الاستثمار في جثامين الموتى 

 


 

 

إلى وقت قريب كنا نظن أن الموت يساوي بين الناس، فلا فرق بين غني ميت وفقير ميت، أو بين ملك ورئيس ميت وخفير وعتالي، فالموت  واحد، وجثث الأموات تتساوى قيمتها وأهميتها.

هذا بالطبع عندنا نحن الذين لم نُحمل بعد على آلة حدباء، أما عند الله وبعد أن تفارق الأرواح أجسادها التي ترتديها في الأرض، وترجع إلى بارئها في عالم الغيب، فالأمر يختلف، ولا علم لنا بما سيؤول إليه حالها.

أما الأجساد/ الجثامين فإن مآلها أن تعود إلى مصدرها التراب، يستوي في هذا الغني والفقير أيا كان جنسه أو ديانته، فحتى المجتمعات التي تحرق هذه الأجساد فإن رمادها المنثور على البحر أو النهر أو في الهواء الطلق سيعود إلى الأرض. ولا تغرنك في ذلك تلك الجثث التي تشاد حولها القباب، أو الأضرحة الرخامية الفخمة بتماثيلها الملائكية، أو تلك التي ترقد في مدافن الملوك والمشاهير. فتحت كل هذا المعمار الفخيم ثمة جثة ترقد في حفرة، قد لا يكون بقي منها سوى عظام. وهي في حفرتها المحاطة تحت الثرى بالزخارف الفنية لا قيمة لها أكثر مما لقبر مجهول بالفلاة مهجور. وكما قال أبي العلاء المعري:

رُبّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْداً مراراً        ضَاحِكٍ مِنْ تَزَاحُمِ الأضْدادِ

وَدَفِيـنٍ  عَلـى   بقـايا    دَفِيـن        في طَويلِ  الأزْمانِ وَالآباءِ


إلى هذه الدرجة تتساوى قيمة الأجداث، لأنك لا تستطيع أن تتصور مكاناً في الأرض من لدن آدم لم يكن قبراً اندثر منذ الآف السنين، ويبدو أننا نمشي فوق قبور من سبقونا إلى التراب. بل يذهب إلى أبعد من ذلك، بأن القبر الواحد ربما تعاقبت عليه أكثر من جثة بتقادم الأزمان ومرور الحقب. وربما يكون هذا الاحتمال الواقعي والممكن هو الذي جعل المعري يرسل نصيحته للمتبخترين الذين يسيرون زهواً:

صَاحِ هَذِي قُبُورُنا تَمْلأ الرُّحْ            بَ فأينَ القُبُورُ مِنْ عَهدِ عادِ

خَفّفِ الوَطْء ما أظُنّ أدِيمَ ال            أرْضِ إلاّ  مِنْ  هَذِهِ الأجْسادِ

وقَبيحـٌ  بنَا وإنْ  قَـدُمَ  العَهْ              دُ هَـوَانُ   الآبَـاءِ   والأجْـدادِ

سِرْ إنِ اسْطَعتَ في الهَوَاءِ رُوَيداً       لا اخْتِيالاً عَلى رُفَاتِ العِبادِ

ودائماً هناك متسع من الأرض غير المأهولة تتسع لجميع الجثث، حتى لو أدت كارثة طبيعية ما إلى القضاء على كل سكان الكوكب، ستجد كل جثة مساحتها التي ترقد فيها على الأرض بـ"راحتها". ولكنك تجد رغم كل هذا الوساع وهذه الرحابة في الأرض أن صدرها بدأ يضيق بجثث أبنائها.

فقد كان أهل المتوفى في السودان، مثلاً، لا يكلفهم إكرامه وستره ومواراة جثمانه في القبر سوى ما يقوم به الرجال من جهد لتهيئة قبر لائق لدفنه بمواصفات دينية متبعة. كان ذلك قبل أن تحل بالبلاد جائحة الإسلامويين بمشروعهم "الحضاري" الذي فرض ضريبة على الميت يتكفل بها أهله، إذا أرادوا دفنه !.

ولك أن تسأل: وإلا ماذا ؟!.

هل "يصيع" جثمانه بين الأحياء وإلى متى ؟.

هل يُفعل بجثمانه ما سأل الحلفاوي في النكتة، أن يفعلوا بجثمان رجل توفي فور وصولهم إلى منطقة خشم القربة بعد التهجير؟!.

فكلما أرادوا دفنه في مكان باغتهم المسؤول المحلي بأن هذا الموقع لم يحدد في تخطيط المدينة كمدافن، فذهبوا إلى المحافظ وهم يحملون الجثمان على عنقريب، وعرضوا عليه المشكلة والجثمان مسجى أمامهم، فقال المحافظ بأنهم في الواقع لم يحددوا بعد موقع المقابر فسأله أحدهم وهو يشير بأصبعه للميت المسجى أمامه: "ودا نشرمطو يعني ؟".

بالطبع لن يجرؤ أحد ما على تقطيع الجثمان الذي لا يملك ضريبة دفنه شرائحاً، إما لأنه نازح تشتت شمل عائلته بسبب الحروب ولا أهل له ليدفعوا للحكومة ثمن دفن جثمانه، أو لأنه فقير وأهله لا يملكون شيئاً للحي منهم وبالتالي فإن قيمة دفن ميتهم ترف لا يملكون له سبيلاً.

يقول الشرع بأن من مات وعليه دين فعلى ورثته أن يقضوا هذا الدين عنه، لأن هذا الدين هو فى رقبة هذا المدين الذى مات. وأن النبي صلى الله عليه وسلم بيًن أن الميت مرهون بدينه. وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على رجلاً عليه دين، عندما سأل هل عليه دين ؟، قالوا ديناران فقال صلوا أنتم عليه، وفى حديث أخر (نفس المؤمن مُعلَّقة بدَيْنِه حتى يُقْضَى عنه). وإذن فميتنا مثل كثيرون في زمننا هذا في "ورطة حقيقية". فلعنة الفقر ستلاحقهم حتى بعد موتهم.

فهل سيُعفى من عقوبة دين الحكومة الذي "في رقبته" بسبب موته على الفقر ؟.

لا أعلم شيئاً عن هذا، ولكن آراء الفقهاء "نساجو" الفتاوى ستختلف في هذا وكل فتوى ستُختتم بـ "والله أعلم". والأخيرة هي الشيء الوحيد المؤكد في كل الفتاوى.

هل ينتهي جشع الحكومات واستحلالها للحم الفقراء عند هذا الحد ؟.

تأتيك الإجابة – كما يمكنك أن تتوقع – من مصر بلد العجائب، طالما هي (أم الدنيا، والعجائب بنت الدنيا. فقد فكرت حكومتها في كيفية تغذية خزينتها بالمزيد من النقد الأجنبي، فما تجود به دول الخليج، وأمريكا، ومؤسستا البنك وصندوق النقد الدوليان لم يعد يكفي تمويل مشاريعها الإنشائية الفخمة مثل المدينة الإدارية، ومتحف الآثار، إلى جانب مشاكل وقضايا ثانوية، مثل قضية ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية الضرورية لحياة الناس اليومية. فالتفت عباقرة الاقتصاد إلى الأموات كاستثمار مجزٍ لمعالجة نقص العملات الأجنبية.

فقد قررت وزارة الإسكان والمجتمعات العمرانية الجديدة في مصر طرح أراض تستخدم كمقابر مخصصة للعاملين بالخارج على أن تكون أسعارها بالدولار. في كل من القاهرة الجديدة ومدينة بدر والعاشر من رمضان وأكتوبر الجديدة، وتأتي ضمن المرحلة الثامنة من مشروع “بيت الوطن”.

وبحسب عدد من الصحف المصرية، فقد بلغ سعر المتر الواحد في هذه الأراضي بمدينتي القاهرة الجديدة وأكتوبر الجديدة (90 دولار)ا، أي ما قيمته 1565 جنيها مصريا، وهذذا يعني في حال كانت المقبرة مساحتها 40 مترا مربعا فإن سعرها سيكون (3600 دولاراً) ومقدم الحجز (900 دولاراً). أما في مدينة بدر، فإن سعر المتر (80 دولارا)، أي ما يعادل 1320 جنيها، ليكون سعر المقبرة مساحة 40 مترا مربعا، (3200 دولاراً)، والمقدم المطلوب للحجز (800 دولاراً).

هل سيجد هذا المشروع الاستثماري الإقبال المتوقع، من العمالة المصرية في الخارج ؟. لا أعلم ولكن تستحضرني مشاهد العمال المصريين بالخارج إبان جائحة كرونا عنما فُرض عليهم أن يدفعوا تكلفة احتجازهم قبل السماح لهم دخول بلدهم كان منظر العمال والنساء والأطفال العالقون يفطر القلب حقاً. فهل أمثال هؤلاء الغلابة، ممن يمكن أن يبعثر بسهولة قليل الدولارات التي تحصل عليها بشق الأنفس وبتضحيات نالت الكثير من صبره على الغربة وذلتها من أجل مقدم شقة تأويه، أو لأجل أولاد وبنات يصرف على تعليمهم، أو لمجرد أن "يفتح بيت" ويتزوج، ليدفع آلاف الدولارات لمقبرة يدفن فيها جثمانه بعد الموت ؟!!.

لا أعلم ، ولكن ربما بين بعض مجانين حب المظاهر من يريد أن يباهي ويفاخر بغلاء قبره المدفوع بالدولار بعد أن يفارق الحياة.

وكما يقولون: رزق المساكين على المجانين.

ولكن من المسكين، ومن المجنون هنا:

الحكومة، أم صاحب القبر (بعد عمراً طويل) ؟؟!!.

الله أعلم.


izzeddin9@gmail.com

 

آراء