البشير يعرض ما تبقى من السودان على مصر لشيئ فى نفس يعقوب

 


 

 

بســـم الله الرحمن الرحيم


مقدمة:

لا تزال خطة تذويب السودان- التي أشرنا إليها في مقال سابق- تمضي قدما تنفذها حكومة الإسلاميون في الخرطوم. وكما أشرنا, العلاقة بين قيادات الحركات الإسلامية وبين الاستخبارات الغربية هي علاقة ارتباط عضوي لا يمكن الفصل بينهما (لفائدة القراء الكرام لمن أراد الاستزادة في هذا الموضوع يمكنه مراجعة هذا المصدر:
 Devil’s Game: How the United States Helped Unleash Fundamentalist Islam; by Robert Dreyfuss 2005. Henry Holt & Company, New York. 288p

تأتي إستراتيجية تذويب السودان (وليس تفتيته) تذويبا كاملاً وإلحاق أجزائه بكيانات أخرى في المنطقة يكون ما تبقى من السودان الشمالي من نصيب مصر. تقوم حكومة الإسلاميين في الخرطوم بتنفيذ هذه الخطة رغم أنف جموع السودانيين, خاصة في الظرف الراهن وقد استحكمت حلقات خنق مصر من جهة مياه النيل جنوباً بعد توقيع بوروندي على اتفاقية مياه النيل مع دول المنبع الأخرى, لتدخل الاتفاقية حيز التنفيذ العملي. وكما أشرنا فإن المستهدف الأول هو مصر لإحكام الخناق عليها. وها هو البشير يستبق جحافل الثوار الزاحفة عليه ليستقل هذا الظرف الضاغط على مصر الآن ليعرض عليها ما تبقى من السودان الشمالي مهرا لمناصرته ضد شعبه, ليس لمصلحة الشعبين السوداني والمصري, ولكن لكي يحمي نفسه من المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية.
 
عمر البشير في مصر بين احتفاء الإخوان المسلمين وامتعاض  الثوار الوطنيين:

طالعتنا الأخبار في الأيام الفائتة بزيارة قام بها الرئيس عمر البشير لمصر, التقى فيها المشير محمد حسين طنطاوي رئيس المجلس العسكري الأعلى للقوات المسلحة, كما التقى بقيادات من العمل السياسي. ونقلت الإخبار بأنه التقى بالدكتور محمد بديع المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين, والدكتور أسامة الغزالي حرب رئيس حزب الجبهة الديمقراطية. كما التقى الدكتور محمد مرسي والدكتور عصام العريان من قيادات الإخوان المسلمين وعضوي مكتب الإرشاد بالجماعة. كما نقلت الأخبار اعتذار كل من رفعت السعيد رئيس حزب التجمع والدكتور محمد ألبرادعي رئيس الجمعية الوطنية للتغيير عن مقابلة البشير.
نحيي أولاً كل من السيد رفعت السعيد والدكتور محمد ألبرادعي لموقفهما الرافض مقابلة البشير, وهو موقف إنما يؤكد على صدق التوجه الوطني والالتزام المبدئي والأخلاقي فكرا ومنهجا وممارسة بالديمقراطية والحريات والانحياز الكامل لمطالب جماهير الثورة في داخل مصر, كما ينسحب ذلك على الموقف القيادي الطليعي الذي يؤمل أن تضطلع به مصر في محيطها الجيوبولتيكى الأوسع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. هذا هو محيط مصر الطبيعي الذي يحقق لمصر أمنها الاستراتيجي عن طريق التواصل الإيجابي والفاعل في الالتزام بخط الثورة والدفاع عن الحريات وتوطين الديمقراطية والحكم الراشد في المنطقة. موقف السيد رفعت السعيد والدكتور ألبرادعي الرافض لمقابلة البشير, يرسل رسالة  قوية للرئيس عمر البشير ومن ورائه الإخوان المسلمين الذين رحبوا به واستقبلوه في شخوص الدكتور محمد ربيع المرشد العام للجماعة بمصر, والدكتور محمد مرسي والدكتور عصام العريات من مكتب إرشاد الجماعة. اعتذار كل من الدكتور محمد ألبرادعي رئيس الجمعية الوطنية للتغيير ورفعت السعيد رئيس حزب التجمع عن مقابلة البشير لها مدلولات غاية في الأهمية:

أولاً: هذان شخصان يعتبران من أهم دعامات ثورة مصر الميمونة, وهما شخصان تشير مواقفهما القيادية في حركة التغيير التي تنتظم مصر الآن أنهما شخصان ائتمنهما شباب الثورة المصرية على قيادة عملية التغيير الشــامل - بالطبع ضمن آخرين من رموز الوطنيين الثوار. رفضهما مقابلة البشير يشير إلى أن خطى الثورة في مصر ومتطلبات التغيير فيها تسير في خط لا يلتقي مع الخط الذي تسير عليه حكومة الخرطوم بقيادة عمر البشير.

ثانياَ: ترحيب الإخوان المسلمين بالبشير في مصر, والتقاؤهم به, يشير إلى العلاقة الحميمة التي تربط بين التنظيميين الإسلاميين في كل من مصر والسودان, كما تشير إلى أن كليهما يسعى الى الإستقواء بالآخر ضد الخصوم الحاليين والمحتملين. فالبشير يريد الإستقواء بالأشقاء المصريين لتوطيد دعائم حكمه الذي بدأ يتهاوى تحت ضغط الثورة مثل سائر النظم الديكتاتورية السائدة في المنطقة والتي يرفضها الشباب الثائر, كما ويساعده الاستمرار في حكم السودان من استخدام كل آليات الدولة وإمكانياتها الاقتصادية والدبلوماسية للحيلولة دون مثوله أمام المحكمة الجنائية الدولية بسبب الفظائع التي ارتكبت في دارفور. في المقابل يسعى الإخوان المسلمون في مصر بالإستقواء بنظام البشير لتمكينهم من السيطرة على الحكم في مصر. ويتضح هذا جلياً من التصريحات التي أطلقها قادة الإخوان المسلمين الذين التقوا البشير. فقد خرجوا من اجتماعهم يبشرون الشعب المصري بأن البشير دعا المصريين إلى "التوجه إلى السودان لزراعة القمح", كما رحب الرئيس البشير" بتوطين مليون فلاح مصري لزراعة الأراضي السودانية". هذا بالإضافة إلى تفعيل اتفاقية الحريات الأربع: حرية التملك, التنقل, الإقامة والعمل, التنسيق حول ملف مياه النيل, وإقامة مشروع للأمن الغذائي المشتركـ. خرج قادة الإخوان المسلمين من اجتماعهم بالبشير بهذه البشريات للشعب المصري, وهي كما هو واضح أشبه"بالدعاية الانتخابية" لتسويق الإخوان المسلمين للناخب المصري في أول انتخابات قادمة, تجري بكل الشفافية والحيدة والنزاهة بإذن الله وعونه وبعزيمة الصادقين من الوطنيين الثوار. في هذه الجوغة التسويقية الشائهة ينسى الضيف والمضيف أن السودان ليس ضيعة خاصة بالبشير يجود بها وبأراضيها على ما يشاء وكيفما شاء.

ثالثاً: زيارة البشير إلى مصر, وتباين المواقف حيالها, أدخل القادة المصريين في حرج شديد هو آخر ما يمكن أن يحتاجونه في هذه المرحلة الدقيقة, والبلاد في أخطر منعطف في تاريخها الحاضر والماضي والمستقبل. تباين المواقف يشي باستقطاب حاد بين معسكر الثوار الوطنيين الأحرار وبين الأخوان المسلمين الذين يريدون أن يركبوا موجة التغيير- بمساعدة أشياعهم في السودان وفي غير السودان- حتى يتمكنوا من الحكم - ثم يقلبوا لصانعي الثورة ظهر المجن, ويذيقونهم بأساً شديداً كما يفعل رصفاؤهم الممسكون بالحكم في السودان من المتأسلمين. هذا استقطاب هو آخر ما يمكن أن تحتاجه مصر الثورة الآن.

رابعاً: تزامنت زيارة البشير لمصر مع بروز موجة شديدة من العنف اجتاحت العديد من المدن المصرية, وتنذر بنذر طائفية ماحقة. تمايز المواقف المصرية حيال زيارة البشير بين مرحب وناقم, تتماثل أيدلوجيا مع ما يجري في مصر الآن من تصادمات وتفلتات أمنية. فلقد شاهدنا ثوار مصر يلتحمون ويقفون وقفة رجل واحد في وجه حكم الاستبداد والطغيان- بكل طوائفهم - مسلمين ومسيحيين وأقباط. الثورة إذن تمثل مصر بكل طوائفها وتنوعها. بينما يعمل أعداء الثورة  على إجهاضها بتأجيج الفتنة الطائفية. الفتنة الطائفية في مصر تعني بداهة المواجهات بين جماعات من المسلمين - وهم الغالبية وبين غير المسلمين من الأقباط والمسيحيين- وهم الأقلية. بغض النظر عمن يقوم في الخفاء بتأجيج الفتنة, سوف يظل السؤال الحائر: من الذي يقف وراء هذه المصادمات الطائفية؟ . ربما يكون الإخوان المسلمون بريئين براءة الذئب من دم ابن يعقوب عما يحاك في الخفاء لتأجيج الفتنة, ربما بقصد الإيقاع بين الأشقاء المصريين وشق وحدة صفهم. لكن هذا لا يزيل الريبة نهائياً. الإخوان المسلمون في هذا الظرف الدقيق جداً مطالبون أكثر من غيرهم تأكيد التزامهم بخط الثورة - التزامهم الصارم بمواثيق الثورة في إقامة الدولة الديمقراطية التعددية التي تجرى فيها الحقوق حسب المواطنة وتحت سيادة حكم القانون وحيدة القضاء ومؤسسات الدولة المدنية وقومية القوات النظامية وكفالة الحريات وصون كرامة الإنسان, والتداول السلمي للسلطة دونما تغول أو إقصاء, والتواثق على دستور دائم للبلاد يضمن هذه الثوابت القومية.

خامســاً: للأسـف الشديد, نجد قادة الإخوان المسلمين في مصر يرسبون في أول اختبار على صدق نواياهم تجاه الثورة, وذلك بحفاوة استقبالهم للرئيس عمر البشير. إذ كيف بمن يؤمن بإشاعة الحريات وكرامة الإنسان يواثق رئيساً يمنع عن شعبه الحرية ويهدر كرامة شعبه بالتعذيب والتقتيل والاغتصاب للحرائر من نساء شعبه؟ وكيف بمن ثار وأجبر طاغية بلاده على الفرار, يرحب بطاغية آخر يستبد على شعبه, ويجور ويظلم ويفسد؟ ألم تقم الثورة المصرية حصرياُ ضد هذه المفاسد؟ فكيف تفسر قبولها من قبل قادة الإخوان المسلمين وحفاوة استقبالهم لطاغية السودان؟ هذه أولى سقطات قادة الإخوان المسلمين في مصر, وأنها لسقطة بلقاء تفضح نواياهم في مقبل الأيام. لكن يجب علينا في ذات الوقت أن نهيب بموقف الدكتور محمد ألبرادعي والسيد رفعت السعيد رئيس حزب التجمع رفضهما مقابلة عمر البشير, وهم بذلك يعبرون عن روح الثورة حفاً وحقيقة وعن تطلعات عن تطلعات جموع الشعب المصري الذي ينشد الحرية والكرامة كما الشعب السوداني.

سادساً: يجب التذكير لقادة مصر هنا بأن حكومة الإسلاميون في الخرطوم هي التي قادت سياستها الخرقاء في الحكم الى انفصال جنوب السودان, وذلك بسبب ايدبولوجيتهم الاقصائية العنصرية. وذات التوجه الشائه لإدخال الدين الإسلامي الحنيف في السياسة, هو الذي سوف يقود لتفكيك أجزاء أخرى من السودان- دارفور والشرق. هذه السياسات وما سوف يتمخض عنها من آثار كارثية في السودان في الشهور المقبلة, سوف يجر كوارث أعظم وأخطر لمصر علماً بأن الأمن الإستراتيجي للبلدين متداخل ومتشابك, فما يحدث في السودان خيراً أو شراً سوف ينعكس بلا شك على مصر. ودونك الطامة الكبرى التي أحدثها فصل جنوب السودان, وما تبعه من تكتل دول حوض النيل لإبرام اتفاقية دول المنبع, التي أصابت الأمن الإستراتيجي المصري في مقتل, والتمكين القوى لدولة إسرائيل في منطقة البحيرات العظمى بوسط أفريقيا The Great Lakes Region of Central Africa, وتواجدها الكثيف في دولة جنوب السودان ووضع يدها على منابع النيل. كل هذه الويلات جلبتها حكومة الإسلامويين فى الخرطوم على السودان وعلى الشقيقة مصر بطبيعة الحال. إذا كانت هذه نتف من الويلات العظيمة والكوارث الطامة التي جلبها حكم الإسلامويين على السودان, فليحذر قادة الثورة المصرية مصيرا مماثلاً إذا تمكن وصفاؤهم في مصر من الوصول إلى سدة الحكم, والفتنة الطائفية تدق على الأبواب بعنف.

وعـود البشيـر لمصـر:

  الوعود التي قطعها البشير لمصر لا يمكن الاعتداد بها فهي عطاء من لايملك, ولا يجوز للقيادة المصرية الاعتداد بها في ظل الثورة وتوجهها نحو الديمقراطية وحكم المؤسسية في الدولة المدنية. تعلم القيادة المصرية أن السودان ليس مزرعة خاصة للبشير يجلب من يشاء لحرثها وزراعتها. كما يعلمون أيضاً أن السودان- كما مصر حتى كتابة هذه السطور – تفتقدان الأطر القانونية والشرعية الضرورية والمؤسسات النيابية التي تمثل رأى الشعبين السوداني والمصري. رأى الشعوب هو الفيصل في مثل هذه القرارات المصيرية, وليس حكام فاقدي الشرعية, همهم الأول والأخير مصالحهم - ومخاوفهم الخاصة. إذا كان للبشير وبطانته الفاسدة من فضل فأهل السودان أولى بهذا المعروف, أهل السودان الذين يعرف المصريون ويعرف العالم اجمع فضلهم وكرامتهم أفقرتهم حكومة البشير وأذلتهم وقتلت أبناءهم واغتصبت نساءهم وجهلت شبابهم وأجبرت ملايين منهم على الفرار من أتون الحروب التي مافتئت حكومة البشير تشنها على شعوب السودان يعيشون في مخيمات اللجوء تحت رحمة الخيّرين من بنى البشر, وشردت حوالي ثمان ملايين من خيرة الأكفاء ليتفرقوا في أصقاع الأرض يبتغون رزقا حلالا بعد أن حرمتهم حكومة الإسلامويين من شرف الحياة التي هي هبة من الخالق الكريم. هل يعتقد القادة المصريون أن من يفعل هذا بشعبه يمكن أن تؤتمن عهوده ومواثيقه؟؟
 بالطبع يعلم قادة مصر الثورة إن ما قاله الرئيس البشير بأن "شعار وحدة وادي النيل بات الآن هو حديث الناس في السودان" ليس صحيحاَ. الصحيح هو أن حديث الناس في السودان اليوم بات هو أن "الشعب يريد إسقاط النظام" تماماً كما كانت شعارات ثورة مصر الميمونة. الرئيس البشير يريد أن يبيع مصر الثورة وعودا خلّب ثمنا لمناصرته ضد شعبه, فى محاولة مبتذلة قصد بها أن يحرج القيادة المصرية التي وثق بها شباب الثورة, بان تقف إلى جانبه في وجه ثورة شباب السودان التي أخذت نذرها تتكاثف على البشير وبطانته الفاسدة, وأن يتنكروا لروح ثورتهم المظفرة بإذن الله بالوقوف إلى جانبه - وهو طاغية السودان المستبد كما حسني مبارك الذي أطاحت بحكمه الشائه جموع الشباب المصري الثائر. ألتوق إلى الحرية ونشدان الحق والعدل والكرامة هو اصل واحد لا يتجزأ. فإذا ثارت الشقيقة مصر على طاغيتها الذي أذاق الشعب المصري صنوف الذل والهوان, فلا أقل من أن تقف الثورة ذات الموقف ألمبدئى الأصيل من الانحياز التام لثوار السودان لاقتلاع جذور الظلم والفساد والطغيان الذي يمثله حكم البشير, وهو الذي أذاق الشعب السوداني من ويلات العذاب والقهر والإفقار والهوان ما لا يخطر على قلب بشر, ضف إليها أوزار تفكيك البلاد وحروب جائرة راح ضحيتها ملايين الأنفس من السودانيين.
 ترتكب القيادة المصرية خطأً تاريخياً فادحاً إن هي انحازت إلى خندق البشير وزمرته ضد خندق ثورة الشباب السوداني والشعب السوداني. فسوف يذهب البشير وحكمه, لكن يبقى السودان وشعبه. فلتراهن مصر الثورة على شعب السودان, وليس على حكام السودان كما كان ديدنها دائماً في العهود البائدة. سوف لن يغفر الشعب السوداني لمصر إن هي سعت بالتمكين - مرة أخرى - لنظام حكم ظل يحارب الشعب السوداني اثنين وعشرين عاماً حسوما. هذا نظام لا شرعية ولا سند له غير سند بطش قوات الأمن والبوليس والميليشيات المؤدلجة, حزب لا يتعدى عمره السياسى أحد عشر عاما. تاريخ مصر المعاصر في علاقتها بالسودان يشير باستمرار لسياسة مصرية ثابتة قائمة على إضعاف السودان وجعله حديقة خلقية لها بتمكين نظم حكم عسكرية ديكتاتورية قمعية باطشة تدين بالولاء للقاهرة. دعمت مصر الانقلابات العسكرية التى قوضت النظم الديموقراطية فى السودان: نظام الفريق ابراهيم عبود عام 1959, انقلاب العقيد جعفر النميرى عام 1969, ثم ظلت تدعم باستمرار نظام الفريق عمر البشير حتى اليوم. هذا خطأ فادح تدفع مصر ثمنه باهظاً الآن ولأجيال قادمـة. سياسة إضعاف السودان وتمكين نظم حكم غير وطنية منبوذة من قبل السودانيين مفروضة عليهم, أوغر جهات عدة بالتدخل في شأن السودان الضعيف المنهك لتسديد الضربة القاضية لمصر بتحييد دورها بشأن مياه النيل. والآن تمت محاصرة مصر وخنقها تماماً من جهة انكشاف ظهرها  فى عمقها الاسترتيجى – السودان – الذى سعت دوما لاضعافه.

التكامل: مسوغاته, شروطه ومقوماته:
تكامل الشعوب القومية في كيانات كبيرة أضحى أمراً مطلوباً, بل ضرورياً لتقوية الدول وتعزيز قوتها التفاوضية مع الكيانات الأخرى في عالم اليوم الذي لا مكان فيه للضعفاء. تسعى الدول إلى التكتل في تحالفات اقتصادية وإستراتيجية وعسكرية بقصد تعزيز اقتصادياتها وتأمين أمنها الوطني وتحقيق تطلعات شعوبها في المدى المنظور والبعيد بوضع خطط راسخة بعيدة الآماد لتحقيق أهدافها القومية في عالم تصطرع قواه وتسعى للهيمنة والاستحواذ على الموارد لتحقيق الرفاهية والعيش الكريم لشعوبها.
لكن للتكامل شروطاً لا بد من توفرها. أولها الشرعية الدستورية للحكم الذي يكون ممثلاً حقيقياً للشعب عبر ممثليهم المنتخبين في البرلمانات القومية. حيث أن الهدف الأول والأخير للتكتلات هو تحقيق الأمن والاستقرار للمجتمعات ورفاهية الشعوب والحياة الكريمة, فالشعوب هي صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في مضاء أمر الوحدة والتكتل مع دول أخرى تلتقى معها في قواسم مشتركة. ثاني هذه الشروط هو وجود مؤسسات فاعلة وقوية للدولة المدنية, ومؤسسات بحثية وخبرات علمية واسعة تفتي في مختلف الجوانب المتعلقة بالتكامل وتصدر توصياتها لجهات اتخاذ القرار decision makers  على هدى علمي واضح وبصيرة راسخة بمآلات الأمور في كل ما يتعلق بجوانب التكامل المختلفة. تشمل هذه الجوانب على سبيل المثال لا الحصر: العملة وما يتصل بها من أسعار الصرف والسياسات النقدية, العمالة وحقوق العمل والعمال وتنقل العمالة بين الدول وتحديد مستويات الأجور, التجارة وحركة تنقل البضائع والرساميل, الأراضي وحقوق الملكية, الحدود وقوانين الهجرة, البنى الاقتصادية بين الدول الأعضاء جوانب القوة والضعف فيما بينها, وتكامل هذه الإقتصاديات complementarity, شبكات الاتصال والكهرباء والطرق, مناهج الدراسة والتعليم والشهادات العلمية وتوافقها, معيارية التعليم والأداء’ ومسائل الأمن والدفاع والجيوش, السياسة الخارجية, العلاقة بالمؤسسات الدولية.... الخ. هذه مسائل في غاية الأهمية يجب النظر فيها بعمق وعلى أسس غلمية ومنهجية واضحة لا مجال فيها للبس والعاطفة, إذ أن الأمر يعني مصائر الشعوب في أمور حياتهم ومستقبل أجيالهم. وهذا يستلزم بالضرورة: الشرط الرابع: أن يتم التكامل بالتدرج وعلى مراحل بتمهل على مدى سنوات يتيح الوقت الكافي لاتخاذ القرارات الصحيحة على هدى العلم وبصيرة من التمحيص والدراسة العلمية المعمقة بواسطة هيئات متخصصة كل في مجاله من خيرة العلماء, ومن ثم عرض النتائج علي الهيئات التشريعية (البرلمانات المنتخبة) لمناقشتها واتخاذ مايلزم من قرارات.
لما كان الهدف النهائي للتكتلات الإقليمية (مثل الإتحاد الأوروبي) هو توفير الأمن والاستقرار والعيش الكريم والرفاهية للشعوب, فالدعوة التي أطلقت منذ سبعينات القرن الماضي للوحدة والتكامل بين السودان ومصر وليبيا, لم تنجح لسبب بسيط هو عدم توفر الشروط الضرورية لنجاحها. فالحكم كان ولا يزال – على الأقل في السودان وليبيا حتى اليوم – حكماً عسكرياً دكتاتورياً, لا يوجد فيه تمثيل حقيقي للشعوب, وما نراه من برلمانات يعلم الحكام قبل غيرهم أنها ما هى إلا ديكورات لتغبيش الأبصار وللزيف والنفاق السياسى. كما أنه ليس هناك مؤسسات فاعلة في دولة مدنية مع تغييب متعمد للطبقة الوسطى من المثقفين وعدم تهيئة البيئة الصحيحة  للعلماء الرصينين لإضاءة الطريق لصناع القرار. فالدولة اختطفها الحزب الحاكم إذا كان المؤتمر الوطنى في السودان أو المجلس الوطنى في مصر أو اللجان الثورية في ليبيا. فالحزب هو الدولة والدولة هي الحزب, برموزه وكوادره وبكل فساده وتفسخه وبطشه واستبداده وظلمه وتضييع حقوق العباد والبلاد. فشلت دعوات الوحدة والتكامل بين السودان ومصر وليبيا لهذه الأسباب. لكن يظل الأمل معقودا على ثورة مصر أن تضع الأمور في نصابها بالتمكين للدولة المدنية بمؤسساتها الدستورية وبرلمانها المنتخب الممثل تمثيلاً حقيقياً لتطلعات ورغبات الشعب أولا فى داخل مصر, ثم العمل على توطين هذه الشرعية الدستورية والحكم النيابي الأصيل في المنطقة (خاصة في السودان وليبيا) ثم تطرح مشروعات التكامل – من ثم – على الهيئات التشريعية (البرلمانات المنتخبة) للدول المعنية, لكن ليس قبل ذلك, ليس قبل أن يكتمل المد الثورى لاجتثاث جذور الحكم الفاسد ورموزه حيثما كان, والتأسيس لاقامة حكم ديموقراطى حقيقى وقيام الدولة المدنية بمؤسساتها الراسخة وهيئاتها الرقابية وأعلام حر جرئ يكشف بؤر الفساد. أن أى حديث عن التكامل بين السودان ومصر – كما يروج لذلك البشير وطابور أمنه الآن لأسباب خوفهم من ثورة شباب السودان وما يترتب بعدها من ملاحقات جنائية – يكون حديثا لا طائل منه, وأى عمل فعلى على الأرض دون تفويض من الشعب السودانى عبر ممثليهم الشرعيين فى ظل حكم يتمتع بالشرعية الدستورية لا يعدو أن يكون احتلالا أجنبيا مهما كانت الألفاظ والمسميات.   

نصيحة أخيرة للأخوة فى مصر الثورة:
   مصر جغرافيا هي جزء أصيل من القارة الأفريقية, ولعل الكثير جداً من الأخوة المصريين يغيب عنهم حقيقة انتمائهم الأفريقي. ربما كان ذلك بسبب  مناهج التعليم أو التربية أو الإعلام. حيث ظلت مصر تنظر شمالاً تستلهم بعض انتمائها الفرنسي أو الأيطالى أو الأوروبي, أو تنظر شرقاً حيث الروابط يقيم العروبة والإسلام. لكن نادراً ما تنظر مصر جنوباً لتستنهض ولتحتفي بماضيها الحضاري التليد الضارب في الهوية الأفريقية. هذا أمر غريب ومحير. يحلو للإخوة المصريين أن يقولوا أن "مصر هي هبة النيل" بمعنى أن مصر تستمد حياتها من النيل. لكن النيل لا يجري ليروي الأراضي المصرية من الشمال, أو من الشرق اللذان تحتفى مصر بانتمائها إليهما أيما إحتفاء. النيل الذي يمد مصر بالحياة يأتيها من الجنوب, من أفريقيا السمراء (من جنة الله على الأرض paradise on earth), لكن ظل المصريون طوال تاريخهم المعاصر يديرون ظهرهم في ازدراء لأفريقيا مصدر عيشهم وشريان حياتهم. ماذا عسانا نطلق على هذا السلوك؟ عقوق؟ جحود؟ أم انطماس البصيرة؟ أهمس في أذن مصر الثورة أن حان الأوان أن تعود مصر عن "غربتها الحضارية" التى طالت, لتنظر جنوباً – الى افريقيا - حيث أسباب حياتها ومستقبلها الذي إن شاء الله سوف يكون – إن هي انخرطت مع افريقيا فى شراكة بناءة صادقة من دون بلطجة – أكثر إشراقاً من ماضيها الذي يهرت به العالم حيث كانت حضاراتها الفرعونية ضاربة جذورها في الانتماء الأفريقي.   

د. احمد حمودة حامد
Fadl8alla@yahoo.com

أكاديمي سوداني
دكتوراه الاقتصاد السياسي – جامعة ليدز, المملكة المتحدة
ماجستير اللغة الانجليزية – جامعة لانكستر , المملكة المتحدة
بكالوريوس الشرف الأدب الانجليزي – جامعة الخرطوم. السودان
 

 

آراء