الاستقلال من داخل البرلمان فكرة بريطانية خالصة (3) بقلم: دكتور فيصل عبدالرحمن علي طه

 


 

 



ftaha39@gmail.com

مصر تحاول إحباط الخطة
لإحباط الخطة البريطانية لاختصار إجراءات تقرير المصير على نحو مختلف عما نصت عليه الاتفاقية الانجليزية - المصرية قامت مصر منفردة وبدون الحصول على موافقة الحكومة البريطانية، بتوجيه الدعوة إلى الدول السبع التي رُشحت لعضوية اللجنة الدولية التي ستشرف على إجراءات تقرير المصير وهي الهند، وباكستان، وسويسرا، ويوغسلافيا، وتشيكوسلوفاكيا، والسويد، والنرويج، وطلبت مصر أن تعقد اللجنة اجتماعها الأول خلال الأسبوع الأخير من أكتوبر .1955 وبررت الحكومة المصرية العجلة بأنه وفقاً للمذكرات المتبادلة التي ألحقت بالاتفاقية الإنجليزية - المصرية، فقد أنيط باللجنة أن تنظر ضمن أمور أخرى «مسألة القيادة العليا للقوات المسلحة السودانية عند إتمام سحب القوات المصرية والبريطانية من السودان وفي الفترة التي تعقب هذا الانسحاب». ومعلوم أن خروج هذه القوات من الأراضي السودانية كان سيكتمل في 13 نوفبمبر 1955.
أكبرت صحيفة «الأهرام» خطوة الحكومة المصرية وقالت إن الدبلوماسية المصرية قد تغلبت على المناورة الانجليزية التي تهدف إلى تمكين إسماعيل الأزهري من تحويل البرلمان السوداني القائم إلى جمعية تأسيسية لها سلطة تقرير المصير.
أبلغت مصر الحكومة البريطانية بخبر الدعوات التي وجهتها بمذكرة بتاريخ 19 أكتوبر 1955. وقد عبر السفير تريفليان عن استغرابه لذلك في مذكرة سلمها إلى زكريا محيي الدين وزير الداخلية ووزير الدولة لشؤون السودان عندما التقاه في 22 أكتوبر 1955 لأن الدعوة تمت على أساس مسودة مهام اللجنة الدولية التي لم يفرغ الطرفان من مناقشتها. كما أن الاتفاق الإضافي المتعلق بإنشاء اللجنة الدولية لم يبرم بعد. يضاف إلى ذلك أن هاتين الوثيقتين لا تأخذان في الاعتبار قرار البرلمان السوداني بشأن الاستفتاء الأمر الذي يستوجب إدخال تعديلات عليهما. وبالطبع لم يغفل تريفليان الإشارة إلى  التصريح الذي أدلى به أزهري إلى وكالة الأنباء العربية في 18 اكتوبر 1955 فاتخذه أساساً لدعوة مصر للتريث لأن البرلمان السوداني ربما يصدر قراراً إضافياً يؤثر على العمل المطلوب من اللجنة القيام به.
في نفس لقاء يوم 22 اكتوبر سلم زكريا محيي الدين السفير تريفليان مذكرة أعلنت مصر بموجبها قبولها رسمياً لقرار الاستفتاء الذي أصدره البرلمان السوداني في 29 أغسطس 1955، ودعت الحكومة البريطانية للدخول معها في مفاوضات لتعديل الاتفاقية الانجليزية - المصرية تمشياً مع رغبة الشعب السوداني.

بريطانيا تحاصر الإجراء المصري
ولمحاصرة الإجراء المصري قامت الحكومة البريطانية من جانبها بإبلاغ الدول السبع المرشحة لعضوية اللجنة الدولية بأن الدعوة المصرية تمت بدون رغبتها كما شرحت لها وجهة نظرها بشأن الموضوع. فبالإضافة إلى ما أوردنا في الفقرة قبل الفائتة، أبلغت بريطانيا تلك الدول بأن السودانيين يفضلون بشكل متزايد الحصول على الاستقلال بدون اللجوء إلى استفتاء أو إلى الجمعية التأسيسية. وأبلغتها كذلك بأن إعلاناً بمقتضى الأسس التي أشار إليها إسماعيل الأزهري في تصريحه بتاريخ 18 أكتوبر 1955 لن يقدم إلى البرلمان السوداني قبل يوم 3 نوفمبر 1955 وهو تاريخ إنعقاد البرلمان. فربما يطلب البرلمان تعديل الاتفاقية الإنجليزية - المصرية وأن يعهد إليه القيام بسلطات الجمعية التأسيسية المنصوص عليها في المادة 12 من الاتفاقية، أو قد يطلب البرلمان من دولتي الحكم الثنائي أن تعترفا مباشرة باستقلال السودان وأن تخوله سلطة وضع الدستور، وعندئذ لن تكون هناك حاجة للجنة الدولية.
ولم تر الحكومة البريطانية ضرورة لاجتماع اللجنة الدولية قبل 13 نوفمبر 1955 لأن القيادة العليا للقوات المسلحة السودانية ستستمر تلقائياً مخولة للحاكم العام بموجب المادة 11 من دستور الحكم الذاتي إلى أن يُعدل الدستور بموجب توصية من اللجنة الدولية. وحتى إذا لم تبق هناك حاجة للجنة الدولية فإن الحاكم العام سيظل القائد الأعلى للقوات المسلحة حتى ينتهي الحكم الثنائي، أو تتفق دولتا الحكم الثنائي على ترتيب آخر. وفي هذه الحالة الأخيرة فإن المادة 11 لا يمكن أن تُعدل إلا وفقاً للمادة 101 من الدستور بقرار يجاز بأغلبية ثلاثة أرباع أعضاء البرلمان في جلسة مشتركة لمجلسي النواب والشيوخ.
عموماً كانت الحكومة البريطانية تعتقد أن مصر قامت بدعوة اللجنة الدولية للانعقاد حتى يتسنى لها أن تدفع بأن عملية تقرير المصير قد أصبحت بيد اللجنة تماماً ولم يعد من الوجهة القانونية بإمكان دولتي الحكم الثنائي تعديل إجراءات عملية تقرير المصير كما نصت عليها الاتفاقية.
قبلت تشيكوسلوفاكيا وحدها دعوة مصر. أما الدول الأخرى فقد اشترطت لتفعيل عضويتها في اللجنة تلقى الدعوة من دولتي الحكم الثنائي معاً، ولم يحدث هذا.

فشل المحاولة الأولى لتقرير المصير في 3 نوفمبر 1955
سبق أن ذكرنا أن الخطة البريطانية لاختصار إجراءات تقرير المصير قد قوبلت في بادئ الأمر بالرضا من قبل الحكومة والمعارضة. ولكن في اجتماع اللجنة القومية للأحزاب الذي عقد في 26 أكتوبر 1955 وشارك فيه ممثلون للحكومة ولأحزاب المعارضة تباعدت المواقف وبرزت خلافات كبيرة ضاعت في خضمها فرصة تقديم إقتراح في 3 نوفمبر 1955 لتقرير مصير السودان من داخل البرلمان. فقد رفض الفكرة من أساسها محمد نورالدين ممثل الجبهة الاتحادية لأن البرلمان القائم لا يمثل دعاة الاتحاد مع مصر بالقدر الكافي. وفضل يوسف العجب ممثل الحزب الجمهوري الاشتراكي وبنجامين لوكي رئيس حزب الأحرار الاستفتاء الشعبي. وارتاب ميرغني حمزة رئيس حزب الاستقلال الجمهوري وحسن الطاهر زروق ممثل الجبهة المعادية للإستعمار في دوافع بريطانيا لتأييد اختصار إجراءات تقرير المصير، وتخوفا من أن يثير تقديم اقتراح في البرلمان لتحقيق ذلك خلافات لا حد لها بين دولتي الحكم الثنائي. وقال حسن الطاهر زروق إن حزبه لا يوافق على إعطاء حق المناداة بالاستقلال للبرلمان الحالي لأنه ربما يقع بعض أعضائه تحت تأثير ما ويفضل الاستفتاء الشعبي المباشر الذي يسبقه إطلاق الحريات ليعبر كل فرد عن رأيه في مستقبل البلاد بصراحة.
ووصف ميرغني حمزة الفكرة بأنها خطيرة وقال إنه إذا كانت موافقة دولتي الحكم الثنائي ضرورية فينبغي أن يثور تساؤل أولاً عن مصير طلب البرلمان بشأن الاستفتاء الشعبي واللجنة الدولية ولماذا تلكأتا في الرد عليه فهو أيسر لهما من طلب الاستقلال! ولاحقاً أعلن حزب الاستقلال الجمهوري الذي يترأسه ميرغني حمزة رفضه إعلان البرلمان القائم للاستقلال لأنه سيثير مشاكل عديدة وطالب بدعوة اللجنة الدولية للإشراف على عملية تقرير المصير وانتخاب الجمعية التأسيسية.
أما رأي حزب الأمة فقد كان أن يعلن البرلمان استقلال السودان ومن ثم قيام حكومة قومية. وقد شكك الحاكم العام في قانونية هذه المقاربة. وبرر حزب الأمة ذلك بأن مواجهة دولتي الحكم الثنائي بأمر واقع fait accompli سيجنب الخلاف الذي قد ينشأ بين دولتي الحكم الثنائي إذا طُلب منهما الإعتراف بأن يصبح السودان مستقلاً.
أعلن إسماعيل الأزهري رئيس الوزراء بنفسه تعذر الاتفاق على قرار يقدم للبرلمان بشأن تقرير المصير وأبلغ الحاكم العام بذلك. وفي تصريح أدلى به في 29 أكتوبر 1955 قال أزهري إنه «سيمضي بعض الوقت قبل أن تستكشف الأحزاب السياسية بالكامل احتمال صدور قرار من البرلمان الحالي. وإلى أن يُقبل أو يُرفض، فإن الحكومة ستمضي على افتراض أن المستقبل سيقرر بالاستفتاء أو بموجب الأسس التي نصت عليها الإتفاقية. لقد بقي من الفترة الانتقالية أربعة عشر شهراً وليس هناك عجلة. فبعد أشهر قليلة سيكون من الممكن إجراء انتخابات في كل أنحاء البلاد. في الوقت الحاضر من المهم أن نتلقى رداً بشأن رغبة البرلمان في إجراء استفتاء وتشكيل اللجنة الدولية».
وللجنوب رأي آخر
ازدادت صعوبة إحتمال صدور قرار من البرلمان بشأن تقرير المصير مستقبلاً ببرقيتين بعث بهما رئيس حزب الأحرار بنجامين لوكي في 31 أكتوبر 1955 إلى دولتي الحكم الثنائي والحاكم العام ورئيس الوزراء ورئيسي مجلسي الشيوخ والنواب. في البرقية الأولى قال لوكي إنه نظراً للأوضاع الراهنة في المديريات الجنوبية، فإن حزب الأحرار غير مستعد لمناقشة مستقبل السودان في البرلمان. وفي البرقية الثانية قال لوكي إنه نظراً للاضطرابات الأخيرة في جنوب السودان والإكراه والاضطهاد والظلم الذي يمارسه الشماليون على الجنوبيين، فإن على الشمال أن يمضي لوحده نحو تقرير المصير، وأما الجنوب فيبقى تحت هيئة دولية بإشراف الأمم المتحدة كدولة تتمتع بالحكم الذاتي. وذكر لوكي في البرقية أن طلبهم هذا جاء نتيجة لرفض الشماليين لمطلب الجنوبيين للفدريشــن وإغـــلاق بريطانــيا ومصر آذانها إزاء مناشدات الجنوبيين.
جاء في تعليق وزارة الخارجية البريطانية على البرقية الأولى أنه إذا رفض حزب الأحرار الجنوبي مناقشة مستقبل السودان في البرلمان فسيكون من الصعب تبرير أي محاولات تقوم بها الحكومة البريطانية لإقناع المصريين بالموافقة على تقصير إجراءات تقرير المصير إذا طلب البرلمان السوداني ذلك. إذ أنه سيبدو أنهــــــا تعمــل ضــد رغبـــــــة الجنوبيين.

استياء عبدالناصر لما يجري في السودان
في اجتماع غير رسمي في 29 أكتوبر 1955 مع المستشار الشرقي بالسفارة البريطانية في القاهرة، أبدى عبدالناصر عدم رضائه عما يجري في السودان واتهم البريطانيين بالعمل مع السودانيين لحشر المصريين في زاوية. وقال إنه وفقاً لتقارير موثوق بها تلقاها من الخرطوم، فإن وليام لوس قد حث رئيس الوزراء السوداني لإصدار إعلان من البرلمان السوداني باستقلال السودان وأبلغه بأن الحكومة البريطانية ستعترف بذلك. وعبر ناصر عن خيبة أمله لأن ذلك حدث بعد أن أكد له السفير تريفليان عندما استقال صلاح سالم بأن السياسة البريطانية هي أن تعمل الحكومتان البريطانية والمصرية معاً فيما يتعلق بالشأن السوداني. وأضاف عبد الناصر بأنه على قناعة بأن هدف السياسة البريطانية هو إبقاء الحاكم العام في منصبه بعد إعلان البرلمان السوداني للاستقلال وخلال فترة إعداد الدستور، ودلل على ذلك بموقف الحكومة البريطانية من مسألة القيادة العليا للقوات المسلحة السودانية بعد انسحاب القوات المصرية والبريطانية من السودان.
وتخوف عبدالناصر من أنه إذا عُهد للبرلمان السوداني بعملية تقرير المصير، فإن أزهري سيبقى في السلطة، وسيبقى البرلمان الذي لم يعد ممثلاً للشعب إلى أجل غير محدد. وفي ختام حديثه قال عبدالناصر إنه إذا كانت سياسة بريطانيا هي محاولة حشر المصريين في زاوية، فإن مصر ستفعل نفس الشيء لبريطانيا . ولذلك فإذا أعلن البرلمان السوداني الاستقلال واعترفت به الحكومة البريطانية دون  إعتبار لوجهة النظر المصرية، فإن الحكومة المصرية ستعلن أنها لم تعد ملزمة بالاتفاقية. لم يحدد عبد الناصر الاتفاقية التي عناها، ولكننا نرجح أن تكون اتفاقية عام 1953 بشأن السودان.
وهكذا ضاعب فرصة تقرير المصير من داخل البرلمان عندما ينعقد في 3 نوفمبر 1955. وعادت الاوضاع مرة أخرى إلى المربع الأول. الاستفتاء واللجنة الدولية.

 

آراء