الاسلاميون وغيبوبة المعني!
هل كان البون شاسعا بين الامريكي سايمون عبدالملك عليم وهو يستنجز دراسته الذائعة عن الاسلام السياسي والممارسات الحضرية في السودان وبين الدكتور محمد مختار الشنقيطي وهو يتصدر انشطة المراجعات الفكرية لتراث المفكر الراحل الشيخ حسن الترابي؟
هل كان البون شاسعا بين الامريكي سايمون عبدالملك عليم وهو يستنجز دراسته الذائعة عن الاسلام السياسي والممارسات الحضرية في السودان وبين الدكتور محمد مختار الشنقيطي وهو يتصدر انشطة المراجعات الفكرية لتراث المفكر الراحل الشيخ حسن الترابي؟
جاء سايمون الي الخرطوم في منتصف ثمانينات القرن الماضي ليقف علي تجربة الاسلام السياسي ومدافعاته الاجتماعية والسياسية اثناء حقبة الديمقراطية الثالثة، بينما جاء الدكتور محمد مختار الشنقيطي بعده بأكثر من ثلاثة عقود وهو يدلي بشهادته التاريخية عن الاجتهادات الفكرية للشيخ حسن الترابي و يشهد حصاد التجربة العملية للاسلام السياسي في الحكم..
كنت مندهشا من ظاهرة الغريب الوافد الذي يحمل مصباح الحكمة وهو يعيد اكتشاف التراث الفكري الذي خلفه المفكر الراحل الشيخ حسن الترابي.
"انه الجوع الفكري" ... تلك كانت اجابة احد القيادات البارزة وهو يقدم تفسيرا عفويا لهجمة الشباب علي الدكتور محمد مختار الشنقيطي وهو يترجل من منصة الاحتفال بقاعة الصداقة الاسبوع قبل الماضي لتدشين كتاب ( الاثر الباقي..حسن الترابي : توقيعات علي كتاب الرحيل) اذ شق طريقه بصعوبة وسط حشود الشباب الذين كانوا يتطلعون للحديث معه او التقاط صورة تذكارية او اجراء حوار او مقابلة صحفية، واضطر تحت ضغط البرنامج ان يقيم خلال ثمانية واربعين ساعة مدة إقامته في السودان ست محاضرات عامة وعدد غير قليل من المقابلات الصحفية في الوسائط المسموعة والمقروءة.
هل كان ذلك الشباب المحتشد يبحث عن صوت من الخارج ينصف ويمجد التراث الفكري للشيخ الراحل حسن الترابي وسط ارهاصات الهزيمة السياسية لمشروع الإسلاميين في السودان؟ فقد سبق وان انُصِفٓ ذلك التراث الاجتهادي من قبل راشد الغنوشي من تونس ويوسف القرضاوي من مصر وخالد مشعل من فلسطين، ولكن لماذا حظيت شهادة دكتور الشنقيطي باهمية استثنائية اكثر من غيره ؟
يتساءل سايمون في كتابه ( في اي صورة: الاسلام السياسي والممارسات الحضرية في السودان) ، بان الحركة الاسلامية كانت تمثل في ذلك العهد اطار فكريا وتنظيميا للمهمّشين من قطاعات الشباب والمتعلمين والعاملين في قطاعات الخدمة المدنية الحديثة لإعادة اكتشاف موضعهم المدني والحصري في عالم موّار بالتغيير وفوّار بالتحولات العالمية العميقة. وكان يعني بذلك ان أعضاء تلك الحركة لم تتلبسهم عقد تاريخية كما حدث لشبيهاتها في افريقيا انهم ضحايا التجربة الاستعمارية في العالم الثالث. وكان التنوير الخلاق لهذه الطبقة الجديدة هو الموائمة بين تمثلات الحداثة والتفاعل مع النظام الدولي والحضاري المهيمن وبين مباديءالاسلام الخالدة.
ورث الاسلاميون في اطار مدافعاتهم السياسية تراث الخوف الجمعي في العقل الاجتماعي السوداني الذي ظل مسكونا بمقاومة الهيمنة الغربية تحت مزاعم ان الاستعمار خرج بالباب وعاد بالشباك. ويصف سايمون الحركة الاسلامية وهي تعاظل صنع التغيير الاجتماعي و ادراج مظاهر الحياة العامة تحت مظلة الاسلام بأنها مثل التلاميذ الإصلاحيين للمفكر الألماني ماكس فيبر الذين ينظرون للدين كعامل للتغيير الاجتماعي الثقافي وتكوين هوية جديدة في صيرورة الوعي بالذات.
ونبه سايمون الي ان فرضية الإسلاميين في السودان بربط الكسب الديني مع تحقيق الرفاه الاجتماعي والتقدم الاقتصادي والتنموي بأنها مسألة خلافية فيها نظر علي عكس النموذج الغربي، وهو ما يقع ضمن حياض نظرية ماكس فيبر حول دور البروتستانية الدينية في تخلّق الرأسمالية، من خلال نظرة الدين لقيمة العمل، ويري سايمون ان الإسلاميين وقعوا في تناقض جوهري اذ ينشدون الحداثة انطلاقا من قاعدة التقليد، مشيرا الي ان دور الأحياء الديني يعيد بعث التقاليد والعودة للأصول مما يصطدم مع اطروحات الحداثة ودعوة الإسلاميين لتحقيق دولة الرفاه الاقتصادي والاجتماعي عن طريق تمكين الدين.
يقول سايمون وهو يرصد علاقات الحوار والجدل الداخلي بين الإسلاميين في ثمانينات القرن الماضي انه رغم الانفتاح علي الشوري والحوار المفتوح الا ان الغموض لعب دورا في عدم الأخذ بافضل الاّراء مشيرا الي ان اهمية رأي الفرد داخل مجتمع الإسلاميين تنبع من ارتباطه بالرموز ومكانته الاجتماعية وليس بعضويته الحركية المحضة ،
ان النقد الفاعل والذكي لحركة الاسلام السياسي في السودان اثناء منتصف عقد الثمانينات الذي قدمه سايمون في كتابه المذكور وهو يربط مشروع التغيير الاجتماعي بنخبة المدن المنتسبة لحركة الاسلام السياسي لم ينتبه اليه احد من صانعي السياسات، اذ كانوا جمعيا في عجلة من امرهم نحو السلطة و سرعان ما ظهرت قيمة ذلك النقد والحركة تتسلم مقاليد السلطة السياسية بانقلاب الإنقاذ عام ١٩٨٩.
اتخذ الدكتور محمد مختار الشنقيطي دراسة زعيم الحركة الشيخ حسن الترابي مدخلا لفهم مشروع الاسلام السياسي للتغيير في السودان، وذلك علي عكس سايمون الذي اتخذ من دراسة الحركة وسياقها السياسي وأطروحاتها الفكرية ومحاضنها الاجتماعية مدخلا لفهم مشروعها دون التركيز علي ترميزات زعامتها السياسية والفكرية.
في محاضرته الأولي التي قدمها الدكتور محمد مختار الشنقيطي في مركز الشهيد الزبير للمؤتمرات عن الدين والسياسة اتخذ من هبات الربيع العربي نموذجا لمحاولات التغيير الديمقراطي، واستبان لي اثر الغيبوبة الفكرية في مداخلات الحاضرين التي استحالت الي تصفيق وتهاتف بالشعارات السياسية بين منسوبي المؤتمر الوطني والشعبي. وكان الخيط الناظم الذي يوحدهم هو صوت دكتور الشنقيطي وهو يتحدث عن التراث الفكري والأثر الباقي للشيخ حسن الترابي بعيدا عن السياسة.
وقر في ظني ان الكثرة الحاشدة التي جاءت تستمع للدكتور الشنقيطي وهو يشق طريقه بصعوبة خارج قاعة الصداقة كانت تحن الي صدي صوتها وشعاراتها في زمن مضي عندما كانت المرجعية الفكرية لشيخ الحركة حسن الترابي في أزهي تجلياتها.
وصف احد المراقبين ذلك الحشد بانه اقرب لحولية المتصوفة اذ غشي القوم سكر حلال من فرط كلمات التقريظ والمدح والتطريب الفكري، وحسبها البعض بمثابة استفتاء فكري لأطروحات الشيخ من كثرة ضاقت بها ارجاء المكان، وعدها البعض رد اعتبار لمكانة الرجل التاريخية. لكن المعني الرمزي لتلك الشعارات والهتافات التي كانت تخرج من الجمهور المحتشد في معظم ندوات دكتور الشنقيطي في الخرطوم تعد من مغالبات الحنين الجامح لأطروحات المفكر الراحل تحت وقع المضاغطات السياسية والمكاجرة مع الطرف الاخر.
وفِي سرده لاهم خصائص ومزايا الترابي كمفكر سبق عصره اكد الشنقيطي انه لم ينح منحا جدليا كلاميا بل اشتق منهجا عمليا مازته لغة معيارية رصينة تجمع بين جدلية هيغل وموافقات الشاطبي.
ورغم احتشاد دكتور الشنقيطي بكل قوافي المدح والتقريظ لكسوب الترابي الفكرية مشيرا الي انه من اعظم المفكرين في العصر الحديث الذي جمعوا بين الثقافتين الاسلامية والغربية، وانه من أعمق من تحدث عن اختلال التوازن في التاريخ الاسلامي بين فقه المبدأ وفقه المنهج، وكذلك نظرته للابتلاء بمفهوم الزمان لانه حركة الزمن لا ترحم الواقفين الجامدين.
وعاب الشنقيطي علي الترابي ما اسماه ( الرخاوة الاخلاقية)، في العمل السياسي لانه ركز علي الفاعلية اكثر من المبدأ الاخلاقي في السياسة وان نتيجة هذا المنهج الاخلاقي الرخو في السياسة حسب رأي الشنقيطي انه أوجد نظاما قهريا ضحي بالشرعية السياسية بدعوي الفاعلية والسلم الأهلي والوحدة.
لكن هذا الاتهام الغليظ من الشنقيطي للشيخ الترابي في الممارسة السياسية ومزاعم ترجيحه منهج الرخاوة الاخلاقية لكسب الفاعلية في السياسة اكثر من المبدأ الاخلاقي اعتبرها الامريكي سايمون في كتابه السابق ( صورة من؟) انها بعض أدواء الحركات الدينية في افريقيا لان اصولها الفكرية القائمة علي تركيز مبدأ احياء التراث الاسلامي وتجديده وموضعة الشريعة في قلب الخطاب السياسي للتحشيد وليس للتغيير تعني ضمنا مقاومتها للحداثة وان تلبست لبوسها وتبنت خطابها وشعاراتها. وقال سايمون ان محاولة ربط تمكين الاسلام في المجتمع باعتباره شرطا لازما للتقدم الاقتصادي والتنمية والرفاه الاجتماعي لهو فرضية خاطئة دفعت فيها الحركة الاسلامية ثمنا باهظا في مصداقيتها السياسية لعلو سقف المعايير الاخلاقية التي تحاكم بها نفسها.
بعد ان انفض سامر تلك الفاعلية التي ابدع في غرس فسيلتها وتنظيمها الاستاذ عثمان الكباشي ورهط كريم من الشباب والذي اكد ان الترابي ظاهرة فكرية عابرة لحدود السياسة والقطريات الوطنية اجتمع نَفَر كريم من منسوبي الانتلجنسيا الاسلامية التي فرقت بينهم الطرق والمعابر والتقديرات فابتعد معظهم عن العمل السياسي المباشر لكن ظلوا يلتمسون المقاربات الفكرية لسبر أغوار ملامح الازمة الراهنة.
بدعوة كريمة من هيئة الاعمال الفكرية بقيادة الاستاذ محمد الواثق وبمبادرة إيجابية من عدة شخصيات لتعميق الحوار بين مختلف النخب والمشارب الفكرية وعلي هامش تكريم دكتور عبدالوهاب الافندي الذي شارك في مؤتمر معهد الدوحة للسياسات بالخرطوم بالتعاون مع جامعة الخرطوم والنيلين اجتمعت ثلة كان علي رأسها اضافة للدكتور الافندي كل من الدكتور عبدالله علي ابراهيم و الدكتور محمد محجوب هارون والدكتور غازي صلاح الدين والأستاذ المحبوب عبدالسلام والدكتور خالد التيجاني والدكتور الخضر هارون والأستاذ خالد فتح الرحمن والأستاذ محمد الواثق والصادق الرزيقي وشخصي وعدد اخر من الشباب المهتمين بمآلات وافكار الاسلام السياسي.
كانت المداخلات عفوية وهي تنشد مقاربات فكرية تلامس حيّز الواقع المأزوم، لذا كان الدكتور الافندي مهتما بفكرة الإصلاح المؤسسي بالتركيز علي العدل الاجتماعي واستقلال القضاء ومحاربة الفساد، محبذا ان الإصلاح اذا لم يأتِ طوعا واستجابة لدواعي موضوعية فإن التغيير قادم لا محالة ولا يمكن تجنبه. اما الدكتور غازي صلاح الدين الذي غادر لارتباط مسبق فقد ركز علي اهمية اصلاح الدولة statesmanship باعتبارها المفتاح المركزي للإصلاح السياسي الشامل، الدكتور عبد الله علي ابراهيم تحدث عن تجربة الحوار البنّاء والعميق بين النخب المثقفة في الدوحة من قبل مشيرا الي ان الادبيات التي خرجت من تلك الفعاليات تعتبر كافية لبلورة التغيير ولاستعادة دور المثقف الذي غاب عن المشهد الثقافي والسياسي منذ مؤتمر الخريجين ، مناديا باهمية الإصلاح وأشار ايضا في حديثه للتغيير الكبير في بنية المجتمع السوداني مع بروز البعد الاقتصادي وأقر بوجود طبقة وسطي كما ذكر ذلك خالد موسي من قبل لكن تحتاج الي دراسات معمقة.
الدكتور محمد محجوب هارون اشار في حديثه الي اهمية التغيير الديمقراطي السلمي مع وجود هامش يتسع ويضيق لاستيعاب اطروحات التغيير، الاستاذ المحبوب عبدالسلام اشار في حديثه الي اهمية البناء علي التجارب السابقة منوها الي مخاوف الحركات المسلحة من التغيير الديمقراطي لعدم قدرتها علي المنافسة لانها لم تتحول بعد الي قوي مدنية وسياسية قادرة علي التنافس الديمقراطي
ا اشار شخصي الي ان اهم كوابح وتحديات التغيير المتدرج تكمن في ظاهرة عسكرة السياسة militarization of politics لان القوي التي تسعي للتغيير ليست مدنية او ديمقراطية بطبيعتها مما يجعل اي تغيير بوسائل العنف المعروفة هي إفشاء للفوضي السياسية وتفكيكا لعري الدولة وسلطتها المركزية. اخذين في الاعتبار وجود اكثر من عشرين حركة مسلحة في طول البلاد وعرضها، تحدث ايضا الاستاذ خالد فتح الرحمن مشيرا الي ان الأسئلة التي تم طرحها لا تحمل جديدا بل هي اعادة انتاج لذات الأسئلة القديمة مشيرا الي ان عملية الإصلاح المؤسسي بدأت تأخذ طريقها في مسارات الدولة المختلفة، ونوه الي اهمية العامل الثقافي والاجتماعي لان الانسان الصانع للتغيير هو نفس الانسان الذي يهمل الانتظام الفاعل في قضايا خدمية أساسية مثل صحة البيئة مثلا. الدكتور خالد التيجاني أمن علي اهمية الاجتراحات الفكرية نحو التغيير مشيرا الي التحديات الواقعية ومنها سلطة الدولة والاجراءات الجبرية والممارسات التي تضيق علي حرية الفعل السياسي الواردة في هذا الصدد. الاستاذ الصادق الرزيقي اكد في حديثه علي وجود مؤسسات رسمية وشعبية حارسة لاستقرار الدولة وان الطريق الوحيد هو الإصلاح المؤسسي الذي تتبناه الدولة الان. الاستاذ محمد الواثق مدير هيئة الاعمال الفكرية الذي استضاف هذا العصف الذهني اشار الي اهمية استمرار الحوار البناء بين مختلف النخب لإنتاج مقاربات موضوعية تحض علي التفكير الايجابي تجاه الواقع السوداني.
ازاء هذه الفعاليات والجدل المحتدم
تتبدي غيبوبة المعني وسط النخبة الاسلامية في مختلف تمظهرات نشاطها الفكري والسياسي والثقافي، اذ بات اغلبها اسيرا لنوستالجيا الماضي وهو يغالب فقدان نسق فكري فاعل يؤطر لانشغالات التغيير وتوجهاته. بعض القوي الاسلامية التي ترفع شعار الحريات والتغيير رمت بجل اسهمها في إنفاذ مخرجات الحوار الوطني والتعديلات الدستورية تبغي الحرية لكن لم تعد نفسها لتنافس ديمقراطي حامي الوطيس بعد ان اصيبت مصداقية المشروع الاسلامي الاخلاقية في مسار كسبها التاريخي بجراحات وتشوهات عديدة. وجدت قوي الشباب المتطلعة وبعضا من حراس المعبد القديم في مشاركة الدكتور محمد مختار الشنقيطي بعضا من تشوقاتها و صدي صوتها وهو يذكرها بالتألق الفكري لأطروحات زعيمها ومفكرها الراحل.
ان الاطروحات الجدلية والنقدية التي تمت مناقشتها من قبل سبق وان نثر بعضها الدكتور الامريكي سايمون منذ ثمانينات القرن الماضي وهو يقدم نقدا بنيويا صميما لمُجمل اطروحات وتفاعلات الاسلام السياسي في السودان.
اما ما نقلته من مختصرات لنقاش بعض رموز النخبة الاسلامية علي طاولة هيئة الاعمال الفكرية لهي محاولة لحوار موضوعي عفوي وإنتاج مقاربات عميقة لتخاطب بعض ابعاد الازمة الراهنة وذلك حتي لا يستطيل امد غيبوبة المعني.
ومع ذلك يبقي السؤال : هل انتهي دور الاسلام السياسي ولم يعد مناسبا لتحقيق أهدافه وشعاراته التي رفعها؟
ربما ذلك ما اشار اليه سايمون من قبل وناقشه الشنقيطي ونوه به المحبوب وأعلنه الغنوشي. لكن لنا عودة في المستقبل القريب لمزيد من النقاش.
khaliddafalla@gmail.com