الانهيار الصحي في السودان 1 – 2
في حملتهم المُمننهجة علي السودان وشعبه، لم يترك المحافظون الجدد منحي من مناحي الحياة دون تدمير شامل، كامل وهائل. لقد قاموا بإنجاز مهمة نسف البِني السياسية والاقتصادية والتعليمية والثقافية والمجتمعية، وتفتيت الوطن، بحيث أن هذا الوطن لم يعد، ولن يعود كما كان البتة. وتم إنجاز كل هذه المهام العسيرة في ظرف قياسي - عقدين فقط - بحيث يستحقون دخول موسوعة جينيتس في دمار الشعوب وأوطانها. ولا شك أن المجال الذي تعرض لأسوأ دمار هو الصحة، والذي بلغ دماره مرحلة مخيفة جلعت الولدان شيبا. يتطرق هذا المقال للوضع الصحي من خلال الرصد الصحفي لفترة وجيزة تنحصر بين نوفمبر من العام المنصرم وأبريل الجاري.
ديسمبر 2010:
أصدرت محكمة الكوَّة بولاية النيل الأبيض حكماً بالغرامة 10 ألف جنيه في مواجهة احدي الشركات المستوردة، وبالعدم السجن لمدة سنة، بسبب عدم التزامها بابادة أسمدة فاسدة تُقدر كميتها بألفين طن. وهذا أمر غريب لأن الحكم بالغرامة والسجن صدر بعد أن رفضت الشركة ابادة الأسمدة، مما يعني أن مسألة الابادة لم تعد أولوية للمحكمة، مثلما يعني أن من حق الشركات رفض أو عدم الالتزام بالأحكام الصادرة من المحاكم، ثم تكافئ تلك المحاكم الشركات بحكم طفيف في مسائل بهذه الخطورة. مثل هذا الأمر يقتضي التعامل معه بكل حزم، لأن هذه مسألة تتعلق بسلامة البشر وصحة البيئة. محكمة أصدرت حكماً بابادة الأسمدة لماذا لا تصدر أمراً للشرطة بوضع يدها علي الأسمدة في الحال؟ ليس هذا فحسب، بل أيضاً التأكد من ابادتها بوسيلة علمية - وعلي نفقة الشركة - لتحاشي ابادتها بطريقة قد تسبب كارثة بيئية اخري كدفنها في الأرض. هذه قراءتنا الظاهرية للخبر، الذي نقلناه بالنص من جريدة "الصحافة" بتاريخ (29\12\2010). بيد أن قراءتنا الباطنية له تستشف أن هذه الشركة يملكها فرد أو أفراد من الطبقة الحاكمة لأن الخبر لم يذكر اسم الشركة مطلقاً، إضافة الي تخفيف الحكم وبخس الغرامة. كما أن المحكمة (الموقرة) لم توضح كيفية (سجن) هذه الشركة. وبهذا الحكم، فإن بمقدور الشركة دفع الغرامة والاستمرار في تسويق تلك السموم، إضافة الي أنه يضع سابقة حكم قضائي. والواقع أن ابادة البشر أسهل من ابادة السموم القاتلة في دولة المشروع الحضاري.
علي خليفة انعقاد المؤتمر العالمي الثاني للسرطان بقاعة الصداقة (3 - 5 ديسمبر 2010) ذكر المركز القومي للعلاج بالاشعة والطب النووي ازدياد عدد المصابين بالسرطان الي 12 ضعف خلال الاعوام القليلة الماضية. وحسب احصائية المركز القومي للعلاج بالأشعة أن عدد المصابين بالسرطان كان أقل من 500 حالة عام 1964، ارتفعت الي 450 ألف حالة عام 2006 (الصحافة ا\4\2011). وذكر دكتور صديق مصطفي، مدير عام المركز القومي للعلاج بالاشعة، ان 25% من الحالات من ولاية الخرطوم والشمالية نتيجة الاستخدام الخاطئ للأسمدة. وحسب تقديرنا أن المسألة ليست استخدام خاطئ للاسمدة إنما أسمدة فاسدة كحال اسمدة الكوة بالنيل الأبيض، لأن العقل لا يقبل ان تؤدي زيادة او نقصان كمية السماد المستخدمة للزرع للاصابة بالسرطان. وقد حمل تقرير للمركز القومي للعلاج بالاشعة والطب النووي وزراة المالية عن رفع الدعم عن بعض علاجات مرض السرطانات. وكانت لجنة الصحة بالبرلمان قد وصفت بيئة مستشفي الذرة بالمتردية مع وجود مشكلات ملحة في التبريد والكهرباء والصرف الصحي!
ديسمبر 2010:
نصحت السفارة البريطانية في الخرطوم موظفيها واسرهم بعدم الشرب من مياه الحنفيات، وعدم استخدامها في نضافة الأسنان، بعد فحص معملي أُجري في بريطانيا أثبت تلوث المياه واحتواءها علي البكتريا الفيلقية. لكن المستشار الفني لهيئة مياه ولاية الخرطوم، محجوب محمد طه، سارع لتفنيد هذا الأمر قائلاً: "أن المياه صالحة للشرب لأنها تمر عبر مراحل تنقية، وفحص بكتيري"، كأن السفارة قد افترت علي الله الكذب حين ذكرت بأنها أجرت فحص معملي. وأضاف انه "في حالة وجود بكتيريا يكون السبب ان الصهاريج غير معقمة." (عذر أقبح من الذنب). وأشار سيادته الي ان "التلوث داخل السفارة لا يعني الحكم علي كافة شبكات المياه في الولاية بالتلوث"، كأن هيئته تقوم بامداد كل سفارة ومبني ومدرسة ومستشفي ووزارة ومربع سكني ومسجد بصهاريج مستقلة لا يربطها أدني رابط مع بعضها البعض. واعتبر سيادته أن" تحذير السفارة لموظفيها أمر يخصها وحدها"، كأن السفارة قد حشرت أنفها في أمر لا يخصها، باصدار تحذير للشعب السوداني المغلوب علي أمره، من خلال اذاعة ام درمان والصحف والتلفاز وهيئة الإذاعة البريطانية. ولعله نسي أن يضيف أن هذه حملة تستهدف سمعة دولة المشروع الحضاري من احدي الاستكبار. وللقارئ المؤيد لنظام المشروع الحضاري الحرية والحق المطلق ان يثق في مهنية المستشار وتبريره ومنطقه، وعدم الأخذ بما قلنا، علي ان يثق في ما يقوله مسؤول آخر من نظامه عن حال المياه في الخبر التالي.
مارس 2011:
كشف المستشار البيئي بمجلس الوزراء (منصب فخم بلا معني)، بروفيسر تاج السر عبدالله، عن مهددات لصحة الإنسان، حددها في التغيير النوعي لمياه الشرب بسبب الصرف الصحي غير الآمن، واعترض علي نظام (السبتنق تانك)، ووصفه بالأسوأ في العالم. وابان أن احدي الدراسات أثبتت وصول الملوثات لعمق 220 مترا في مياه الشرب. (أجراس الحرية 18\3\2011). وأضاف أن هناك 20 طفل يصابون يومياً بالفشل الكلوي، في أعمار بين 12 – 14 سنة، بجانب الاصابة بمرض "الزرقة" لدي الأطفال نتيجة لفقد ثاني اكسيد الكربون بما يسبب الموت المفاجئ. ونقول منصب فخم بلا معني لعدم جدواه، لأن ما كشفه لن يجد أذن صاغية لدي المسؤولين لعلاج هذه الكارثة، لأنهم منهمكون في الأهم من صحة المواطن، وهو التشبث بالسلطة وتسخير الموارد لإنشاء الكتيبة الجديدة لقهر المعارضة الشباببية، بدلاً عن ارسال كتائب الجيش الجاهزة صوب حلايب المحتلة. وهذا التصريح يعني أن رد "المستشار الفني" علي السفارة البريطانية كان مغالطة لا يقبلها عقل طالب في مرحلة الأساس. هذا الخبر يعني اختلاط فضلات البشر بالماء الذي يشربه البشر في دولة في القرن الحادي والعشرين.
فبرائر 2011:
ذكرت وزراة الصحة الإتحادية ان عدد المصابين بمرض السكر وسط الأطفال قد فاق المليونين، وان نسبة الإصابة في ولاية الخرطوم قد بلغت 19%، بينما بلغت 20% في الولاية الشمالية، وأن نسبة البتر قد بلغت 12%. كما بلغت غير المكتشفين ثمانية ملايين. وفي مؤتمر صحفي في نوفمبر الماضي، طالب الدكتور الرشيد أحمد عبدالله، مدير مركز جابر أبوالعز لأمراض السكر، الدولة برفع الضرائب عن لقاح الانسولين ودعمه. هذه دولة لا يوجد الحياء في قاموسها فهي تفرض ضرائب علي الانسولين، بينما تدفع هبات مالية لشراء سيارات لضباط الأمن من نقيب فما فوق، وتستثني الأعمال التجارية التي تديرها طبقة ضباط الأمن من الضرائب. صحيح أن ان السكر مرض وراثي ولكن الصحيح أيضاً أنه لا يظهر في هذا العمر اليافع ما لم تكن هنالك كارثة كبري. والصحيح أيضاً أن هذا الوطن المكلوم لم يعرف مطلقاً مرض السكر لدي الأطفال قبل اكتساح التتار - الذين ركبوا الحمير - للخرطوم عام 1989.
مارس 2011:
أقرت وزارة الصحة بارتفاع حالات الإصابة بمرض الدرن (السُّل) الي 60% من الحالات الجديدة، بواقع 180 حالة وسط كل 100 ألف شخص. وقالت الوزارة انه يتعين علاج 85% من الحالات المكتشفة لايقاف انتقال العدوي. وعزت الوزارة انتشار المرض الي "تفشي الفقر المدقع وسوء التغذية، وان السودان يمثل الدولة الثانية في المنطقة من حيث الإصابة." وذكرت الوزارة أن الدرن يمثل 16% من حالات الوفيات بالمستشفيات. والمعروف ان الدرن قابل للعلاج في مراحله الاولي التي يسميها الأطباء "الكامنة" بيد أن الدكتور الصادق قسم الله، وزير الدولة بالصحة، قد صرح بمناسبة الإحتفال باليوم العالمي لمكافحة الدرن بالقضارف: "أن تزايد الحالات دليل عافية بغرض التمكن من العلاج." (الصحافة 22\3\2011). وبهذا المنطق نتمني أن يُصاب جميع السودانيين، ولا أستثني نفسي، بالدرن حتي يتم علاجه والقضاء عليه نهائيا ويصبح مرض تاريخي كالطاعون. تقول الوزارة أنه ينبغي علاج 85% من الحالات المكتشفة لايقاف انتشار العدوي، ويقول "الدكتور" أن تزايد الحالات دليل عافية!
والدرن من الأمراض القاتلة إن لم يجد العلاج اللازم، فحسب هبة كمال حمدالنيل، مديرة البرنامج القومي لمكافحة الدرن، ان 50% من المصابين يموتون في حالة عدم علاجهم. إلا أن هذا الرقم متواضع لأن عدم علاجه يؤدي الي انتشار البكتريا من الرئتين الي الكلي والعظام والنخاع الشوكي؛ ولا أحسبن مريضاً يعاني من تلك الآفات سينجو من الموت، إن لم يتعالج. وكشف مصدر مسؤول ل "الصحافة" فضَّل حجب اسمه ان مرض الدرن قد انتشر بصورة واضحة في الولايات الشرقية، وبمعدلات كبيرة مع نقص الكوادر، مبيناً أن ولاية كسلا لا يوجد بها اختصاصي صدرية، ولا يوجد قسم خاص بالمستشفي إلا عنبر وحيد متهالك، وكذك الحال في جنوب طوكر، حيث يتسبب الدرن في وفاة ثلاثة من كل خمسة مصابين، ولا يوجد مستشفي. وذكر ان تفشي المرض يرجع للحالة الاقتصادية التي يمر بها المواطن حيث ان أغلبية مواطني الشرق ينضوون تحت دائرة الفقر وسوء التغذية. وفي السياق ذاته أكد عدد من الخبراء الاقتصاديين ان نسبة الفقر بعشر ولايات تبلغ 78%، وان مرض سوء التغذية لدي الأطفال والنساء الحوامل يبلغ 52%، وان نسبة الذين لا يتناولون وجبات غذائية متكاملة تتجاوز 80%. (الصحافة 2\4\2011). وأشار الدكتور حسن محمود، مدير مشروع مكافحة الدرن، الي أن منظمة الغذاء العالمية تعمل علي توفير وجبة غذاء مجاناً للمصابين بالدرن. هذا يعني أن ان مصير هؤلاء الهلاك لو لا هذه المنظمة جزاها الله خيرا. واضاف المصدر نفسه أن المخاطر الاجتماعية للدرن تتمثل في أنه يصيب الاعمار المنتجة بين 15 الي 45 سنة. وحسب منظمة الصحة العالمية أن عدد المصابين بالدرن في دولة المشروع الحضاري يبلغ 600,000.
يكاد المرء أن يحتاج الي أقراص طبية مهدئة جراء التوتر الذي يصيبه وهو يتابع هذه المآسي، والتي يمكن تفاديها إن كان لدينا قادة لهم قدراً متواضعاً من الاحساس والمسؤولية والحياء. مثل هذه المآسي لم تحدث لشعوب خضعت لسلطة استعمارية، أو سلطة احتلال. والذي يندي له الجبين أن تنظيماً كحزب الله - بعكس نظام الخرطوم - يوفِّر خدمات اجتماعية، رغم انه يعمل في ظروف معقدة وتتكالب عليه قوي عالمية وإقليمية. بل ان حكومة حماس تقدم خدمات اجتماعية أفضل من هذا النظام، رغم الحصار والجدار.
يتبع
Babiker Elamin [babiker200@yahoo.ca]