البقر المقدّس

 


 

 

 

طَلَعْنَ شُمُوساً والغُمُودُ مَشارِقٌ .. لَهُنّ وهاماتُ الرّجالِ مَغارِبُ

مَصائِبُ شَتّى جُمّعَتْ في مُصيبَةٍ .. ولم يَكفِها حتى قَفَتْها مَصائِبُ

أبو الطيب المتنبي

(1)

إن الوثائق خير وسيلة لمعرفة الوجه الناصع من الحقيقية ، إن استعصى علينا جسدها كلّه. ومن الأهمية بمكان أن يتم التحقيق في أقوال منْ يتحدثون من الذاكرة، وقد شاهدنا الكثير في أجهزة التلفزة التي تغزونا في مخادعنا ، ولا تجد من أغلبنا إلا الاستسلام الكامل . إن بعض المتحدثين شفهياً ، لديهم أجندة خفيّة في تعديل الحقائق أو إخفاء بعضها ، أو تلوين الحقائق باللون الذي يرغبون. إن الذاكرة عُرضةٌ للتغيير والتبديل ، لأن الحواس النّاقلة لا تقوم بالنقل الدقيق والموضوعي إلا ما ندر ، فأصحاب العزائم وحدهم هم الذين ينقلون الأحداث وحقائقها كما هي ، إن كانت الحقائق بجانب مصالحهم أو ضدها ،وتلك خصلة نادرة الحدوث. فالإنسان ليس شيطاناً ولا ملاكاً وفق الأتوبيا القديمة ، ولكنه بعضٌ من الشرّ وبعضٌ من الخير ، وقد يلتبسا على المرء عند كثير أحيانٍ.
لذا، فإن التوثيق المُدوّن ، هو تسجيل لوقائع ليست قابلة للتعديل في حينه ، فقد خرج رصاص الكتاب المدوّن .هو عرضة للمقارنة والدراسة والتحقيق والتدقيق فيما يورده كاتبه لأنه صار ملك القراء والقارئات جميعاً . و الحقيقة العارية قد لا يرغبها الجميع، لأنها تُجرِّد الأحداث وحقائقها من الأغراض وألوان المكر. والأغراض المعروفة وغير المعروفة، هي داء الحقائق و جرثومة طمسها ،لأن طعمها الحقيقي مُرٌّ ، لا يَسهُل ازدراده بدون ماء الكَذب .و تُكشف الحقيقة دائماً غير ما يبطنه الأشخاص. إذ يضرّ بمصالحهم الخاصة آخر المطاف ، ويكشفهم عُراة أمام التاريخ .

(2)

عندما علم الشاعر "أحمد شوقي " بإنذار "اللورد ألمبي" المعتمد البريطاني بعد اغتيال السير لي استاك حاكم عام السودان في القاهرة يوم 19 نوفمبر 1924 ، واكتمال فصول المظاهرات المعارضة للإنكليز في بعض المُدن السودانية ،التي قادها أنصار وحدة وادي النيل من الوحدويين وأنصارهم في معظم مدن السودان الكُبرى والجنود المصريين ومعظم الموظفين المصريين في السودان . طلب اللورد ألمبي سحب القوات المصرية وإلا فالحكومة البريطانية على استعداد لفصل منطقة القناة وتحويلها إلى محمية بريطانية ، كما ذكر الصحافي " محمد حسنين هيكل " في حلقته " " قصة حياة " عن القضية السودانية ،في" قناة الجزيرة الفضائية ".
*
كتب الشاعر المصري " أحمد شوقي " بعد انفعاله مع الأحداث ،القصيدة التي وضع ألحانها الموسيقار " رياض السنباطي " وغنتها " أم كلثوم " عام 1946. تقول أبياتها :

وقى الأرض شر مقاديره لطيف السماء ورحمانها
ونجّى الكنانة من فتنة تهددت النيل نيرانها
عند الذي قهر القيصرين مصيرُ الأمورِ وأحيانُها
ويختلف الدهر حتى يبين دعاة العهود وخوّانها
فما الحكم أن تنقضي دولةٌ وتقبل أخرى وأعوانُها
ولكن على الجيش تقوى البلاد وبالعِلم تشتدُّ أركانُها
ولن نرتضي أن تقدَ القناة ويبترُ من مصر سُودانها
وحُجتنا فيهما كالصباح ليس بمعييك تبيّانها
فمصر الرياضُ وسودانها عيون الرياضِ وخُلجانها
وما هو ماءٌ ولكنه وريد الحياة وشريانُها
تتمم مصر ينابيعُه كما تتمم العين انسانها
وأهلوه منذ جرى ماؤه عشيرة مصر وجيرانها
وكم منْ أتاك بمجموعة من الباطل الحق عنوانها
ودعوى القوي كدعوى السباع من الناب والظفر برهانها

(3)

التعليق على قصيدة الشاعر " أحمد شوقي " :
هي قصيدة مُكتملة البُنيان الشِعري نظماً وخيالاً. وحوت عناصر الاستعارة و البلاغة والبيان الشِعري الناصع ،كان الشاعر ذا حس لغوي مرهف وفطرة موسيقية بارعة في اختيار الألفاظ وموسيقاها الشِعرية ، لكنه وصف السودان كتابع لمصر ( يبترُ مصر من سودانها ) في أحد الأبيات ، وفي بيت آخر من القصيدة يتحدث الشاعر عن أهل السودان بأنهم عشيرة مصر وجيرانها (وأهلوه منذ جرى ماؤه عشيرة مصر وجيرانها) . وهذا أراه تناقض عواطف مُتأججة مع أفكار غير متسقة ولا مترابطة ، خاصة وأن القصيدة ذات مفردات مُباشرة المعنى ، في مدلولها اللغوي .إن القصيدة تحمل في مُجملها إشارات سالبة للوطنيين السودانيين ، لأن الشاعر وصف مصر بالرياض ، ولم يزل يصرُّ على أن السودان : هو " سودان مصر " وهو "عيون الرياض وخلجانها". ذاك الوصف يشبه منْ يشتري الجارية ويُزينها بالحِلي ، وهو يعلم أن لن يغيِّر ذلك من مكانتها جارية بملك اليمين، لا حول لها ولا قوة !.
لا أعتقد أن مكانة السودان وأهله يستحقون مثل هذا الوصف.

(4)

الطعن في سلامة تشبيه " السودان " بأنها خُلجان رياض مصر ، كما أورده الشاعر أحمد شوقي : (فمصر الرياضُ وسودانها عيون الرياضِ وخُلجانها ).
إن الشاعر أحمد شوقي وضعته مصر في إمارة الشِعر ، ولسنا نُنازع أهل مصر فيما يحبونه .وقديماً كان الخلاف بين الشُعراء وأهل اللغة أمرٌ شائع ، فالشُعراء يُتقنون صنعة الشِعر ، ويلوون أعناق المُفردات لتُجاري موسيقي أشعارهم عند مرابط القوافي . وإن كان أصل الوصف لمصر أنها الرياض ، فمن الأقرب أن يكون السودان خليجها ، كما ورد في لسان العرب :
{والخَلِيجُ ما انقطع من معظم الماء لأَنه يُجْبَذُ منه ، وقد اختُلِجَ ؛ وقيل : الخليج شعبة تنشعب من الوادي تُعَبِّرُ بَعْضَ مائه إِلى مكان آخر ، والجمع خُلْجٌ وخُلْجانٌ .}
إذ ان السودان يعبُر واديه نهر واحد، هو نهر النيل .وليست هنالك أنهر أُخر لتُصبح (خلجان ) كما عبّر عنها الشاعر أحمد شوقي بأن السودان عيون مصر الرياض وخلجانها ، بل نراه شريان مُفرد يُغذي مصر :هو نهر النيل. والخليج شعبة تنشعب من الوادي تُعَبِّرُ بَعْضَ مائه إِلى مكان آخر. فمكانه مفردٌ وليس بجمع . وإن ضرورات الشِعر لا تقتضي هذا التجاوز .
ربما عدّ تعليقنا تطاولاً على أمير الشعراء ، ولكنها قراءة أخرى نمسّ فيها " البقر المُقدس "!.

(5)

ها هو الصحافي " محمد حسنين هيكل " يحاول تبرير كتابة قصيدة " أحمد شوقي " ، دون أن يسير على أشواكها ومعانيها البادية، حتى لمتوسطي فهم اللغة العربية . فقصيدة شوقي مُباشرة المعنى والمبني ، وهي من طراز النظم العربي القديم ، على ما بها من استخدام شِعري سلس وإبداع لُغوي وتناغم بين ألفاظها من جرس قوي و حُب نبيل ، ينظر للسودان على أنها جارية مصر التي بها يُفاخر .عاطفة غلبت عقلانية الشاعر، ورغم ذلك فإنها غير قابلة للتأويل أو التبرير.
قال الصحافي " محمد حسنين هيكل" عن القصيدة أعلاه في معرض برنامجه مع الجزيرة الفضائية ، بعنوان " قضية السودان" :
{ أنا فاهم شوقي كان يتكلم على إيه لأنه لورد ألمبي سنة 1925 لما راح يوجه إنذاره الشهير إلى سعد زغلول باشا بأن مصر عليها أن تسحب قوتها من السودان وأن تدفع تعويضات لأنه كان وقتها اغتيل سير لي ستاك دار الجيش الإنجليزي وأنتهزها لورد ألمبي المعتمد البريطاني في مصر في ذلك الوقت فرصة لكي يوجه إنذار نهائي للحكومة المصرية ينهي علاقتها بالسودان خالص وسعد باشا مضطرا تحت ظروف هو لا قبل له بها قبل الإنذار واستقال من الوزارة وكانت لحظة شديدة الحرج في تاريخ مصر لأنه ألمبي بعد كده راح شاف الملك فؤاد وقال له أبلغه وهذا واضح أمامي في كل الوثائق إنه إذا لم تسر الأمور فيما يتعلق بالسودان كما تطلب الحكومة البريطانية فالحكومة البريطانية على استعداد لفصل منطقة القناة وتحويلها إلى محمية بريطانية واضحة صريحة}
التصحيح :
من كتاب البروفيسور " محمد عمر بشير " " تاريخ الحركة الوطنية في السودان (1900- 1969 ) الذي ترجمه هنري رياض ووليم رياض والجنيد علي عمر وراجع الترجمة الدكتور نور الدين ساتي – الدار السودانية للكتب – الخرطوم شارع البلدية- ص- 114 – 115 – 134-116 :
بدأت التظاهرات منذ صيف 1924 في كل من الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان ومدني وعطبرة والأبيض وبورتسودان وشندي ودنقلة وتلودي وملكال . واستمرت طوال المتبقي من العام ، وزاد اشتعالها نبأ اغتيال السير لي استاك حاكم السودان العام في القاهرة يوم 19 نوفمبر 1924 ، وليس عام 1925 كما ذكر الصحافي " محمد حسنين هيكل ". قامت المقاومة المسلحة للضباط السودانيين يومي 27/28 أغسطس 1924 .ولدى الرجوع إلى التقارير ووثائق قلم المُخابرات تبين أن قادة ثورة الجيش عام 1924 هم : عبد الفضيل ألماظ وحسن فضل المولى وثابت عبد الرحيم وسليمان محمد وسيد فرح وعلي البنا وأحمد سيد محمد .وقد قُتل " عبد الفضيل ألماظ " فجر 28 نوفمبر 1924 بعد أن انهدم عليه بنيان الغرفة التي كان يتخذها ساتراً لضرب النار.
قُدم حسن فضل المولى وثابت عبد الرحيم وسليمان محمد لمحكمة عسكرية ، قضت بإعدامهم رمياً بالرصاص، ونفذ الحكم فيهم بالفعل . وكان " سيد فرح " قد أصيب بجراحه في الخرطوم في ليل 27 نوفمبر واستطاع الهرب لمصر ، رغم أن الإنكليز رصدوا ألف جنيه كجائزة لمنْ يقبض عليه . وأُبدل حكم الإعدام الصادر بحق " علي البنا " بالسجن مدى الحياة لأن رجال المخابرات قرروا أنه كان يمدّهم بمعلومات عن الحوادث التي وقعت في " ملكال "، وعوقب أحمد سعد بالسجن 15 عاماً .
وتردد اسم " عبد الله خليل " لارتباط اسمه بثورة الخرطوم ، و"زين العابدين عبد التام "الذي ارتبط اسمه بأحداث ملكال .

(6)

أوضح الصحافي" محمد حسنين هيكل" في تقريره عن زيارته للسودان عام 1953 ، في ذات الحلقة التي ذكرنا أعلاه ، أن مصر كانت تعتقد بأن الاتحاديين ، أو المال الذي أنفقه " صلاح سالم " ( مليون ونصف جنيه مصري ) في السودان ،في محاولة من مصر ليسند استفتاء تقرير المصير ، قضية وحدة وادي النيل ، ولكنه أوضح في تقرير زيارته أن السودان سيختار الاستقلال ، خلافاً لما كانت تأمل مصر. وأوضح ذلك للرئيس عبد الناصر بعد الزيارة .
وذلك يدعونا أن نعيد التدقيق في معلومة أن " الحزب الوطني الاتحادي" الموحد، لم يستخدم " المال السياسي " ليفوز في الانتخابات الأولى عام 1954 بأغلبية مهدت لتكوينه حكومة وطنية خالصة بدون ائتلاف !!. وهي الحالة الوحيدة التي لم تتكرر في تاريخ الديمقراطيات السودانية ، رغم سيطرة الطائفية على جموع العامة الذين يؤمنون بهم من " ختمية وأنصار " وهما الأغلب شعبية دون الطائفة الهندية . ونعيد النظر بريبة حول المال الذي أنفقه " الصاغ صلاح سالم في السودان "ّ. وما لاحظه " محمد حسنين هيكل " من واقع حسابات البنوك ، وإفادة السير جيمس روبنسون للصحافي " هيكل " أثناء زيارته السودان تلك، من أن بعض السودانيين بدئوا البحث عن مساكن جديدة وشراء عربات !! :
نص حديث هيكل :
{ لكن علي حد كان يبص في الصورة ويراجع التاريخ يدرك على طول إنه خيار الشعب السوداني عندما تجئ لحظة تقرير المصير سوف يكون باختيار الاستقلال وإن أي كلام بيقال لنا عن الوحدة أنا بأعتقد إن واحد الأساس اللي موجود محتاج يناقش، الأساليب اللي استعملناها والإهمال اللي تصرفنا به يستاهل قوي إنه يراجع الطريقة اللي حتى لم راح صلاح سالم حتى لما راح صلاح سالم أنا بأعتقد إن إحنا لأن ما كانش في وقت بين الاستفتاء وبين تقرير المصير، بين الاتفاقية بتاعة الاستفتاء وبين تقرير المصير، بقى في عملية صرف فلوس، لما شفت روبنسون سير جيمس روبنسون اللي هو رئيس الإدارة المدنية في السودان واللي هو اللي قابلني بدل سير روبرت هاول لما اعتذر الحاكم العام هو قال أنا أنت بتصرفوا فلوس بتعطوا صرفتم صلاح سالم لما جاء صرف فلوس وأظن وأنا عارف إن في.. في ذلك الوقت وبعدين تأكدت من الأرقام في ذلك الوقت صرف حوالي مليون جنيه ونص على شكل هدايا وهبات، بيقول لي روبنسون أنا ما عنديش دليل إن في فلوس صرفت ما عنديش دليل عليها مادي أمسكه لكن أنا شايف أمامي إن بعد ما جاء صلاح سالم شايف في أمامي حسابات في البنوك بتظهر وشايف في أمامي ناس بدؤوا يبحثوا عن مساكن أحسن وبدؤوا في ناس يبجيبوا عربات، فأنا يعني هنا ومع ذلك هو قال إن هذه الرقصة قد تكون مسرح جيد لكنها مش متأكد إنها تبقى سياسة جيدة، لما رجعت أنا القاهرة رجعت القاهرة الجو معبأ، الجو مشحون والمشاعر وانتظار وصلاح سالم يبدوا بطل، وضعنا على غلاف أخر ساعة صورة صلاح سالم والأسد البريطاني في حرب هو عملها ودخله في رقبة الأسد البريطاني، أنا كلمت جمال عبد الناصر بعد ما رجعت لكن لما رجعت دفتر مذكراتي هنا مليان لغاية آخر ورقة فيه بأبيات من الشعر ومقابلات ولقاءات وانطباعات وإلى آخره لكن لما كلمت جمال عبد الناصر كان شاف يوميها غلاف أخر ساعة، هو عارف رأيي من قبل ما سافر وأنا كنت متشائم أنا مش معتقد على الأقل مش متشائم لا تشاؤم ولا تفاؤل لكن أنا كنت بأعتقد إن إحنا أمام مسألة أكثر تعقيدا مما يبدوا في القاهرة، فسألني الصبحية.. كلمني الصبحية بدري قال لي إيه غيرت رأيك ولا حاجة قلت له هو الأسد البريطاني أصيب زي ما في الصورة لكن هو السؤال هل نحن سنستفيد شيئا؟ أنا معتقد إن السودان مقبل إن إحنا مقبلين على استفتاء وأنه هذا الاستفتاء سوف يصوت ضد الأماني التي نتصورها وأنا عارف إن الكلام ده نقل لصلاح سالم ولسوء الحظ عمل إشكال بيني وبين صلاح سالم تبدّت له عواقب فيما بعد. }

(7)

الأستاذ " أمين محمد أحمد :
الراحل الأستاذ " أمين محمد أحمد " ، هو من خريجي جامعة الخرطوم في ستينات القرن الماضي ، وتلقى دراسات عُليا في كتابة السيناريو في مصر ، وكان أول دفعته . كتب كثير من المسرحيات وسيناريوهات المسلسلات في الإذاعة والتلفزيون في أيامهما الزاهيات .
أول مرة تعرفت عليه ، إذ زاني بمكتبي الذي كنتُ أعمل في مهجري منذ سنوات . وكان يعمل في تحرير مجلة البلدية الشهرية. اشتركنا مكان العمل وإن اختلفت تخصصاتنا. جاءني يسأل عن مشروعات هندسية مُنجزة ، ليكتُب عنها في المجلة الشهرية للبلدية . يرتدي الجلباب والعمامة التي تُميّز سكان وسط السودان . لم أتذكر هذا العملاق الفخم أول مرة ، إذ جاءني مُتنكراً في ثياب مُحرر !. أعلم أن للمهاجر عيوبها .تقوم أحياناً بتعيين خيار السودانيين، وتجعلهم في كف واحدة مع أقل المُستخدَمين شأناً. منْ لا يعرفك يجهَلكْ. تلك ذلَّة المهاجر التي أصابت كل من لفظتهم أيديولوجية نفي الآخر وتحطيمه في الوطن !.
تعودتُ على أن ألقاه بعد ذلك على فترات مُتباعدة. مرة جلسنا في دار للسودانيين وكُنا وحدنا. تحدث هو عن مشاريعه قيد التنفيذ بعد أن انتهت خدمته وعودته للوطن. وأوضح لي أن أعماله المسرحية كلها مُدونة ، وهو مُتنازع بين نيران القطاع الخاص الفقير في السودان ، وحائط مبكى القطاع العام ! .
فتحنا قصة من التاريخ في تلك الجلسة ، وهي سيرة " البقرة المقدسة " في تاريخنا الاستشهادي العظيم " لثورة 1924". وقلّبنا أوراق الدفاتر حولنا. وذكر لي أنه عند إعداد مُسلسل البطل " علي عبد اللطيف " للتلفزيون السوداني وقصة اللواء الأبيض وتاريخ الثورة ، قام هو بالاطلاع على أوراق ووثائق التاريخ ، وكُل ما كُتب عن البطل " علي عبد اللطيف " ، إضافة للمقابلات الشخصية لبعض الأحياء ممن شهدوا تلك المرحلة ، قبل أن يعمل في المسلسل التاريخي . وكيف أنه احتار كيف يستسيغ المُستمع السوداني أن يتحدث البطل " بلغة دارجة مصرية " كما هو في الحقيقة التاريخية ، لأن البطل درس وتعلم في الكلية العسكرية بمصر .ورأى أخيراً أن يقيم سيناريو المسلسل على أن لغة البطل " علي عبد اللطيف " هي السودانية الدارجة لوسط السودان. ومرّ الأمر كله بسلام ، رغم أنه غيَّر من الواقع التاريخي .وتلك لها ما يبررها من أن العمل الفني دائماً يختلف عن حقائق التاريخ .
ونترك الأمر كله بلا تعليق.
ماذا يا تُرى تبقى لنا من قصة البقرة المُقدس ؟!

عبد الله الشقليني
25 أبريل 2017

عبد الله الشقليني
alshiglini@gmail.com

 

آراء