الانفصال مسئولية الدوائر الراديكالية المتنفذة لدى شريكي السلام …. بقلم: مؤيد شريف
5 June, 2009
قبل وأثناء المراحل المختلفة التي مرت بها مفاوضات السلام بين حكومة المؤتمر الوطني والحركة الشعبية ، لم يكن أكثر المتفائلين يحلم بأن يتم التوقيع النهائي علي الاتفاقية وأن ينتظم الطرفان في العملية السلمية ، وذلك يعود لأسباب لها ما يسندها ، أهمها علمنا بالشقة الواسعة التي تفصل بين الطرفين فالمنطلقات العقدية والفكرية المتقابلة والمتباعدة طبيعةً كان من شأنها أن تجعل من عملية التفاهم أمراً عسيرا ، دع عنك الإرث الطويل من العدائيات والدماء التي ارتسمت علي ملامح علاقات الطرفين .
التقدم الذي كان يحدث في عملية التفاوض وأجندته كان يدهشني حقا وكثيرا ما ساءلت نفسي عن طبيعة المحفزات والدوافع لدى الطرفان والتي تدفع بعملية التفاوض إلي الأمام : فهل حقيقة أن الطرفان سئما الحرب وأُنهكا ولم يعد بمقدورهما تحمل المتطلبات الداخلية والخارجية لأطول النزاعات الدموية في إفريقيا ؟ ومن ثم نشأت لديهما الرغبة في تحقيق السلام "وهذا ما كانت تردده أجهزة الأعلام الرسمية علي الأقل " ، أم أن عامل الضغط الخارجي أو ما كان يسمي بـ " دور الوسطاء" هو ما كان له العامل الحاسم ؟ أم أن هناك قوى دفع لم تكشف بعد ؟ . كل هذه التساؤلات عجزت في أن أجد لها الإجابات الكاملة في وقتها ، إلا أن الثابت لدي كان أن لحظة التوقيع علي الاتفاق لم تكن تعني نهاية حرب هي الأطول والأكثر دموية فقط ، بل مثلت لي ذات اللحظة بداية وولادة لشيء غامض ذو ملامح مختلفة وربما بداية ولادة وتشكل لسودان مغاير... .وقناعتي أيضا كانت راسخة في أن هناك قوى ومجموعات ضغط داخلية لدى الشركاء ستدفعها توجهاتها الراديكالية وفوبيا الحفاظ علي المشروع السياسي الخاص وحرصها علي ما تحصلت عليه من مكاسب ومصالح سياسية واقتصادية ، لوضع العراقيل ومحاولة تأخير أو نسف عملية تطبيق الاتفاق . ومن المتداول أن بوادر التباين والاختلاف حول ما تضمنته نيفاشا من بنود ظهرت في صفوف قيادات الصف الأول في حزب المؤتمر الوطني في مراحل مبكرة أثناء سير المفاوضات وحتى بعد التوقيع علي الاتفاق ، والتباين ربما يعود للخليط الايدولوجي لذات القيادات ، فهناك مجموعة العسكريين والأمنيين صاحبة الالتزام المطلق بمشروع الإنقاذ الثوري والذي لم يعد يتوافر علي ذات المحمول القيمي والمنهجي للمشروع السياسي للحركة الإسلامية ، ولم يعد خافيا علي أحد أن هذه المجموعة هي المسيطرة علي مطابخ صناعة القرار ، وليس من الغريب في ظل أوضاع التربص والتوتر بين شريكي السلام أن تتصاعد أدوار القيادات الراديكالية في الجانبين ، فقد كان واضحا بروز القيادات الراديكالية في الحركة الشعبية في أثناء السجالات والتراشقات الإعلامية المتكررة والمستمرة ويبدو أن أدوار الجيش الشعبي وقياداته الراديكالية ستكون لها الكلمة الفصلي في الفترة القادمة .
وإذا ما طفت للسطح تباينات الصف الأول في المؤتمر الوطني حول الاتفاقية ، فان في الطرف الأخر لا يمكننا التحدث عن تباينات كبيرة وأساسية، سيما وأن الحضور الذي شكله الزعيم والمؤسس صاحب الكاريزمية العالية ، مثل المرجعية المطلقة والنهائية للخيارات المطروحة للتسوية وما كان يتمتع به مشروعه للسودان الجديد من تأييد كلها عوامل لم تدع مجالا لأي كان من داخل الحركة لإبداء إشارات معارضة لبنود الاتفاق .
لا شك أن مشروع السودان الجديد شكل مشروعا مميزا من حيث المضمون والتوقيت ، فقد جاء المشروع في ظل غياب تام لمشروع وطني جامع فشلت الأطر السياسية علي اختلاف أطيافها في الالتقاء حوله ، كما واستطاع ذات المشروع أن يخاطب أشواق وتطلعات الغالبية الصامتة والمسحوقة من أبناء الجنوب والشمال والسودان كله فهذه الكتل البشرية " الشابة في غالبيتها " نمت وترعرعت في ظل أوضاعا سياسية واقتصادية وأمنية غاية في السوء إن لم تكن الأسوأ علي الإطلاق كنتيجة للممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الاقصائية لسلطة الإنقاذ مما زاد الأوضاع احتقانا فوق احتقان في الوقت الذي كانت فيه ذات الكتل البشرية الشابة ترقب وتلحظ بلدانا من حولها تنجح في تسجيل تقدما في أوضاعها السياسية والاقتصادية وتقتلع حقوقها في التمثيل والتصويت والحريات العامة والعيش الكريم ، وهو ذات الوقت الذي كانت فيه أجواء الدولة البوليسية والسلطة القابضة والأوضاع المتراجعة علي كافة المستويات هي السائدة هنا .
وسط هذا الزخم الكثيف من عوامل الإحباط انبرى للعلن مشروع السودان الجديد بكل ما يحمله من مبادئ عامة تتوق لها الأنفس المتطلعة لواقع مختلف لتتدافع ذات الكتل البشرية المليونية لاستقبال صاحب المشروع السياسي الجديد والمغاير لمشاريع السلطة الاقصائية ، وفي تقديري فان الجمهرة المليونية في الساحة الخضراء برهنت علي أن الأجيال الجديدة ،علي الأقل، في السودان لا تحمل ذات القدر من الحساسية العرقية والخصوصية الدينية التي توجد لدى أجيال النكبة والنزاع مما يدلل علي أن الكثيرين من أبناء الشمال والجنوب لا يشعرون بأنهم جزءاً من الصراع الدموي والحروب المستعرة التي كانت تدور بين الطرفين وأن الصراع لا يعدو أن يكون صراعا سياسيا يقوم من خلاله الطرفان باستدعاء أبعادا دينية وعرقية ظنا منهما بأنها ستشكل العامل الرئيس في حسم النزاع . وفي رأي أن أبناء الجنوب والشمال والسودان لم يهرعوا إلي الساحة الخضراء لاستقبال قرنق المسيحي الملتزم وإنما هرعوا لإبداء تأييدهم لقرنق صاحب المشروع السياسي المرتجى . ويبدو ،وبعد وفاة الدكتور جون قرنق، لفظ مشروع السودان الجديد آخر أنفاسه وربما يدلل ذلك علي أن المشروع لم يكن مشروعا للمؤسسة بقدر ما كان مشروعا تلتزم به المؤسسة من خلال زعيمها ومؤسسها وبوفاته " تيتم " المشروع وأصبح مجرد أفكار علي أوراق قد تبعث يوما وقد لا تجد السانحة للخروج مرة أخرى .
لا يخفي علي الكثيرين بأن العوامل والمحفزات التي يمكن أن تدفع بالجنوبيين لاختيار البقاء ضمن إطار الوطن الواحد هي عوامل ومحفزات تدعمها قوة الواقع علي الأرض وتاريخ طويل من التداخل الشعبي القاعدي وهي ليست عواطفا عديمة التأثير كما يدعي البعض ، فالهجرات الكبرى لإخوة لنا في الوطن باتجاه مدن وقرى الشمال لم تكن في غالبها اختيارات قسرية ، وعلي الرغم من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتراجعة التي اصطدموا بها في معسكرات النزوح الطرفية إلا أن اندغامهم في الحياة الحضرية كان سريعا وملحوظا وان اصطدموا بواقع التمييز الذي تمارسه السلطة ، والتمييز ليس قصرا عليهم كما يعتقد البعض ، فالإقصاء يستخدم ضد غير المنتمين للمشروع السياسي ،وهذه الممارسة شكلت أخطر وأفدح أخطاء السلطة لما تضمنته من رفض للآخر ولكيانه ولحقه في الحياة وتسببت الممارسة الاقصائية البغيضة في ارتدادات كبرى وجسيمة لا زالت تهدد البناء والتماسك الوطني للدولة السودانية .
ومن العوامل التي تجعل من الوحدة خيارا واقعيا "إذا لم تصنع أحداثا كبرى مرة أخرى تغير من طبائع ومجريات الأمور " هي الأوضاع الجنوبية الداخلية وكلنا نتذكر الأهمية التي كان يوليها الدكتور جون قرنق للحوار الجنوبي الجنوبي وهذه الأهمية جاءت من علمه بتشابكية وتعقيد العلاقات القبلية في الجنوب وبإمكاننا أن نتخيل كيف ستكون الأوضاع الداخلية في الجنوب في حال عودة المهجرين إلي الجنوب وما يمكن أن يواجهوه من صعوبات بعد سنوات طويلة من المغادرة كانت كفيلة بتغيير الواقع الديمغرافي والقبلي في الجنوب . إضافة للصمت الذي مارسته اتفاقية نيفاشا عن مراحل ما بعد الاستفتاء وكيفية التعامل مع الملفات المتعثرة في حال اختيار الإخوة في الجنوب للانفصال كملف ترسيم الحدود والنزاع حول منطقة ابيي وشكل العلاقة بين الدولتين المفترضتين ...
وفي سبيلهم لتكريس واقع الأزمة والتهيئة لخطوة الانفصال يتبني راديكاليو الشريكيين المتنفذين خطابا تصعيديا يهدفون من خلاله للإبقاء علي نقص وانعدام الثقة والريبة المتبادلة ، ومن النقاط التي يتم توظيفها من قبل التيار الراديكالي في الحركة الشعبية " ونحن هنا نستعرض ولا نبت في صحة أو عدم صحة الادعاء " :
+ إظهار الشريك بمظهر غير الملتزم والمراوغ والذي لا يمكن أن يكون شريكا في تنفيذ الاتفاق والحرص علي إبقاء السجالات والتراشقات حية ومتواصلة تمهيدا لخيارات قادمة .
+ محاولة استغلال حادثة موت الدكتور قرنق ورسم سيناريوهات للمؤامرة " قد تصدق أو لا تصدق " تعمل علي استغلال الشعور العاطفي لدي الجنوبيين وتوسيع الشقة بين أبناء الوطن .
+ استدعاء التاريخ ومحاولة توظيف أبعادا معينة يتم قراءتها مجتزأة ومن خلال السياق السياسي لا المنهجي التاريخي .
+ ازدياد الصرف علي النواحي العسكرية والأمنية وإهمال مشاريع التنمية والبنية التحتية في الجنوب ما من شأنه أن يخلق حالة من الإحباط لدي الجنوبيين فيسود عندهم إحساس سلبي من الاتفاقية ، إذ أن أوضاعهم لم تبرح مكانها ، وأموال البترول لم تنعكس إيجابا علي حياتهم ولم تخفف من معاناتهم وبالتالي لا فرق .
+ التشكيك في صدقية ودقة الانصبة المالية المخصصة للجنوب من مداخيل النفط ومحاولة الإيعاز للقاعدة الشعبية بأن الانفصال من شأنه أن يؤمن للجنوبيين أدارة ثروتهم النفطية كاملة ومن دون أن يتناصفها معهم احد .
ومن علي الجانب الآخر تسعى دوائر راديكالية متنفذة في المؤتمر الوطني للعمل علي جعل الانفصال خياراً جاذبا وتضييق خيارات الجنوبيين عند لحظة الاستفتاء ومن النقاط التي يوظفونها لخدمة مشروعهم :
+ استمرار حملة التخويف والترويع مما يسمونه بـ " الخطر الزنجي" علي السودان العربي المسلم ويذهبون لرسم حدودا متوهمة لمشروع أكبر "مشروع للمنطقة" يستهدف من خلاله السودان ، وهذا التيار بدأ يقوى ويمتلك من الأدوات الإعلامية ما أهله لخلق تأثير من نوع ما في الشارع العام .
+ تخوين واتهام الحركة الشعبية وقيادات بارزة فيها بالعمالة لأطراف خارجية خدمة لمشاريعها الخاصة في المنطقة وإظهارها بمظهر غير المؤتمن علي البلاد .
+ تأخير وتعطيل التحول الديمقراطي وإطلاق الحريات العامة والخاصة والبت في تعديل القوانين المعيبة في محاولة للإبقاء علي القبضة الحديدية حتي لا ينسب فضل للحركة الشعبية في مسائل التحول الديمقراطي وهو ما يؤدي لحشر الحركة وسحب التأييد الشعبي عنها بسبب تأخر عملية التحول الديمقراطي وإرساء الحريات .
+ الحديث عن ما يسمونه " مثلث السودان المنتج" صاحب الفضل التاريخي علي الاقتصاد في السودان والتقليل من أدوار مناطق الهامش الاقتصادية في محاولة لخلق مفهوم عنصري جديد لدى سكان الشمال من شأنه أن يعمل علي تهيئة الظروف لخيارات قادمة .
وفي تقديري فان كل من الشريكين سيستمر في إقصاء وإضعاف ادوار الوحدويين والموضوعيين في صفوفه كنتيجة لحالة الشد والجذب والاحتقان وفي ظل خواء الساحة السياسية السودانية من أحزاب وقوى حقيقية فان من المتوقع أن تتعلق مصائر بنود اتفاق السلام ومصائر شعوب السودان بما سيكون عليه شكل العلاقة بين الشريكين ولا شيء آخر .