الاقتصاد السياسي لإصلاح “الظل، والعود أعوج”! (1)

 


 

 

(1)
حسناً أقدمت الحكومة الانتقالية على اتخاذ قرار انتحاري بامتياز بمضاعفة أسعار الوقود على نحو فاحش، خارج أي سياق موضوعي لإصلاح اقتصادي حقيقي، في خطوة لا تقل أثراً عن أية وسيلة أخرى للإبادة الجماعية، فمن لم يمت بنيران الحروب فسيهلك الفقراء الذين يعيشون اصلاً في فقر مدقع، جراء هذه المغامرة العشوائية بامتياز التي ستضرب في مقتل ليس معاش الناس فحسب، بل لتصبح معول هدم لأي محاولات لتحريك قطاعات الإنتاج المختلفة لتزيد الأوضاع الاقتصادية المتدهورة أصلاً ضغثاً على إبالة.

(2)
ولعل السؤال الذي يُحار الجميع في إيجاد إجابة له، لماذا تفعل الحكومة ذلك، هل يُعقل أنها لا تُدرك إلى هذه الدرجة العواقب الوخيمة لتبعات وتداعيات آثاره اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، أم يا تُرى أنها تحقق ما ذهبت إليه شخصية عامة مرموقة وهي تصف السلطة القائمة اليوم بأنها تفتقر إلى الحد الأدني من الحساسية السياسية والإحساس بالمسؤولية تجاه المواطنين على نحو غير مسبوق في تاريخ السودان الحديث.

(3)
لندلف مباشرة إلى الأسباب التي دعت الحكومة للإقدام على هذه الخطوة الانتحارية غير المسبوقة، وسنركز في هذه العجالة على سببين، الأول منهما يعود لاعتبارات داخلية، والآخر ذي صلة بأبعاد خارجية.
أما السبب الأول فهو ببساطة أن خزائن الحكومة باتت أفرغ من فؤاد أم موسى، لدرجة أن الوفاء بالفصل الأول لتعويضات العاملين أصبح شبه مستحيل دون اللجوء إلى الاستمرار في الاستدانة من النظام المصرفي بأضعاف ما يسمح به السقف القانوني.

(4)
ومع بنك مركزي يعاني الأمرّين لعجزه وفقدانه لاستقلاليته، وطغيان الهيمنة المالية المفروضة عليه من قبل الحكومة، يلجأ إلى الحل السهل شكلاً، الكارثي مضموناً، بضخ المزيد من السيولة بطباعة أوراق نقدية وفق النظرية الشهيرة "رب رب رب"، والنتيجة استمرار انفلات التضخم بكل تبعاته.
وفي محاولة للتخفيف من غلواء تزايد معدل التضخم الذي تجاوز نسبة 400%، ويفوق بأربعة أضعاف المعدل الذي كان مستهدفا في موازنة العام الحالي الذي انقضي نصفها. يأتي أحد دوافع هذا القرار لحلب آخر جنيهات في جيوب المواطنين المسحوقين لتمويل جزء من هذا العجز المهول في الإيراداتً.

(5)
أما السبب الثاني الداعي لهذه الزيادات غير المنطقية في المحروقات تحت غطاء تحرير مزعوم للسلعة فقد كشفت عنه الاتهامات الحادة التي وجهتها الحركات المسلحة بدارفور الموقعة على اتفاق جوبا (1) في بيان لها الأسبوع الماضي خمّلت فيه القوات المسلحة مسؤولية عدم تنفيذ اتفاق الترتيبات الأمنية، ورمى المتحدثون باسم الجيش الكرة في ملعب الحكومة، وردوا الأمر إلى مصاعب مالية لأن وزارة المالية لم تستجب لطلبهم بتوفير نحو 187 مليون دولار لتمويل متطلبات الترتيبات الأمنية.

(6)
وقد كشفت ندوة نظمها مركز آرتكل الأسبوع الماضي بمشاركة قادة كبار من الطرفين أن الأوضاع متدهورة إلى درجة العجز عن توفير الطعام لمنسوبي هذه الحركات، صحيح أن لهذه المشكة جوانب أكثر تعقيداً من المسائل المالية تتعلق بطبيعة وحدود هذه الترتيبات نفسها، فضلاً عن مجمل السياق السياسي لهذه العملية ما نرجو تناوله في مرة قادمة.

(7)
إلا أن اللافت في هذ ا الشأن أن اتفاق جوبا (1) فشل فشلاً ذريعاً في الحصول على دعم من المجتمع الدولي، وكان لافتاً الاحتفال الذي جرى بالأمس بتوقيع مجموعة الترويكا عليه كشهود جا متأخراً تسعة اشهر من توقيعه، وهي خطوة رمزية في محاولة لبث بعض الروح في جسده العليل، ولكن من المؤكد أنها لن تفلح قياساً على تجارب قريبة في ضخ أموالا لدعمه، ولذلك لم تجد الحكومة بداً من توظيف لافتة "تحرير سعر الوقود" ليدفع غالبية سكان البلاد الفقراءعلى مسغبتهم وتحميلهم المزيد من الأعباء جزءاً من فاتورة اتفاق جوبا.

(8)
والسؤال ما هي علاقة هذه الجبايات القسرية بالإصلاح الاقتصادي من أي نوع أو درجةأوبأي فهم؟ ، حيث لم تقم الحكومة بأكثر من تحويل الوقود إلسلعة حيوية لتصبح وسيلة ومصدراً تتربح منه لتمويل انفاقها على أجهزة حكم مترهلة سياسياً وعسكرياً، ودون أن تحدث نفسها يوماً واحداً بإتخاذ سياسات جدية للتقشف، ولتمثّل روح الثورة ودفع استحقاقات التغيير. ونواصل بإذن الله.

khalidtigani@gmail.com

 

آراء