي الخرطوم وام درمان

 


 

 

 


من كتابي: مملكة مروي سياحة تاريخية ولغوية بين حلقات الذكر والإنداية، الصادر عن دار المصورات للنشر.
يورد ود ضيف الله في ترجمته للشيخ حمد بن عبد الرحيم المشهور بحتيك (ولد بالخرطوم وشرع في علم التوحيد على الفقيه ارباب) ويعلق يوسف فضل على هذه الترجمة بالقول (لعل هذه أقدم إشارة لمصدر عربي عن الخرطوم) ( )، ويستطرد يوسف فضل: أن الشيخ ارباب بن على المشهور بارباب العقائد هجر موضعه بجزيرة توتي قبل عام 1691م، واستقر في الغابة بين النيلين الأزرق والأبيض وهناك تدفق عليه الطلبة ومنهم خوجلي بن عبد الرحمن وحمد ود ام مريوم والشيخ حتيك وكل حفدته، وأن الشيخ بادي ود رجب مكث بها لفترة قصيرة في العام 1785م.
وسنورد هنا بعض الآراء التي تحاول تقديم تفسير لاسم الخرطوم. قال ستيفنسون ان أصلها عربي لأنه موقعها يشبه خرطوم الفيل، وأطمان كثيرون لصحة هذا الطرح حتى أن مديرية الخرطوم في بعض العهود كان شعارها خرطوم الفيل، وساندت اللغة العربية عملية الربط بين الكلمة والأنف حيث أن أنف السبع أو الفيل يسمى خرطوماً، وفي معجم العين قال الخليل بن أحمد:
خرطم: الخُرْطُوُم: الأنف.
والخُرْطُومُ: اسم لما ضم عليه مقدم الحنكين والأنف.
والخُرْطُوم: اسم للخمر لا يلبث أن يسكر.
وخَراطِيم القوم: سادتهم ومقدموهم في الأمور، قال:
منا الخَراطيمَ ورأسا علجا

وخَرْطَمْتُه خَرْطَمَةً أي: ضربت خُرْطُومُه، أو قبضت على خُرْطُومِه فعوجته.
وفي القرآن في سورة القلم تأتي الآية متحدثة عن الوليد بن المغيرة: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءاياتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (، وفسر لسان العرب ذلك بالقول:
الخُرْطومُ: الأَنف، وقيل: مُقَدَّمُ الأَنف، وقيل: ما ضَمَّ الرجل عليه الحَنَكَيْنِ. أَبو زيد: الخُرْطومُ والخَطْمُ الأَنف. وقوله تعالى: سَنَسِمُهُ على الخُرْطومِ؛ فَسَّرهُ ثعلب فقال: يعني على الوجه؛ قال ابن سيده: وعندي أَنه الأَنف واستعاره للإنسان لأَن في المُمْكن أَن يُقَبِّحَهُ يوم القيامة فيجعله كخُرْطومِ السَّبع.
وزعم البعض ان أصلها دينكاوي او شلكاوي، (كار-توم)، وأن الاسم -حسب هذه الرواية -جاء من حقب سحيقة حين كان الدينكا أو الشلك يسكنون هذه المنطقة، وان كار بلغة الدينكا تعني فرع نهر، وتوم يلتقي، والمعنى مكان التقاء فرعي النهر، لكن ضعف هذه الرواية يجيء أولاً من صعوبة الجمع بين الكلمتين بصورة منطقية، فكلمة (توم) تعني يلتقي، واللقاء يكون بين طرفين، بينما كار تشير لفرع واحد يحتاج لمن يلتقي به.
ونقطة الضعف الثانية تأتي من عدم وجود أدلة قوية على استيطان الدينكا والشلك هذه المنطقة، فمن المفترض أن يُخَلِّف هؤلاء السكان القدماء من دينكا وشلك وراءهم؛ بصورة أو بأخرى؛ تراثاً آثارياً أو لغوياً أو معمارياً أو اجتماعياً أو أدباً شعبياً ما يشير إلى وجودهم السابق، ولا يوجد شيء متوفر من هذا القبيل، والنقطة الثالثة هي: عدم وجود مسمى (كارتوم) لمدينة أو قرية في مناطق وجود الدينكا والشلك الحالية؛ مع ان المنطقة تعج بالعشرات من فروع الأنهار التي يلتقي بعضها ببعض في تلك البلاد. والنقطة الرابعة التي تنسف هذه الرواية بالكلية هي أن كلمة (كار) نفسها محرفة من الكلمة العربية (خور)، أو (كور)، لعدم وجود حرف الخاء في لغتهم، والتي اصبحت (كُار). بضمة خفيفة مع مد خفيف.
ووجود كلمة خور ضمن هذه اللغات أمر ليس بالغريب قد ظهر الكثير من التسميات العربية الصرفة أو المحرفة عنها في القرن السابع عشر في المناطق الجنوبية نتيجة لنشاط التجار الشماليين ومن ذلك بحر الغزال وبحر العرب وبحر الزراف، ولاحقا غدت اللغة العربية ذات الصبغة المحلية وسيلة التخاطب بين القبائل ذات الألسنة المختلفة وعن هذا الخليط نشأت لغة هجين سُميت (عربي جوبا). مثلها في ذلك مثل السواحلية المستخدمة في الساحل الشرقي لأفريقيا المواجه لجزيرة العرب.
وربط آخرون الخرطوم بالسمك وفسروها بأنها تشير إلى نوع منه استناداً لما أورده الإدريسي: (وفي البطيحات الصغار وما بعدها من النيل الحيوان المسمى بالتمساح وفيها أيضا الحوت المسمى الخنزير وهو ذو خرطوم أكبر من الجاموس يخرج إلى الجهات المجاورة إلى النيل فيأكل بها الزرع ويرجع إلى النيل وفي النيل المذكور سمكة مدورة حمراء الذنب يقال لها اللاش لا تظهر به إلا ندرة وهي كثيرة اللحم طيبة الطعم) ( ).
ورجح أبو سليم انها من أصل نوبي وقد ربط بينها وبين كلمة خرطم القرية الواقعة بالقرب من كلابشة، كذلك ترد فرضية أخرى تربط اسم الخرطوم بنبات القرطم (Gurtum)، والذي قيل إنه موجود بكثرة في هذه المنطقة. ويطرح يوسف فضل قولا آخر هو: (ان سكان العيلفون يسمون راس الجزيرة الكرتوب، او الكرتوم، وأميل الى الظن اننا قد نجد أصلها في هذه الكلمة، اذ أن الفرق بين الكرتوب والخرطوم ضئيل كما أن رؤوس الجزر واطرافها متوفرة عند ملتقى النيلين).
هذا القول واعتماده على رواية سكان العيلفون يبدو هو الأقرب للصحة، فالكلمة مروية وهي:
خا – آرتي - او- م، kha-arti-o-m، حسب التالي:
خا kha: كبير، عظيم، great
ارتي Arty: جزيرة (من النوبية الدنقلاوية/الكنزية)
او o: يبدأ: commence, begin
م m: يكون: to be
والمعنى الإجمالي هو (حيث تكون بداية الجزيرة الكبيرة)، أو بمعنى أخر نقطة بداية الجزيرة الكبيرة، أو رأس الجزيرة الكبيرة، والمقصود بالجزيرة الكبيرة هي المنطقة من هذا الرأس والممتدة جنوباً وتشمل معظم الرقعة الواقعة بين النيلين الأزرق والأبيض.
ويُلاحظ أن كلمة آرتي arti وهي من النوبية الدنقلاوية، انسجمت مع الجذور المروية، وأعطت معنى مفيداً، وهذا مثال آخر لوجود علاقة تداخل قوية بين اللغة المروية والدنقلاوية/الكنزية.
أم درمان
تقول بعض الروايات ان أم درمان هذه امرأة لها ابن أسمه درمان، وهما أول ساكني المكان، وهو التفسير البسيط الآتي من وجود لفظ أم وما بعدها سيكون بالضرورة ابن لها، أما التراث العربي فاسم درمان ليس غريباً عليه. جاء في المنتخب في نسل قبائل العرب للمغيري: (ومن بطون طي بنو صخر بطن من ثعل، منازلهم في تيماء وخيبر والشام، ومنهم بطون بنو هرماس بطن من جذيمة طي، وبنو عمرو بطن من درمان من طي).
وجاء فيه ايضاً: (ومن بطون بكيل أرحب بن مالك بن معاوية بن صعب بن درمان بن بكيل. وهم الذين تنسب إليهم الإبل الرحيبة)، ويقول المسعودي في ذكر ملوك مصر بعد الطوفان: (أجمع اهل مصر أن أول من ملك مصر بعد الطوفان مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام وذلك بدعوة سبقت له من جده، والسبب في ذلك أن فيلمون الكاهن سأل نوحاً أن يخلطه بأهله وولده، وقال له: يا نبي الله إنني تركت أهلي وولدي فاجعل لي رفقة أذكر بها بعد موتي، فزوج عليه السلام مصرايم بن بيصر بن حام بنت فيلمون، فولدت له ولداً فسماه فيلمون باسم جده. فلما أراد نوح عليه السلام قسمة الأرض بين بنيه، قال له فيلمون: ابعث معي يا نبي الله ابني، حتى أمضي به الى بلدي وأظهره على كنوزه، وأوقفه على علومه وأفهمه رموزها، فبعثه مع جماعة من أهل بيته، وكان غلاماً مراهقاً.
فلما قرب من مصر بنى له عرشاً من أغصان الشجر، وستره بحشيش ثم بنى له بعد ذلك مدينة في الموضع بنفسه وسماها درمان أي باب الجنة وزرعوا وغرسوا الاشجار. وكان بين درمان الى البحر زروع وأجنة وعمارة، وكان القوم الذين كانوا مع مصرايم جبابرة، فقطعوا الصخور وبنوا المصانع والمعالم، وأقاموا في أرغد عيش) ( ).
حسب هذه النصوص لدينا درمان ابن لامرأة كانت أول من سكن في الناحية، ودرمان بطن من طي ودرمان ابن لبكيل، ودرمان مدينة بناها فليمون ومعه الجبابرة ومعناها باب الجنة.
لكن اللغة المروية تعطينا معنى مختلفاً للكلمة عن المعاني السابقة، ولنصل للمعنى المروي يمكن الاستفادة من المقطع o-m (اوم) الوارد في نهاية الخرطوم، والذي كان مضافاً إليه، ليكون هو مقطع البداية لام درمان، ويصبح هنا مضافاً، فيكون أصل كلمة ام درمان كالتالي: اوم-اتو-رمان،
O-m-ato-rm-an
اوم om: نقطة بداية، رأس كما هي في الخرطوم.
اتو ato: ماء
رم rm: يلامس، يجاورtouch:
ان an أداة جمع: plural suffix
وقدم قاموس ماريام ويبستر ( ) عدة معاني لكلمة (touch)، يلامس، منها:
To meet without overlapping or penetrating
أي الالتقاء بدون تداخل او اختراق، ومن هنا يكون المعنى العام لكلمة ام درمان هو: مياه نقطة الرأس غير المتداخلة او غير الممتزجة، أو التقاء المياه دون أن تتداخل عند الرأس، إشارة لالتقاء النيلين وبقاء ماء كل نهر على حالها دون تمازج لمسافة مكانية معينة. وأداة الجمع (an) تشير لمياه النهرين لعدم وجود أداة للتثنية في اللغة المروية. وحسب هذا الوصف فإن اسم ام درمان يشمل الضفتين الشرقية والغربية بطول امتداد هذه الظاهرة الطبيعية. وهذا يعني أن الخرطوم بحري؛ إنما هي ام درمان الشرقية.
وقد رصد الاسواني هذه الظاهرة ونقلها عنه المقريزي: (ويجتمع هذان النهران الأبيض والأخضر عند مدينة متملك بلد علوة ويبقيان على الوانهما قريباً من مرحلة ثم يختلطان بعد ذلك وبينهما أمواج كبار عظيمة بتلاطمهما قال وأخبرني من نقل النيل الأبيض وصبه في النيل الأخضر فبقي فيه مثل اللبن ساعة قبل أن يختلطا) ( ).
وقد تطور نطق الاسم من اوم-اتو-رمان بتحريف اوم إلى أم، واتورمان، إلى تورمان، ثم دُرمان، وأخيراً أصبح الاسم أم دُرمان.


nakhla@hotmail.com

 

آراء