الارتباك في التعامل مع منظمة إيقاد بين البرهان والبشير (4/4)

 


 

 

د. سلمان محمد أحمد سلمان*

1
ناقشنا في المقالين الأول والثاني من هذه السلسلة من المقالات الارتباك والتخبط الذي تعامل به البرهان ومجموعته الإسلامية مع مبادرة الإيقاد لحل مشكلة الحرب في السودان. أوضحنا أن البرهان هو الذي سعى إلى وساطة إيقاد ثم عاد ليرفضها ويعلن أن وساطة الإيقاد "لا تعنينا." ورغم إعلانه الرفض لأي دور خارجي فقد سافر البرهان إلى عددٍ من الدول، من بينها الجزائر، وطلب وساطتها لحل مشكلة الحرب الدائرة في السودان. ثم عاد الحديث عن منبر جدة مرةً أخرى، ليطغى عليه لقاء منبر المنامة بين وفدي الجنرالين المتحاربين.

2
وأوضحنا في المقال السابق الارتباك والتخبط الذي تعامل معه البشير في مسألة الوساطة لحل قضية جنوب السودان، بدءاً بإثيوبيا التي تخلّى البشير عن وساطتها قبل أن تبدأ. لجأ البشير إلى وساطة نيجبريا التي اكتشفت عدم جدية حكومة البشير في رفضها لمبدأ حق تقرير المصير الذي كانت قد وافقت عليه قبل أشهر قلائل في فرانكفورت. كما اكتشفت نيجيريا الارتباك والتخبط الكبير الذي صاحب ذلك الرفض، فغسلت يديها من المبادرة.
عاد البشير وسافر بنفسه إلى أديس أبابا في شهر سبتمبر عام 1993 ليطلب فتح ملف وساطة إثيوبيا. لكن إثيوبيا (التي أغضبتها طريقة التعامل مع وساطتها السابقة) اقترحت منظمة إيقاد بديلاً لها كوسيط لحل قضية جنوب السودان. وبالفعل فقد قام البشير بالاتصال برؤساء دول وحكومات الإيقاد ليحثّهم على تبنّي الإيقاد للوساطة بين حكومته والحركة الشعبية لحل قضية جنوب السودان.
أوضحنا أيضاً أن قبول دول الإيقاد القيام بالوساطة في النزاع السوداني تم بناءً على طلب وإلحاح الرئيس البشير، وأن الإيقاد فوّضت لجنة رباعية، في شهر يناير عام 1994، تكوّنت من كينيا ويوغندا وإثيوبيا وإريتريا للقيام بهذا الدور. وقد اتفقت هذه الدول أن تكون كينيا مقراً لوساطة الإيقاد، وأن يشرف عليها رئيس جمهورية كينيا السيد دانيال أراب موي بنفسه. وقد وافق طرفا النزاع السوداني على ذلك.

3
دارت جولة المفاوضات الأولى في وزارة الخارجية الكينية في 21 مارس عام 1994. كان وفد الحكومة السودانية مُصرّاً على أن أن يتركز التفاوض على مصادر التشريع في السودان واستثناء الولايات التي بها أغلبية غير مسلمة من تطبيق الشريعة الإسلامية، ومسائل تقسيم الثروة والوضع الدستوري. من الجانب الآخر كان رأي جناحي الحركة الشعبية لمفاوضات إيقاد أن تتركز المفاوضات على حق تقرير المصير والاجراءات الانتقالية التي ستسبق الاستفتاء. وزّع وفدا الحركة الشعبية صورةً من إعلان فرانكفورت إلى سكرتارية الإيقاد وإلى أعضاء الوفد الحكومي ليحسما مسألة وجود وإلزامية الإعلان على حكومة البشير حتى لا تتكرر مسرجية أبوجا.
استمع الوسطاء للأطراف الثلاثة وقرّروا إنهاء الجولة الأولى لإجراء مزيدٍ من التشاور، على أن تُعقد الجولة الثانية من المفاوضات في شهر مايو عام 1994.
في تلك الأثناء اتصلت سكرتارية الإيقاد بعددٍ من الدول المانحة للمساهمة المالية في تغطية تكاليف التفاوض، والتي شملت تكلفة إقامة الوفود في الفنادق، وايجار قاعات الاجتماعات، وتكاليف السكرتارية والطعام والمشروبات. وقد قرّرت مجموعة من الدول شملت بريطانيا وهولندا والنرويج والولايات المتحدة إرسال مراقبين للمساعدة في دفع المفاوضات. وساهمت كلٌ من تلك الدول مالياً في تغطية تكلفة المفاوضات كاملةً، شاملةً نثريات أعضاء الوفدين، وأصبح يُطلق على هذه الدول "مجموعة أصدقاء الإيقاد."

4
بدأت الجولة الثانية لمفاوضات الإيقاد في 18 مايو عام 1994. كرّر كل طرفٍ من أطراف التفاوض موقفه السابق، وبعد نقاشٍ استمر طوال اليومين الأولين أصدرت لجنة الوساطة مسوّدة لما اسمته "إعلان المبادئ." شمل الإعلان عدّة نقاط أهمها أن النزاع في السودان لا يمكن حلّه عسكرياً، لأن الحلّ العسكري لن يحقق سلاماً قابلاً للاستمرار. كما تضمّن الإعلان تأكيد حق مواطني جنوب السودان في تقرير مصيرهم عبر الاستفتاء، مع إعطاء الأولوية لوحدة السودان، وقيام دولة علمانية وديمقراطية تسود فيها حرية الاعتقاد والتعبّد، وفصل الدين عن الدولة. شمل إعلان المبادئ نصوصاً عن التفاوض حول الترتيبات للفترة الانتقالية وإجراءات وقف إطلاق النار. من الواضح أن مبادرة الإيقاد قد انبنت تماماً على حق تقرير المصير الذي تضمنه إعلان فرانكفورت، رغم محاولات وفد حكومة البشير التنصل منه.
دار نقاشٌ مطول بين الأطراف الثلاثة مع سكرتارية المؤتمر المكوّنة من وزراء خارجية الدول الأربعة (كينيا ويوغندا وإثيوبيا وإريتريا). أقرّت السكرتارية مسودة إعلان المبادئ التي صدرت في 20 مايو عام 1994، في اليوم الأخير من الجولة الثانية من المفاوضات، وأصبحت الموقف الرسمي لوسطاء الإيقاد.
اعترضت الحكومة السودانية على عدّة نقاط في مسوّدة المبادئ من بينها حق تقرير المصير، وعلمانية الدولة، بينما رحب بها وفدا الحركة الشعبية. إزاء هذه الخلافات أعلن رئيس لجنة الوسطاء السيد كولونزو مسيوكا، وزير خارجية كينيا، انتهاء الجولة الثانية من مفاوضات الإيقاد، على أن تُعقد الجولة الثالثة في 19 يوليو عام 1994، أي بعد شهرين من تلك الجولة، لإعطاء الوفود مزيداً من الوقت لدراسة المسودة.

5
بدأت الجولة الثالثة في موعدها المحدد لها، وتواصل تمثيل الأطراف الثلاثة بنفس أعضاء الوفود للجولات السابقة. وأعلنت سكرتارية مفاوضات الإيقاد تمسّكها بالمسودة كما هي، بينما أكّد الوفد الحكومي رفضه للإعلان. وأعلنت الحركة الشعبية قبولها مسودة الإعلان. واصبح التفاوض والنقاش والجدل في حقيقة الأمر بين سكرتارية الإيقاد والوفد الحكومي.
ذكّرت سكرتارية مفاوضات الإيقاد الوفد الحكومي بإعلان فرانكفورت وحق تقرير المصير الذي تضمّنه ذلك الاتفاق، وأوضحت له أن ذلك الاتفاق هو الأرضية التي انبنت عليها مقررات إيقاد. ولكن الوفد الحكومي أثار مسألة قدسية الحدود بموجب ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية، وكرر ادعاءه أن إعلان فرانكفورت كان مع فصيل الناصر المنشق عن الحركة الشعبية وليس مع الحركة الشعبية الأم، وهو ما سخرت منه ورفضته سكرتارية الإيقاد (تماماً مثلما فعلت نيجيريا قبل عام من ذلك التاريخ). كرر وفد حكومة البشير رفض مسألة علمانية الدولة مشيراً إلى أن أغلبية أهل السودان المسلمة هي التي أقرّت مبدأ تطبيق الشريعة الإسلامية. لكن سكرتارية المؤتمر كانت قد حسمت أمرها، فقد صدر إعلان مبادئ الإيقاد للسلام في 20 يوليو عام 1994، كما رسمت خطوطه العريضة المسودة التي تمّت مناقشتها في الجولة الثانية للمفاوضات في مايو عام 1994. وقد أصبح إعلان مبادئ الإيقاد في ذلك اليوم (20 يوليو عام 1994) الموقفَ الرسمي للإيقاد في مفاوضات السلام.
انبنى إعلان مبادئ الإيقاد على حق مواطني جنوب السودان في تقرير مصيرهم عبر الاستفتاء، مع إعطاء الأولوية لوحدة السودان، وإنشاء دولة علمانية وديمقراطية تسود فيها حرية الاعتقاد والتعبّد، وفصل الدين عن الدولة. شمل إعلان المبادئ نصوصاً عن التفاوض حول الترتيبات للفترة الانتقالية وإجراءات وقف إطلاق النار.

6
كان واضحاً أن الوفد الحكومي قد خسر رهان وساطة الإيقاد التي كان يؤمّل أن تخرجه من ورطة فرانكفورت وحرج أبوجا. كما أن الإيقاد أضافت إلى حق تقرير المصير لجنوب السودان المضّمن في إعلان فرانكفورت منح نفس الحق للأقليات الأخرى في السودان إذا تمّ خرقٌ للحقوق الأساسية لهذه الأقليات التي شملها الإعلان. وكأن هذا لايكفي فقد أكّد إعلان مبادئ الإيقاد علمانية الدولة السودانية وفصل الدين عن الدولة.
وقد أشار الوسطاء مراراً وتكراراً إلى إعلان فرانكفورت وظلّوا يُذكّرون الوفد السوداني به. وقد أشارت ديباجة إعلان مبادئ الإيقاد إلى إعلان فرانكفورت. ولم تفلح محاولات الوفد السوداني خلال جولات المفاوضات في التنصّل من إعلان فرانكفورت. بل إن المتابع لعملية التفاوض يحس أنه كلما حاول السودان التنصّل من الإعلان، كلما زادت قناعة الوسطاء بعدالة موقف الحركة الشعبية التي ظلّت تشكو من نقض العهود بواسطة الحكومات السودانية المختلفة منذ الاستقلال، وبعدم جدّية حكومة البشير، وأنها لا تتفاوض بحسن نية، وبارتباكها وتخبطها.
لقد كان إعلان فرانكفورت مأزقاً تاريخياً أدخلت فيه حكومة البشير نفسها (ومعها السودان بالطبع) دون دراسةٍ ووعيٍ بالتبعات التي كان يمكن أن تنتج عنه. وزادت محاولات التنصّل منه في أبوجا ومع الإيقاد الوضع سوءاً للسودان. لقد أخرج الدكتور علي الحاج مارد تقرير المصير من قمقمه في 25 يناير عام 1992 في مدينة فرانكفورت الألمانية، وأصبحت مسألة إعادة هذا المارد إلى قمقمه أمراً مستحيلاً كما وضح في مفاوضات أبوجا وإعلان مبادئ الإيقاد بشأن جنوب السودان.

7
تركزت استراتيجية حكومة الإنقاذ بعد الجولة الثالثة إلى الرفض التام والرسمي لمبادئ مبادرة الإيقاد التي سعى السودان لوساطتها بدايةً، وتغيرّت معها تشكيّلة الوفد المفاوض. عهدت الحكومة برئاسة الوفد المفاوض للجولة الرابعة لمفاوضات الإيقاد إلى الدكتور غازي صلاح الدين العتباني، وشملت عضوية الوفد الدكتور نافع علي نافع، والدكتور مطرف صديق. وصل هذا الوفد الرفيع نيروبي في 5 سبتمبر والتقى سكرتارية الإيقاد في يوم 6 سبتمبر عام 1994. وقد شملت كلمة الدكتور غازي العتباني والتي تلاها أمام سكرتارية الإيقاد، وأعلن فيها رفض حكومة البشير مبادئ الإيقاد، الآتي:
"إن حق تقرير المصير لجنوب السودان ليس لديه أي سندٍ قانونيٍ أو سياسي، ولن يقدّم حلّاً للمشكلة. بالعكس، من المؤكّد أنه سيزيد التعقيدات الحالية لذلك الإقليم والذي لامنفذ له للبحر، ومتخلّفٌ ويرزح تحت الخلافات القبلية الحادة.
.......
إن حكومة السودان هي تبعاً لذلك ملتزمةٌ بأن تسلّم "نفس السودان" إلى الأجيال القادمة. إن تقرير المصير أو أي تعبيرٍ آخر من الممكن أن يعني الانفصال هو ليس قضية، وإن الحكومة غير مستعدةٍ للتداول حوله. عليه فإنه من الأفضل بدلاً من ذلك مخاطبة القضايا الموضوعية التي تشكّل المرتكز الحقيقي للمشكلة، وأن نعمل على وضع الضمانات اللازمة لحماية الاتفاق النهائي."
وقد وصف الدكتور غازي في مقالٍ لاحق الإيقاد بأنها "لم تكن تملك في رصيدها آنذاك ولا الآن إنجازاً واحداً في التنمية،" وانها "استُخدِمتْ واجهةً للولوج إلى عمق الشأن السوداني."
وهكذا أصبحت الإيقاد التي سافر الرئيس البشير إلى إثيوبيا من أجل إقناع قادتها (وبإلحاحٍ شديد) أن تتوسّط في قضية جنوب السودان منظمةً بلا رصيد أو إنجاز، وأنها قد "استُخدِمتْ واجهةً للولوج إلى عمق الشأن السوداني."

8
لم تُعقِّب الإيقاد على ذلك الرفض لمبادئها ولا على تلك المذكرة الجارحة التي استلمتها من وفد الدكتور غازي. ومرت أعوامٌ ثلاثة بعد رفض السودان رسمياً لمبادئ الإيقاد تواصل وتصاعد فيها الارتباك والتخبط والجدل والخلاف داخل البيت الإسلامي الحاكم عن كيف يمكن حل قضية جنوب السودان. بعد هذه الأعوام من الجدل المطول عقدت حكومة البشير اتفاق الخرطوم للسلام عام 1997 مع عددٍ من الفصائل المنشقّة عن الحركة الشعبية الأم منحت فيها حكومة البشير شعب جنوب السودان حق تقرير المصير. ثم أصدر حسن الترابي دستور عام 1998 والذي تضمّن فقراتٍ واضحة عن حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان. في الحالتين هو نفس حق تقرير المصير الذي منحه إعلان فرانكفورت لشعب جنوب السودان، وتضمنته مبادئ الإيقاد التي تم رفضها بواسطة حكومة البشير في ارتباكٍ وتخبّطٍ وغطرسة. وتواصلت في تلك الأثناء انتصارات الحركة الشعبية على الجيش السوداني والضغوط الدولية على السودان للعودة إلى طاولة التفاوض.

9
تحت هذه المستجدات والضغوط العسكرية والسياسية قررت حكومة البشير العودة لوساطة الإيقاد. مرةً أخرى سافر البشير إلى أديس أبابا مستجدياً ميليس زيناوي أن يساعده في إحياء وساطة الإيقاد. بعد مشاورات استمرت عدة أسابيع وافقت الإيقاد على العودة إلى طاولة التفاوض تحت مظلة مبادئ الإيقاد التي صدرت في يوليو عام 1994، ورفضها السودان رسمياً في سبتمبر 1994. كان الشرط الآخر للايقاد أن تتفاوض حكومة البشير بجدية وحسن نية. وقد وافقت حكومة البشير باستحياءٍ على هذين الشرطين.
بدأت الجولة الخامسة لمفاوضات الإيقاد في 7 نوفمبر عام 1997، وحاول وفد الحكومة التراجع عن حق تقرير المصير واستبداله بالنظام الفيدرالي، وهذا ما رفضته الحركة الشعبية. ثم دارت الجولة السادسة في شهر مايو عام 1998 حيث برز الخلاف حول حدود جنوب السودان والمنطقتين (جبال النوبة وأبيي)، والفترة الانتقالية التي ستسبق حق تقرير المصير. تواصلت المفاوضات في الجولة السابعة في شهر أغسطس عام 1998، ثم الثامنة في شهر يوليو عام 1999. وانتهت الحلقة الثانية من مفاوضات الإيقاد (1997 – 1999) دون اتفاق.

10
أحست مصر أن مصير السودان ومستقبله السياسي قد خرج تماماً من يدها بعد أن أصبحت الإيقاد ومبادؤها هي الحلبة الوحيدة التي تتحرك فيها قضية جنوب السودان. قامت مصر في نهاية عام 1999 بطرح مبادرة جديدة مع ليبيا تمت تسميتها المبادرة الليبية المصرية أو "المبادرة المشتركة." ارتكزت تلك المبادرة، والتي صدرت رسمياً في 30 يونيو عام 2001، ارتكازاً تاماً على عقد مؤتمرٍ دستوريٍ شاملٍ لكل الأطراف السودانية لمناقشة كافة القضايا السودانية، والاتفاق على حلولٍ لها، ولم تتضمن أية إشارة إلى حق تقرير المصير. قبلتها حكومة البشير التي رأت فيها مخرجاً من ورطة إعلان فرانكفورت وحق تقرير المصير ومبادرة الإيقاد.
كان واضحاً أن المبادرة تم طبخها بعناية بين الحكومة المصرية وحكومة البشير. قاد ذلك الجهد الصادق المهدي الذي كان قد انشقَّ من التجمع الوطني الديمقراطي بعد أن صالح حكومة البشير إثر توقيع اتفاق جيبوتي في نوفمبر عام 1999. وضح أيضاً أن مصر قررت خلط الأوراق وتعقيد التفاوض المرتبك من جانب حكومة البشير أصلاً، من أجل كسب الزمن.
تحفّظت الحركة الشعبية على المبادرة بحجة تعدّد المبادرات، وأصرت على دمج المبادرتين (مبادئ ايقاد والمبادرة المصرية الليبية) في مبادرة واحدة، وبدأت في الخفاء حربٌ شعواء بين المبادرتين (انظر مقالاتنا بعنوان: حروب الرسائل والمبادرات بين السيد الصادق المهدي والدكتور جون قرنق).

11
مر عامٌ آخر من الشد والجذب بين المبادرتين والتخبط والارتباك من جانب حكومة البشير. غير أن الانتصارات الكبيرة التي حققتها الحركة الشعبية خلال تلك الفترة أرغمت حكومة البشير مرةً ثالثة على العودة لطاولة التفاوض تحت مظلة مبادئ الإيقاد. وساهمت تلك الانتصارات والضغوط الخارجية في الموت البطيء للمبادرة الليبية المصرية في منتصف عام 2002، ونهاية الارتباك الذي صاحبها منذ البداية، وانتهاء الدور المصري الذي كان قد زاد الأمور ارتباكاً.
للمرة الثالثة، وبناءً على طلب حكومة البشير، وبإلحاح، بدأت الحلقة الثالثة من اجتماعات وساطة الإيقاد بين حكومة البشير والحركة الشعبية في شهر يونيو عام 2002. لم تكن الإيقاد متحمسةً لفتح باب التفاوض بعد تجاربها السابقة مع حكومة البشير. غير أن أصدقاء الإيقاد ألحّوا على سكرتارية الإيقاد استئناف المفاوضات، وتكفّلوا بدفع تكلفتها كاملةٍ كما فعلوا من قبل.
التأمت اجتماعات التفاوض بين الوفدين في ناكورو في كينيا قبل أن تنتقل إلى مشاكوس في نهاية شهر يونيو عام 2002. وبعد تفاوضٍ متواصلٍ ومتشعّب وافقت حكومة البشير في وثيقةٍ رسميةٍ مع الحركة الشعبية الأم على حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان، وتم في 20 يوليو 2002 توقيع بروتوكول مشاكوس الشهير. وانتهى الجدل العقيم حول إعلان فرانكفورت الذي كان قد برز إلى السطح قبل عشر سنوات.
قاد بروتوكول مشاكوس إلى الاتفاقيات الخمس الأخرى والتي تم التوقيع عليها جميعاً تحت مسمى اتفاقية السلام الشامل لعام 2005 (اتفاقية نيفاشا). وقد قادت اتفاقية السلام الشامل إلى انفصال جنوب السودان في عام 2011، بعد ستة أعوامٍ من الفترة الانتقالية العاصفة والتي أدارت حكومة الحركة الإسلامية دفّتها بقدرٍ كبير من التعنّت والغطرسة وعدم المبالاة لنتيجة الاستفتاء القادم. قاربت نسبة التصويت لصالح الانفصال 99%.

12
أوضح هذا المقال بجلاء حالة التخبط والارتباك التي تعاملت بها حكومة البشير الإسلامية مع مبادئ الإيقاد الخاصة بقضية جنوب السودان. فحق تقرير المصير الذي تم قبوله والتوقيع عليه عام 1992 (إعلان فرانكفورت)، تم رفضه عام 1994 ثم عام 1997، ثم تم قبوله كما هو عام 2002. وقد كانت حكومة البشير هي التي طلبت وساطة الإيقاد عام 1993 ثم رفضتها وانسحبت منها عام 1994. تكرر نفس مشهد الطلب وبإلحاح عام 1997، ثم الرفض والانسحاب عام 1999. وتم الطلب الثالث عام 2002 وهو الذي قاد إلى بروتوكول مشاكوس واتفاقية السلام الشامل.
يبدو أن حكومة البشير كانت تنوي التنصل من بروتكول مشاكوس كما حاولت مع إعلان فرانكفورت. غير أن الضغوط الإقليمية والدولية وتدخل مجلس الأمن الدولي أغلق الباب أمام هذه المحاولة.

13
من الواضح أن التاريخ قد بدأ في إعادة نفسه مع ارتباك وتخبط البرهان ومجموعته الإسلامية في طلب وساطة الإيقاد، وبإلحاحٍ، لحل قضية الحرب في السودان. ومثلما سافر البشير إلى إثيوبيا لطلب وساطة الإيقاد فقد سافر البرهان إلى كينيا لنفس الغرض. ومثلما رفض البشير مبادئ الإيقاد وانتقد ما أسماه ولوج الإيقاد في الشأن السوداني، فقد قام البرهان برفض وساطة الإيقاد وأعلن أنها تمسُّ سيادة السودان. ومثلما كان البشير يلحُّ على إثيوبيا ونيجيريا بالتوسط لحل قضية جنوب السودان، فقد شارك البرهان في منبر جدة، ثم سافر إلى الجزائر لطلب وساطتها، ثم شارك في اجتماعات منبر المنامة. ومثلما حاولت مصر خلط الأوراق بمبادرتها المشتركة مع ليبيا لحل قضية جنوب السودان، فقد أعلنت وزارة خارجية البرهان عن مبادرة مصرية لحل مشكلة الحرب في السودان، متزامنةً مع مبادرة الإيقاد.

14
ليس هناك وصفٌ لهذين المسلسلين غير الارتباك والتخبط. لقد ارتبك وتخبط البشير ومجموعته الإسلامية تجاه مبادرة الإيقاد لحل قضية جنوب السودان بين القبول والرفض لمبادئ الإيقاد لحوالي الثمانية أعوام، ثم عاد البشير وقبلها في خنوعٍ كما هي، وبإضافة التفاصيل الخاصة باستفتاء شعب جنوب السودان.
ترى هل سيعيد التاريخ نفسه ويعود البرهان ومجموعته الإسلامية إلى قبول مبادرة الإيقاد لحلِّ مشكلة الحرب في السودان، والتي سعوا إليها بإلحاحٍ ثم رفضوها بتعنّتٍ؟

*رئيس مجلس جامعة الخرطوم

Salmanmasalman@gmail.com
www.salmanmasalman.org

 

آراء