الاستعلاء السياسي والثأر كسمة وملمحاً مهماً لتحليل الحالة النفسية لتنظيمات الإسلام السياسي
مـحمد أحمد الجاك
10 June, 2022
10 June, 2022
بهدوووء_
لأنها ليست الأكثر غموضاً فهي سريعة السقوط وقليلة الصمود إزاء إحداثيات الوطن، هكذا يمكن توصيف حال ومقام تيارات الإسلام السياسي أو الجماعات السيسيودينية التي اعتلت صدارة المشهد السياسي في الشرق الأوسط تحديدا منذ استقرار نظرية الفوضى الخلاقة أمريكية التصنيع والتعليب والتي تجسدت بوضوح باستغلال فيما عُرف بثورات الربيع العربي وإن كان البعض يرى أن الثورات أسوأ خريف يمر بالمنطقة كلها، وهي في حقيقة التأويل السياسي لم تخرج عن فلك الانتفاضات الشعبية غير المنظمة في معظم البلدان التي قامت بها، وبرغم أن الصورة الإعلامية التي صورت تلك التيارات السياسية التي استهدفت جمهورها من بوابة الفقر الديني لديهم انحصرت في كونها تيارات سرية وغامضة مما يعتقد الكثيرون أنهم الأكثر حراكا وقدرة على التنظيم والاستهداف المباشر، إلا أن الحقيقة النفسية لتلك التيارات لا تؤكد ذلك أو تشير إليه من قريب أو بعيد.
فالمستقرئ لحركات الإسلام السياسي منذ اشتعال الفكر الوهابي في شبه الجزيرة العربية مروراً بالحركات المزجية بين الدين والسياسية في السودان ومصر وسوريا والعراق وتونس ، يدرك أن هذه الفرق بعيدة تمام البعد عن تطوير الاستخدام السياسي مما جعلها أكثر سطحية ومباشرة لا غموضاً وسرية ويكفي تحركات ما بعد ثورة ديسمبر المجيدة في السودان 2019 وثورة 30 يونيو 2013 في مصر ليكونا خير شاهد ودليل على افتقار هذه الفصائل والتنظيمات الإسلامية إلى سرية التكوين والتنفيذ. لكن ظل الغموض فقط مصاحباً لسير المؤسسين لهذه التيارات، فمن بالغ الصعوبة أن تجد سيرة لهؤلاء الذين صاغوا حركاتهم سيرا بأقلام غير المريدين لهم، بل إن قصص حيواتهم تظل رهن الاستقطاب التمييزي ولا تقترب إلى حد المكاشفة التاريخية رغم وجودهم التاريخي.
وكون هذه الحركات لا تفكر في تطوير المصطلح السياسي لديها فهي الأقرب إلى الجمود منه إلى الفعالية والنشاط حتى وإن كانت قادرة على التحشيد، لكن الشهود الحضاري يفي بأنها على علاقة مستدامة بفكرة الامتلاء السياسي ومن ثم الاكتفاء الفقهي ووجود مرجعية ثابتة لا تعرف للاختلاف سبيلاً ولا تفطن للتعددية طريقا.
وهذا الامتلاء السياسي هو الدافع الحقيقي وراء معظم أفكار تيارات وحركات وأنظمة الإسلام السياسي، وهذه الأفكار شكلت منظومة أيديولوجية يمكن توصيفها في ملامح محددة، منها ضرورة التغيير الشامل وليس التطوير الجزئي، ورغم ما يشاع عن تيارات الإسلام السياسي ومنها تنظيم الحركة الإسلامية بالسودان بأنها تسير بخطى وئيدة حتى تحقيق أهدافها فإنها بالفعل تنظيم يمتلك حيلة ومزية الصبر، لكنه يفتقد فضيلة التواضع لأن أبرز عوامل سقوط النظام (الحركة) سياسيا هو الاستعلاء السياسي الذي مورس من قبلهم على قطاعات عريضة من الشعب. وظل الاستعلاء كسمة مصاحبة لهذه التنظيمات والتيارات في نمائه حتى أصيب بحالة من التضخم الذاتي للقيمة مما دفعها جميعاً إلى عدم الاكتراث بأية تنظيمات أخرى.
وليس من المنطق أن تحدث تغييرا شاملاً إلا إذا كنت نبياً يوحى إليك ولست بشراً عادياً ربما لا تمتك قدرات استثنائية، لكن هاجس التغيير الشامل ظل وسيظل محركاً لكافة الممارسات السياسية لتلك الجماعات دون أدنى اعتبار لوقع الشارع وأدائه.
ومن ملامح الأيديولوجية أيضاً عقب فشلهم ثم سقطوهم في السودان بعد انتفاضة ديسمبر المجيدة استخدام خطاب المظلوم سياسيا والذي يعاني دوما(الإقصاء) عن المشاركة السياسية وربما انتفاء الذوبان المجتمعي اللهم سوى الذوبان داخل التنظيمات الخاصة فقط، مما أدى إلى استسلام المنتمين إلى تلك الحركات إلى نهايات التهميش والاضطهاد من قبل طبقات المجتمع، لذلك لم يكن عجباً أن يسعى نظام (الكيزان) في السودان في ذلك الوقت إلى تهميش الجميع حينما وصلوا إلى سدة الحكم وهو ما أطلق عليه آنذاك أسلمة (كوزنة)مفاصل الدولة.
وتلك الحالة الاضطهادية التي لا تزال محل شعور الجماعة أو التيارات التي اقتحمت العمل السياسي من بوابة الدين واستهداف فقر المواطن دينيا ومعرفيا جعلت المنتمي إليها يرى المجتمع منحرفاً عن الوجهة الصحيحة التي تلقى تعاليمها أو مواصفاتها في نفس الوقت الذي تتنامى لديه عقدة الشعور بالظلم مما يجعله حاكماً على مجتمعه بالكفر، وفي كثير من الأحايين يرى وجوب محاربة العدو القريب بدلاً من أعداء الخارج وهو ما نراه واضحاً في حالتي الجماعة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش مثلاً).
هناك أمر لافت في التاريخ أنه لا يكاد يوجد فئة أعلنت تصورًا معينًا أو خصومة معينة مع الوضع القائم، إلا وتصل تصوراتها بعد حين إلى السلطة، كافة الفرق الإسلامية على سبيل المثال لا يمكن لفرقة أن تزعم أنها لم تعط في التاريخ فرصتها، إنما يمكن أن يقال إنها استنفدت أفكارها التي طرحتها فحسب، فمثلًا من خاصم الأمويين بزعم أن الخلافة يجب أن تكون في آل البيت، استنفدت أفكاره حينما وصلت السلطة إلى شخصيات من آل البيت، في الواقع لم يعد في جعبته أي شيء يقوله بعد ذلك. الأمر نفسه ينطبق على السلوك المعارض الذي أجهد نفسه في جواز الدخول في البرلمانات، ثم دخلها، لم يعد له رصيد من الأفكار أكثر مما جرى تحقيقه، كذلك فكرة إعلان الخلافة، كانت شغلًا شاغلًا لأغلب الجماعات الحركية الإسلامية، وحين أعلنت، ذهب البريق، والواقع أن أكثر الجماعات كانت تصور المسألة كحل سحري، وغالبًا ما كان في كل الفرق التاريخية هذا التصور، كجعل الخلافة في آل البيت حلًا سحري وهكذا، ويفترض التنبه للخيط الدقيق بين (لم يأخذ فرصته) وبين (لقد استنفد أفكاره حتى النهاية بحيث لم يعد له ما يقول)( فغالبًا ما يجعل الأنصار الأولى في الثانية!
وهذا ما وجدناه رأي العين في كتاب "الفريضة الغائبة" حينما نطالع قولاً يرى أن قتال العدو القريب داخل الوطن أولى من قتال العدو البعيد، وإذا استرجعنا وعي هؤلاء بذواتهم المضطهدة من وجهة نظرهم والمهمشة بفضل ممارسات الأنظمة السياسية التي لم تر نفعاً في دمج هذه التيارات داخل سياق المجتمع، نكتشف مشاهد الثأر المستدامة صوب بعض الفئات وهذه المشاهد نراها متأصلة في تاريخ التنظيمات والجماعات التي وصفت مؤخرا بالإرهابية.
والثأر كسمة تعد ملمحاً مهماً ونحن بصدد تحليل الحالة النفسية لتيارات الإسلام السياسي، لأن موقف الثأر الدائم يفرض على تلك التنظيمات والجماعات وجود حالة من التعبئة الدائمة للصراع حول السلطة ومن أجل الحكم والذي انتقل مؤخراً بفضل البلادة السياسية لهذه الحركات إلى الصراع مع كل فئات المجتمع الرافضة لوجودها نظراً لأعمال العنف والإرهاب وترويع الآمنين.
وربما أساتذتنا من علماء النفس الذين غرقوا حتى آذانهم في أوراقهم التي لا تخص سواهم غفلوا عن حقيقة تصل إلى تمام الشهود الحضاري وهي سيطرة اللاوقعي على فكر وسلوك تلك التنظيمات والفصائل السيسيودينية. وسيطرة اللاوقعي تعني أنهم فقدوا السيطرة في التمييز بين السلطة كنظام سياسي حاكم وبين المواطنين كأفراد مستقلين يشكلون المجتمع الكبير. فرأينا حوادث القتل في الشوارع وفي الجامعات وتدمير بعض أعمدة كهرباء الضغط العالي وتخريب مصفأة النفط والبترول وحوادث الترويع وإشاعة الخوف والإنفلات الأمني وانتشار البلطجة وأعمال السلب والنهب نهارا جهارا كذلك الترويع من تفجيرات قادمة مرتقبة الأمر الذي يدعو إلى مزيد من الدراسات السيكولوجية لطبيعة شخصيات المنتمين لتلك التنظيمات و الفصائل.
وبسبب سيطرة اللاوقعي على فكر تنظيمات الإسلام السياسي كانت الدعوة إلى إحياء فكرة الخلافة، والانفصال عن الوطن وقضاياه ومشكلاته الاجتماعية والاقتصادية وغلق فكر الاجتهاد إلى منتهى غير معلوم، وبات الأمر في البداية شركاً أوقع الكثير من البسطاء في فخاخه وأوكاره، لاسيما أولئك الذين استمرأوا ثقافة الاستماع دون اكتراث بفعل القراءة والتأويل وتحليل المعطيات. ورغم طموحات المغامرين بفكر الخلافة إلا أنهم سقطوا وطنياً حينما سقطت دولتهم بإرادة وثورة شعبية تخلوا عن مزاعمهم تلك من وتحولت فكرة الأحرار المجاهدين بدلاً من الذهاب إلى القدس لتحريره إلى حرب ضد العدو القريب الوطن والمواطنين في الداخل.
وربما لم تدرك تلك التنظيمات والفصائل الحراك السياسي التركي نحوها ومدى الاهتمام المدهش في رصد أنشطتها ودعمها واحتواء من يلجأ هاربا إليها ، لكن ثمة أسئلة ربما تفضح الاتراك، منها لماذا لم تتحرك تركيا بنفسها وتعلن مزاعم عودة الخلافة المنشودة وتذهب مباشرة تجاه إسرائيل لتخليص القدس من براثنها ومخالبها ومخططاتها الخبيثة ؟
ولماذا تأخرت تركيا كل هذا الوقت في مساندة حليف يحمل نفس الحلم القديم وهو الخلافة وانتظرت حتى بزوغ تيارات الإسلام السياسي في السودان ومصر وتونس والعراق؟ويظل تساؤل آخر يبدو مهماً وهو أن تركيا التي تلهث وراء ترويج منتجات الشرعية وتحالف القوى الوطنية هي نفسها التي تؤكد ليل نهار أنها استحالت حضنا هادئاً وناعماً للعلمانية، وأنها لن ترجع خطوة واحدة مرة أخرى للوراء؟ لكن مشكلة تيارات السيسيودينية أنها لم تعي إلى مشاهد المباحثات الأمريكية التركية أو التركية الصهيونية، وربما هذا المشهد يدرج أيضاً تحت السمات المميزة لتيارات الإسلام السياسي ألا وهو الغفلة..!.
ومن الأكثر دهشة وإثارة غبطة المنتمين لتيارات وتنظيمات الإسلام السياسي لاسيما الجماعات المتطرفة منها إلى الأخبار التي تفيد وقوع كارثة أو مصيبة بشأن المخالف لها في العقيدة أولاً، أو في الأيديولوجية الفكرية ثانياً ؛ ولهم نقول مجدداً هل مثل هذه الأخبار أعزت بالاسلام ؟ بالطبع لا، وهل مثل هذا الانحلال والانفلات الأخلاقي والقيمي أودى بمتطرفي تنظيم داعش في العراق لكي يقدموا للعالم صورة إنسانية للإسلام ؟ الجواب يأتي بالنفي أيضاً.
أمثال الجرائم التي قادتها داعش وغيرها من الحوادث المثيرة كفيلة بتحقيق انتصار مؤقت لدى المتطرفين دينياً المرابطين على الشاطئ الآخر، ولو أفردت حديثاً عن مثالب الحكام المسلمين الذين سموا أنفسهم بالخلفاء أولئك الذين حكموا مصر وغيرها من الأمصار في الدولة الفاطمية والأيوبية والإخشيدية لما انتهينا ولا انتهت صفحات الكتابة، لكن القضية التي أركز عليها هنا في حدود مساحة المقال أذن نحن دوما في مواجهة حربية مع الآخر، دون أن يكترث هو بالبناء والتعمير وإنشاء حضارته وتحقيق إنسانيته.
مشكلتنا الإنسانية هي بحق ليست في الدين، وليست في المخالفين لعقائدنا نحن، إنما تكمن في فهمنا للدين وقواعده وإدراك حجم السماحة المطلقة لقبول الآخر هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان موضوع مقال سابق عن التنوع الثقافي الذي بالضرورة يرتبط بالإنسانية المحضة وهي الجانب الذي نحتفظ به اسماً فقط دون الصفة، لأننا بالفعل غابت عنا الإنسانية بقيمها وأفعالها الحميدة وطفقنا نتفاخر بالكوارث التي تقع للآخرين وكأننا بذلك حققنا انتصاراً ، وليتنا أفلحنا في تحقيق إرادتنا وعبرنا صوب الإنسانية.
وهذه الإنسانية المفقودة لن تتحقق إلا بمزيد من رؤيتنا لأنفسنا من الداخل، مناقبنا ومثالبنا، أخطائنا ومحاسننا ونواقصنا المستعرة، لماذا هذا الغضب الإنساني المحتدم داخل أنفسنا وأصبحنا اليوم مؤهلين تماما للنيل من الآخر على حساب تنمية الذات والاهتمام بنواقصنا الشخصية ؟
المشكلة الراهنة أننا استمرأنا النظر في مرايا الآخرين وقمنا طوعاً بتحطيم مرايانا التي يجب أن نرى فيها أنفسنا أولا ثم نهتم بالآخر، ورغم أننا بالضرورة مطالبون بالاهتمام بتنمية الآخرين لكننا مصرين على الاستمرار في عمليات الهدم والتحطيم غير مبالين بأننا نسير في طريق واحد. وربما نعرج قليلاً عن موضوع المقال لنشير أن هناك أناساً يأملون في فشل نهضة تأسيس هذا الوطن، فنراهم ليل نهار على شبكات التواصل الاجتماعي يهللون فور سماعهم لأي إخفاق يواجه مسيرة الحراك الثوري السوداني، وهذا ذكرني بما كان يصنعه هؤلاء المتطرفون نفسيا قبل دينيا حينما كانوا يستهزئون طويلاً أمام أية أنباء تتعلق بالمجهودات الجبارة التي قادها رئيس الوزراء المستقيل د.عبدالله حمدوك إبان توليه منصب رئيس وزراء حكومة الثورة، وتراهم سعداء وأكثر شماتة حينما نقرأ أخباراً تتصل بتعرقل وتعثر كل خطوة تقربنا من تحقيق حلمنا المنشود ، وآخرين يقيمون الأفراح والليالي الملاح وهم يتابعون انقطاع الكهرباء أو الامداد المائي أو اختفاء الدواء في اي بقعة من البلاد.
ولهؤلاء جميعاً الذين غشيتهم السياسة بممكنها ومستحيلها نقول إن السودان أرضنا وأرضكم إن قررتم العيش معنا ،وإما السفر إلى قطر أو تركيا أو ماليزيا أو أية جهة من الجهات الراعية والداعمة لتنظيماتكم أو السفر إلى البلدان الراعية لمقاومة إعمار بلادنا والداعمة للثورات المضادة، هؤلاء الذين تطرفوا دينياً بغير فهم حقيقي للدين ومعالمه لم ينتبهوا أننا جميعاً نأمل في إيجاد حلول سريعة لعلاج مرض بلادنا، لكن حالة العمى والغفلة التي اكتسبوها نتيجة احقادهم واطماعهم جعلتهم غير مبالين للإنسانية التي ينتمون إليها. وإذا كانوا يهللون لانقطاع الكهرباء أو إنعدام الأدوية أو لظاهرة تسول بعض السودانيين في بعض الأقطار الشقيقية الذين تم النصب عليهم دليلاً على فشل الوطن فإن ذلك متوافقاً تماماً مع حالاتهم النفسية التي تأبى الحياة في الضوء وداخله.
الحكاية كلها تتعلق بالإنسانية المفقودة التي نطمح إليها، وكم من آية قرآنية تحث على ذلك، وكم من حديث شريف لرسولنا الكريم يؤكد هذا المعنى، ونهاية الحكاية أن تهتم بنفسك أولاً حقق إرادتك الإنسانية حينما تنجح مع ربك، وتنجح في عملك وتنجح وسط أسرتك الصغيرة، أن تكون إنساناً وقتما تدرك أنك تعيش على هذه الأرض الطيبة.
mido34067@gmail.com
///////////////////////////
لأنها ليست الأكثر غموضاً فهي سريعة السقوط وقليلة الصمود إزاء إحداثيات الوطن، هكذا يمكن توصيف حال ومقام تيارات الإسلام السياسي أو الجماعات السيسيودينية التي اعتلت صدارة المشهد السياسي في الشرق الأوسط تحديدا منذ استقرار نظرية الفوضى الخلاقة أمريكية التصنيع والتعليب والتي تجسدت بوضوح باستغلال فيما عُرف بثورات الربيع العربي وإن كان البعض يرى أن الثورات أسوأ خريف يمر بالمنطقة كلها، وهي في حقيقة التأويل السياسي لم تخرج عن فلك الانتفاضات الشعبية غير المنظمة في معظم البلدان التي قامت بها، وبرغم أن الصورة الإعلامية التي صورت تلك التيارات السياسية التي استهدفت جمهورها من بوابة الفقر الديني لديهم انحصرت في كونها تيارات سرية وغامضة مما يعتقد الكثيرون أنهم الأكثر حراكا وقدرة على التنظيم والاستهداف المباشر، إلا أن الحقيقة النفسية لتلك التيارات لا تؤكد ذلك أو تشير إليه من قريب أو بعيد.
فالمستقرئ لحركات الإسلام السياسي منذ اشتعال الفكر الوهابي في شبه الجزيرة العربية مروراً بالحركات المزجية بين الدين والسياسية في السودان ومصر وسوريا والعراق وتونس ، يدرك أن هذه الفرق بعيدة تمام البعد عن تطوير الاستخدام السياسي مما جعلها أكثر سطحية ومباشرة لا غموضاً وسرية ويكفي تحركات ما بعد ثورة ديسمبر المجيدة في السودان 2019 وثورة 30 يونيو 2013 في مصر ليكونا خير شاهد ودليل على افتقار هذه الفصائل والتنظيمات الإسلامية إلى سرية التكوين والتنفيذ. لكن ظل الغموض فقط مصاحباً لسير المؤسسين لهذه التيارات، فمن بالغ الصعوبة أن تجد سيرة لهؤلاء الذين صاغوا حركاتهم سيرا بأقلام غير المريدين لهم، بل إن قصص حيواتهم تظل رهن الاستقطاب التمييزي ولا تقترب إلى حد المكاشفة التاريخية رغم وجودهم التاريخي.
وكون هذه الحركات لا تفكر في تطوير المصطلح السياسي لديها فهي الأقرب إلى الجمود منه إلى الفعالية والنشاط حتى وإن كانت قادرة على التحشيد، لكن الشهود الحضاري يفي بأنها على علاقة مستدامة بفكرة الامتلاء السياسي ومن ثم الاكتفاء الفقهي ووجود مرجعية ثابتة لا تعرف للاختلاف سبيلاً ولا تفطن للتعددية طريقا.
وهذا الامتلاء السياسي هو الدافع الحقيقي وراء معظم أفكار تيارات وحركات وأنظمة الإسلام السياسي، وهذه الأفكار شكلت منظومة أيديولوجية يمكن توصيفها في ملامح محددة، منها ضرورة التغيير الشامل وليس التطوير الجزئي، ورغم ما يشاع عن تيارات الإسلام السياسي ومنها تنظيم الحركة الإسلامية بالسودان بأنها تسير بخطى وئيدة حتى تحقيق أهدافها فإنها بالفعل تنظيم يمتلك حيلة ومزية الصبر، لكنه يفتقد فضيلة التواضع لأن أبرز عوامل سقوط النظام (الحركة) سياسيا هو الاستعلاء السياسي الذي مورس من قبلهم على قطاعات عريضة من الشعب. وظل الاستعلاء كسمة مصاحبة لهذه التنظيمات والتيارات في نمائه حتى أصيب بحالة من التضخم الذاتي للقيمة مما دفعها جميعاً إلى عدم الاكتراث بأية تنظيمات أخرى.
وليس من المنطق أن تحدث تغييرا شاملاً إلا إذا كنت نبياً يوحى إليك ولست بشراً عادياً ربما لا تمتك قدرات استثنائية، لكن هاجس التغيير الشامل ظل وسيظل محركاً لكافة الممارسات السياسية لتلك الجماعات دون أدنى اعتبار لوقع الشارع وأدائه.
ومن ملامح الأيديولوجية أيضاً عقب فشلهم ثم سقطوهم في السودان بعد انتفاضة ديسمبر المجيدة استخدام خطاب المظلوم سياسيا والذي يعاني دوما(الإقصاء) عن المشاركة السياسية وربما انتفاء الذوبان المجتمعي اللهم سوى الذوبان داخل التنظيمات الخاصة فقط، مما أدى إلى استسلام المنتمين إلى تلك الحركات إلى نهايات التهميش والاضطهاد من قبل طبقات المجتمع، لذلك لم يكن عجباً أن يسعى نظام (الكيزان) في السودان في ذلك الوقت إلى تهميش الجميع حينما وصلوا إلى سدة الحكم وهو ما أطلق عليه آنذاك أسلمة (كوزنة)مفاصل الدولة.
وتلك الحالة الاضطهادية التي لا تزال محل شعور الجماعة أو التيارات التي اقتحمت العمل السياسي من بوابة الدين واستهداف فقر المواطن دينيا ومعرفيا جعلت المنتمي إليها يرى المجتمع منحرفاً عن الوجهة الصحيحة التي تلقى تعاليمها أو مواصفاتها في نفس الوقت الذي تتنامى لديه عقدة الشعور بالظلم مما يجعله حاكماً على مجتمعه بالكفر، وفي كثير من الأحايين يرى وجوب محاربة العدو القريب بدلاً من أعداء الخارج وهو ما نراه واضحاً في حالتي الجماعة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش مثلاً).
هناك أمر لافت في التاريخ أنه لا يكاد يوجد فئة أعلنت تصورًا معينًا أو خصومة معينة مع الوضع القائم، إلا وتصل تصوراتها بعد حين إلى السلطة، كافة الفرق الإسلامية على سبيل المثال لا يمكن لفرقة أن تزعم أنها لم تعط في التاريخ فرصتها، إنما يمكن أن يقال إنها استنفدت أفكارها التي طرحتها فحسب، فمثلًا من خاصم الأمويين بزعم أن الخلافة يجب أن تكون في آل البيت، استنفدت أفكاره حينما وصلت السلطة إلى شخصيات من آل البيت، في الواقع لم يعد في جعبته أي شيء يقوله بعد ذلك. الأمر نفسه ينطبق على السلوك المعارض الذي أجهد نفسه في جواز الدخول في البرلمانات، ثم دخلها، لم يعد له رصيد من الأفكار أكثر مما جرى تحقيقه، كذلك فكرة إعلان الخلافة، كانت شغلًا شاغلًا لأغلب الجماعات الحركية الإسلامية، وحين أعلنت، ذهب البريق، والواقع أن أكثر الجماعات كانت تصور المسألة كحل سحري، وغالبًا ما كان في كل الفرق التاريخية هذا التصور، كجعل الخلافة في آل البيت حلًا سحري وهكذا، ويفترض التنبه للخيط الدقيق بين (لم يأخذ فرصته) وبين (لقد استنفد أفكاره حتى النهاية بحيث لم يعد له ما يقول)( فغالبًا ما يجعل الأنصار الأولى في الثانية!
وهذا ما وجدناه رأي العين في كتاب "الفريضة الغائبة" حينما نطالع قولاً يرى أن قتال العدو القريب داخل الوطن أولى من قتال العدو البعيد، وإذا استرجعنا وعي هؤلاء بذواتهم المضطهدة من وجهة نظرهم والمهمشة بفضل ممارسات الأنظمة السياسية التي لم تر نفعاً في دمج هذه التيارات داخل سياق المجتمع، نكتشف مشاهد الثأر المستدامة صوب بعض الفئات وهذه المشاهد نراها متأصلة في تاريخ التنظيمات والجماعات التي وصفت مؤخرا بالإرهابية.
والثأر كسمة تعد ملمحاً مهماً ونحن بصدد تحليل الحالة النفسية لتيارات الإسلام السياسي، لأن موقف الثأر الدائم يفرض على تلك التنظيمات والجماعات وجود حالة من التعبئة الدائمة للصراع حول السلطة ومن أجل الحكم والذي انتقل مؤخراً بفضل البلادة السياسية لهذه الحركات إلى الصراع مع كل فئات المجتمع الرافضة لوجودها نظراً لأعمال العنف والإرهاب وترويع الآمنين.
وربما أساتذتنا من علماء النفس الذين غرقوا حتى آذانهم في أوراقهم التي لا تخص سواهم غفلوا عن حقيقة تصل إلى تمام الشهود الحضاري وهي سيطرة اللاوقعي على فكر وسلوك تلك التنظيمات والفصائل السيسيودينية. وسيطرة اللاوقعي تعني أنهم فقدوا السيطرة في التمييز بين السلطة كنظام سياسي حاكم وبين المواطنين كأفراد مستقلين يشكلون المجتمع الكبير. فرأينا حوادث القتل في الشوارع وفي الجامعات وتدمير بعض أعمدة كهرباء الضغط العالي وتخريب مصفأة النفط والبترول وحوادث الترويع وإشاعة الخوف والإنفلات الأمني وانتشار البلطجة وأعمال السلب والنهب نهارا جهارا كذلك الترويع من تفجيرات قادمة مرتقبة الأمر الذي يدعو إلى مزيد من الدراسات السيكولوجية لطبيعة شخصيات المنتمين لتلك التنظيمات و الفصائل.
وبسبب سيطرة اللاوقعي على فكر تنظيمات الإسلام السياسي كانت الدعوة إلى إحياء فكرة الخلافة، والانفصال عن الوطن وقضاياه ومشكلاته الاجتماعية والاقتصادية وغلق فكر الاجتهاد إلى منتهى غير معلوم، وبات الأمر في البداية شركاً أوقع الكثير من البسطاء في فخاخه وأوكاره، لاسيما أولئك الذين استمرأوا ثقافة الاستماع دون اكتراث بفعل القراءة والتأويل وتحليل المعطيات. ورغم طموحات المغامرين بفكر الخلافة إلا أنهم سقطوا وطنياً حينما سقطت دولتهم بإرادة وثورة شعبية تخلوا عن مزاعمهم تلك من وتحولت فكرة الأحرار المجاهدين بدلاً من الذهاب إلى القدس لتحريره إلى حرب ضد العدو القريب الوطن والمواطنين في الداخل.
وربما لم تدرك تلك التنظيمات والفصائل الحراك السياسي التركي نحوها ومدى الاهتمام المدهش في رصد أنشطتها ودعمها واحتواء من يلجأ هاربا إليها ، لكن ثمة أسئلة ربما تفضح الاتراك، منها لماذا لم تتحرك تركيا بنفسها وتعلن مزاعم عودة الخلافة المنشودة وتذهب مباشرة تجاه إسرائيل لتخليص القدس من براثنها ومخالبها ومخططاتها الخبيثة ؟
ولماذا تأخرت تركيا كل هذا الوقت في مساندة حليف يحمل نفس الحلم القديم وهو الخلافة وانتظرت حتى بزوغ تيارات الإسلام السياسي في السودان ومصر وتونس والعراق؟ويظل تساؤل آخر يبدو مهماً وهو أن تركيا التي تلهث وراء ترويج منتجات الشرعية وتحالف القوى الوطنية هي نفسها التي تؤكد ليل نهار أنها استحالت حضنا هادئاً وناعماً للعلمانية، وأنها لن ترجع خطوة واحدة مرة أخرى للوراء؟ لكن مشكلة تيارات السيسيودينية أنها لم تعي إلى مشاهد المباحثات الأمريكية التركية أو التركية الصهيونية، وربما هذا المشهد يدرج أيضاً تحت السمات المميزة لتيارات الإسلام السياسي ألا وهو الغفلة..!.
ومن الأكثر دهشة وإثارة غبطة المنتمين لتيارات وتنظيمات الإسلام السياسي لاسيما الجماعات المتطرفة منها إلى الأخبار التي تفيد وقوع كارثة أو مصيبة بشأن المخالف لها في العقيدة أولاً، أو في الأيديولوجية الفكرية ثانياً ؛ ولهم نقول مجدداً هل مثل هذه الأخبار أعزت بالاسلام ؟ بالطبع لا، وهل مثل هذا الانحلال والانفلات الأخلاقي والقيمي أودى بمتطرفي تنظيم داعش في العراق لكي يقدموا للعالم صورة إنسانية للإسلام ؟ الجواب يأتي بالنفي أيضاً.
أمثال الجرائم التي قادتها داعش وغيرها من الحوادث المثيرة كفيلة بتحقيق انتصار مؤقت لدى المتطرفين دينياً المرابطين على الشاطئ الآخر، ولو أفردت حديثاً عن مثالب الحكام المسلمين الذين سموا أنفسهم بالخلفاء أولئك الذين حكموا مصر وغيرها من الأمصار في الدولة الفاطمية والأيوبية والإخشيدية لما انتهينا ولا انتهت صفحات الكتابة، لكن القضية التي أركز عليها هنا في حدود مساحة المقال أذن نحن دوما في مواجهة حربية مع الآخر، دون أن يكترث هو بالبناء والتعمير وإنشاء حضارته وتحقيق إنسانيته.
مشكلتنا الإنسانية هي بحق ليست في الدين، وليست في المخالفين لعقائدنا نحن، إنما تكمن في فهمنا للدين وقواعده وإدراك حجم السماحة المطلقة لقبول الآخر هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان موضوع مقال سابق عن التنوع الثقافي الذي بالضرورة يرتبط بالإنسانية المحضة وهي الجانب الذي نحتفظ به اسماً فقط دون الصفة، لأننا بالفعل غابت عنا الإنسانية بقيمها وأفعالها الحميدة وطفقنا نتفاخر بالكوارث التي تقع للآخرين وكأننا بذلك حققنا انتصاراً ، وليتنا أفلحنا في تحقيق إرادتنا وعبرنا صوب الإنسانية.
وهذه الإنسانية المفقودة لن تتحقق إلا بمزيد من رؤيتنا لأنفسنا من الداخل، مناقبنا ومثالبنا، أخطائنا ومحاسننا ونواقصنا المستعرة، لماذا هذا الغضب الإنساني المحتدم داخل أنفسنا وأصبحنا اليوم مؤهلين تماما للنيل من الآخر على حساب تنمية الذات والاهتمام بنواقصنا الشخصية ؟
المشكلة الراهنة أننا استمرأنا النظر في مرايا الآخرين وقمنا طوعاً بتحطيم مرايانا التي يجب أن نرى فيها أنفسنا أولا ثم نهتم بالآخر، ورغم أننا بالضرورة مطالبون بالاهتمام بتنمية الآخرين لكننا مصرين على الاستمرار في عمليات الهدم والتحطيم غير مبالين بأننا نسير في طريق واحد. وربما نعرج قليلاً عن موضوع المقال لنشير أن هناك أناساً يأملون في فشل نهضة تأسيس هذا الوطن، فنراهم ليل نهار على شبكات التواصل الاجتماعي يهللون فور سماعهم لأي إخفاق يواجه مسيرة الحراك الثوري السوداني، وهذا ذكرني بما كان يصنعه هؤلاء المتطرفون نفسيا قبل دينيا حينما كانوا يستهزئون طويلاً أمام أية أنباء تتعلق بالمجهودات الجبارة التي قادها رئيس الوزراء المستقيل د.عبدالله حمدوك إبان توليه منصب رئيس وزراء حكومة الثورة، وتراهم سعداء وأكثر شماتة حينما نقرأ أخباراً تتصل بتعرقل وتعثر كل خطوة تقربنا من تحقيق حلمنا المنشود ، وآخرين يقيمون الأفراح والليالي الملاح وهم يتابعون انقطاع الكهرباء أو الامداد المائي أو اختفاء الدواء في اي بقعة من البلاد.
ولهؤلاء جميعاً الذين غشيتهم السياسة بممكنها ومستحيلها نقول إن السودان أرضنا وأرضكم إن قررتم العيش معنا ،وإما السفر إلى قطر أو تركيا أو ماليزيا أو أية جهة من الجهات الراعية والداعمة لتنظيماتكم أو السفر إلى البلدان الراعية لمقاومة إعمار بلادنا والداعمة للثورات المضادة، هؤلاء الذين تطرفوا دينياً بغير فهم حقيقي للدين ومعالمه لم ينتبهوا أننا جميعاً نأمل في إيجاد حلول سريعة لعلاج مرض بلادنا، لكن حالة العمى والغفلة التي اكتسبوها نتيجة احقادهم واطماعهم جعلتهم غير مبالين للإنسانية التي ينتمون إليها. وإذا كانوا يهللون لانقطاع الكهرباء أو إنعدام الأدوية أو لظاهرة تسول بعض السودانيين في بعض الأقطار الشقيقية الذين تم النصب عليهم دليلاً على فشل الوطن فإن ذلك متوافقاً تماماً مع حالاتهم النفسية التي تأبى الحياة في الضوء وداخله.
الحكاية كلها تتعلق بالإنسانية المفقودة التي نطمح إليها، وكم من آية قرآنية تحث على ذلك، وكم من حديث شريف لرسولنا الكريم يؤكد هذا المعنى، ونهاية الحكاية أن تهتم بنفسك أولاً حقق إرادتك الإنسانية حينما تنجح مع ربك، وتنجح في عملك وتنجح وسط أسرتك الصغيرة، أن تكون إنساناً وقتما تدرك أنك تعيش على هذه الأرض الطيبة.
mido34067@gmail.com
///////////////////////////