الانتفاضات العربية .. الأزمة والطريق

 


 

 

 

يقول الشاعر والفقيه المتصوف جلال الدين الرومي: " عندما تقرر أن تبدأ الرحلة سيظهر الطريق". ومع أن الرومي توفي في أواخر القرن الثالث عشر ميلادي، وتفصلنا عنه نحو سبعة قرون، إلا أن عبارته تلك أصلح ما تكون للنظر بل واتخاذ موقف مما نراه من انتفاضات عربية متوالية في تونس، والعراق، والسودان، ولبنان. ولقد تفجرت كل تلك الانتفاضات العارمة تحت ضغوط اقتصادية واجتماعية شديدة الوطأة، ولم يكن المسار أمامها واضحا حين بدأت، لكنها قررت أن تبدأ الرحلة ليظهر لها الطريق فيما بعد وتتضح معالمه خلال وبفعل الاشتباكات مع القوى المهيمنة. أظن أن ذلك هو ما حدث أيضا في انتفاضة يناير 2011، فقد دفعت الضغوط الاقتصادية والسياسية إلى انفجار قرر أن يبدأ الرحلة من دون أن يلوح أمامه طريق محدد، أما الشعارات العامة الفضفاضة " عيش. حرية. كرامة انسانية" فإنها لم تكن تمثل طريقا ولم تكن في واقع الأمر سوى صياغة عامة للأحلام الشعبية، من دون أن تمثل تلك الصياغة برنامجا سياسيا أو اقتصاديا أو دليلا إلى حركة واقعية لبناء مجتمع جديد، ومن هنا كان التركيز في معظم تلك الحركات على الاطاحة برئيس وليس الاطاحة ببرنامج سياسي واقتصادي، ومن ثم تبدل تلك الانتفاضات القبعة التي يرتديها النظام بينما يبقى النظام كما هو بالأساس الذي قام عليه. ومن البديهي أن الاطاحة ببرنامج نظام اقتصادي تستدعي طرح وتقديم برنامج آخر بديل على كافة الأصعدة، في التعليم والصحة والضمانات الاجتماعية والأجور والثقافة والمعاشات والتنمية، بينما لم يتوفر للانتفاضات، ولا يتوفر بعد، برنامج واضح، ما عدا أنها بشكل عام تنادي بوقف مظاهر الاستغلال من دون ربط ذلك الاستغلال بأصوله الاستعمارية أو الطبقية والاجتماعية داخل بلدانها. وتتقاسم الانتفاضات العربية هذه الحالة مع انتفاضات أخرى في العالم، كما حدث في فرنسا منذ فترة، وفي تشيلي حاليا، وغيرها من البلدان المرشحة للانفجارات الشعبية، هناك حيث قرر الناس أن يبدءوا الرحلة من دون أن يظهر الطريق، مثلما يبدأ ربان سفينة رحلته بدون بوصلة، على أمل أن يقوده حظه السعيد إلى الشاطي المنشود. وإذا كان هناك ما يدعو للتفاؤل وضرورة دعم تلك الانتفاضات، فهو أن الجماهير العريضة سوف تتعلم من خبراتها العملية في الصراع، وسوف تتخلق من بينها قيادات، ويكتسب برنامجهم ملامحه، من السقوط والنهوض مرة بعد أخرى خلال مقاومة نظام رأسمالي عالمي يسود بواسطة صندوق النقد والبنك الدولي والشركات العابرة للجنسيات. إن أزمة غياب البرنامج أو الطريق ليست خاصة بالمنطقة العربية وحدها، بل هي أزمة شعوب العالم بأجمعها، العربية والأوروبية وفي أمريكا اللاتينية وغيرها. أي برنامج يمكن طرحه لوقف ذلك الاستغلال اليومي والمنهك. أي مشروع يمكنه مواجهة المشروع الرأسمالي العالمي السائد؟

في الستينيات وحتى سبعينيات القرن العشرين كان هناك مشروعان، أو برنامجان سياسيان مطروحان على شعوب العالم الثالث: التحرر القومي من الاستعمار كما في نموذج جمال عبد الناصر وكاسترو، والاشتراكية كما تحققت أساسا في النموذج السوفيتي. وقد جرفت مياه كثيرة أسس المشروعين، فلم يعد من الممكن الآن أن تثير حماسة أحد بالحديث عن الاشتراكية بصفتها برنامجا ومشروعا بينما تغض النظر عن دراسة جوانب الضعف التي أدت لانهيار التجربة والمشروع. ومن دون مراجعة شاملة نزيهة للتجربة الاشتراكية لن تصبح الاشتراكية مرة أخرى برنامجا يتبناه الناس، على حين لا توجد إلى الآن قوى – حتى على المستوى الفكري- قادرة على تلك المراجعة لاستخلاص الزهرة من الطين. من هم القادرون على عمل فكري نظري كهذا؟ لسنا نحن، لأن نظرة على تاريخ تطورنا تبين أن النظريات الفكرية والفلسفية التي ساعدت على تطور شعوب العالم الثالث جاءت كلها من أوروبا: الوجودية والماركسية والوضعية المنطقية وغيرها، كما جاء البرلمان إلينا من الخارج، والسينما، وشكل القصة والرواية وفكرة وصياغة الدستور وغير ذلك. ومن ثم فإن تجديد أو احياء أو العثور على برنامج سياسي واقتصادي للانتفاضات مرتبط إلي حد كبير بظهور مجموعة من المفكرين الأوربيين القادرين على حل معضلات المشروع والبرنامج اللازمين للانتفاضات، خاصة أن أزمة الاستغلال غير قاصرة على العالم الثالث لكنها أزمة عالمية. وتتضاعف صعوبة العثور على مشروع أو برنامج بالنسبة لنا نظرا لطبيعة النخب السياسية التي يقتصر نشاطها في ظل الحصار على التنوير وتفادي الصدام. لذلك كله فإن الانتفاضات تظل تنزع القبعة عن رأس النظام بينما يظل النظام بكامل صلاحيته، طالما أنه ما من برنامج اقتصادي، اجتماعي، محدد، قادر على مواجهة الهيمنة الرأسمالية العالمية مشكلة شعوب العالم الثالث وشعوب أوروبا أيضا. لكن المؤكد أنه كلما اشتدت الضغوطـ وتوالت الانفجارات فإن الطبقات الشعبية ستقرأ صفحة وراء صفحة دفتر برنامجها مهما بدا الطريق غارقا في الضباب، وستعثر على حروف ذلك البرنامج برغم الثمن الباهظ لتعلم القراءة، لكن ليس أمام الناس سوى عبارة جلال الدين الرومي: " عندما تقرر أن تبدأ الرحلة سيظهر الطريق".

د. أحمد الخميسي قاص وكاتب صحفي مصري

ahmadalkhamisi2012@gmail.com

 

آراء