البيتُ الذي بناهُ الثُوَّار

 


 

 

 

شمال عيادة جامعة الخرطوم المعروفة باسم (الكِلِينيك)، في الشارع الضيِّق الذي تَغيَّرت ملامحه تماماً، حتَّى أنني لا أستطيع تذكّر شكله الماضي؛ شمالها وعلى امتداد الحائط الذي يُضَيِّق الشارع حتَّى يكاد يصيرُ زقاقاً ويصل إلى شارع النيل كبري الثوّار، تشكَّلَ مَعرضُ رسمٍ على الحائط، عفَويّ، وفي المكان المناسب بالضبط كمدخل مَعروف لثائرات وثوَّار شارع النيل الراجلين من تحت الكبري، شاركت فيه أعدادٌ من الفنانين والفنانات الذين ربّما لم يجمعهم من قبل سوى هذا الحائط؛ المُتفرِّجين والمُتبرّعين بشراء موادّ التلوين والرسم في الغد. نلتقي غداً؟ هاك رقم هاتفي.

كذلك تتبدّى بعضُ سحريَّةٍ واقعيّة لبقية الأماكن التي تُشيِّد الفعاليَّات الثقافيَّة والسياسيَّة والإعلامية، داخل وفي محيط ميدان الاعتصام بالقيادة المُسلَّحة، وكأنها وُجدت منذ الأزل لتحتضن ممارسة هذا النشاط الثوري القائم منذ ديسمبر الماضي من هذا العام العَجيب.

(1)
من ما رأيت فإن الفنون والعمل الثقافي يزدهران في لحظةٍ فاصلة، ويتحوّل الغناء والرقص والموسيقى وبقيّة الفنون إلى فِعلٍ جماليٍّ يختلفُ عن ما سَبَقه من جماليّات مراحل العنف والدفاع عن النفس ما بين المليشيَّات الغامضة وما بين المتظاهرين؛ رأينا جماليّات للفنون أثناء الثورة عبَّر عنها أحد (الفور جي) في إحدى الفيديوهات المنتشرة إبَّان الثورة، أن: (أيام كان الشعب السوداني فيها بيفاجئ في الشعب السوداني) وترافقها صور البالونات التي طارت حاملةً صور الشهداء في سماء العاصمة.
أقول، في اليوم السابق لبيان الجيش الأوّل، ولحظة دخولي الاعتصام ليلاً، وجدت نفسي في وسط عرضٍ ممتَّد من أشكال الفنون المُتجذِّرة، الراسخة على الأرض، على امتداد شوارع القيادة جميعها. هذا يعني، بالتالي، الانتصار الأوّل؛ إذ أن هذا الازدهار يَقول أن الثوَّار استعادوا الشوارع جميعها، كجزءٍ من حقوقهم الأصيلة، واستخدامه بأريحيَّة وكحقٍّ طبيعي وبسيط لكل إنسانٍ من بقيّة الحقوق الطبيعيَّة والبسيطة الهائلة التي عشنا حرمانها طوال حياتنا، وتُبهِرنا عندما نعيشها في أيّ دولةٍ مجاورةٍ لدولتنا، كأننا خارجين من أقفاصٍ في حديقة حيوانٍ هائلة. أعتقد أن الحراك الثقافي والفكري، بما شاهدته وأنقله في هذا التنقيب المَشهَدي، سيمتد إلى الشوارع جميعها في السنوات المقبلة، سيكونُ قاسياً في البداية حسبما نُشاهد من غبنٍ مُتراكم في النفوس، لكنّه سرعان ما سيتّخذ اتجاهاتٍ مُختلفة ومُتفرِّدة لم يخفت صوتها طوال عقود وجود السودان، ولكنّه، مع انتزاع الحريَّة والشوارع، وتباعاً، وبشكلٍ طبيعي، أندية الأحياء وإثراء البيئة الرياضيَّة وانتزاعها من براثن السوق الرياضي الحر هذا.
الكثير من العمل يبدو أنه سيُنجَز بواسطة من نراهم في الميادين اليوم، وما يقدّمونه يوميّاً من اختلافاتٍ خلاَّقةٍ مُتسارعة كالبروق المتتابعة، وسيُنجزونها بطُرقٍ سوف تُبهرنا،ستشلّ تعبيرنا، وسلسوف تصدمنا كذلك صَدماً شديداً، وهذه هي ميزة الحريَّات الطبيعيَّة، وهي صورةٌ عاديّة من صور الطبيعة الكثيرة الصادمة.

(2)
لن يكون هنالك انتقامٌ بالأيدي، ولا بالسلاح، من ما أراه من التزامٍ صارمٍ بالسلميَّة فيما يحدث في الثورة أعتقد أنها ستتجاوز حتَّى الخلافات بين السياسيين الحاليّة حول تشكيلات الحكومة المدنيَّة الانتقاليَّة التي نرجو أن تتسلَّم السلطة من المجلس الانتقالي العسكري في أقرب فرصة، إذ أن الحياة الطبيعيَّة التي نشتاقُ العودة لها هي بتثوير الفكر، واقتحام كلّ مجهولٍ لم نعرف عنه شيئاً مُسبقاً، والشعور بأن هذا النيل، على الأقل، هو نيلنا الذي نُريد أن نجرّب نشاطنا على ضفافه.
الانتقام الأخطر هو في الصراع الفكري والتثوير بالأدوات الثقافيَّة في أجواءٍ ديموقراطيَّةٍ حُرَّة، في أشكال الصحف والمجلات التي ستخرج، ورقيَّاً وإلكترونيّاً، في إنعاش حركة الطباعة والنشر والتوزيع، في اقتحام التلفزيونات والإذاعات وسماع الأصوات والأفكار الجديدة والمختلفة، الواحد منها عن الآخر، اختلافاً لا يراه السودانيّون حالياً، بقدر ما يلجأون دائماً إلى محاولة تكويمهم في تصنيفات باهتة وتَحييديَّة كهذه (الشباب) المريبة، والتي استمعت إليها في أثير الإذاعة في سيّارة صديق في يوم 7 من أبريل على ما أتذكّر، حيث كان الخبر لا يتعدَّى الـ600 كلمة، وردت فيها كلمة الشباب على لسان المسؤول والمذيع أكثر من 400 مرة.

(3)
من الطبيعي أن يكون ما أنتجته ثورة البواسل هذه مُخيفاً للمجتمع في البداية، إذ أن هنالك مأزق كبيرٌ يتجلَّى هنا، هؤلاء «الشباب» قد أنجزوا هذه الثورة فعليَّا، والسلطة في يدهم، ليس بمفهوم سلطة القوّة، بل بالمحبَّة التي منحها إيّاه الشعب السوداني بعد أن رأى بأمّ عينيه ملاحم في كل الاتجاهات على مدى شهورٍ عديدة، وكانت قلوب الجميع تنبض معهم. وبعد انتصارهم الوافي في 6 أبريل، لم يجدوا بُدَّاً من معانقتهم والبكاء معهم يوم إذاعة البيان، والتطبيب على شعورهم الكثيفة التي [كانت] صَعلَكَةً وأصبحت عزائم.
هذه المحابّة تضع الجميع في ساحة التفاكر والحوار في السنوات المُقبلة، وهي التي ستمنحهم كرسيَّاً مع البقيّة الباقيّة من مكونات الشعب السوداني بكلّ أجسامها المختلفة. هذه الميزة كذلك –أعني إنجازهم الفعلي للثورة مع الأقليّات المُتمرّدة في الأجيال السابقة- تضع كرسيّهم في خانة (المايك)، أمامه مباشرةً، وعلى الجميع أن يصغي بلا كللٍ ولا مللٍ حتَّى وإن كانت ثرثرة (ولن طبعاً).

(4)
أما لوحة المرأة في الثورة فقد كانت الأبهى ورمز الرمح في الصراعين، الثوري السياسي والفكري؛ إذ أنهن، بجميع أجيالهنّ، كُنَّ ملتحمات بالثورة، وهو أمرٌ طبيعي، فعوضاً أنهنَّ من أكثر من انتُهِكن في العهد الماضي، فطبيعتهنَّ ثورية من النوع الذي لا يعرف التوقّف أو الهوادة. تلاحظ الكاتبة نانسي هيوستن في كتابها (أساتذة العدم)، أن الرجال العدميين من الفلاسفة والكُتاب والفنانين الأوربيين، في أغلبيّتهم، يعيشون حياةً مديدة، وبعضهم قد يصل الكهولة، بينما تنتحر النساء العدميات، دائماً، في سنٍّ مُبكِّر، وهو كتاب شيّق بالبحث في سير حياتهنَّ، وقد حاز جائزة في الكتابة النسويّة.
حسنٌ، بذلك فقد اقتلعت المرأة حقَّها في (المايك) كذلك، ويجب أن لا نخاف من العنف الذي نراه من الثوريّات تجاه أي سلوك أو حديث أو اصطلاحات تُهين أو تحط من قدر المرأة، حتَّى أنه أحياناً يصلُ مرحلة الزجر. شاهدتُ شابةً تلتفت باستياء واضح لما كان يصرخ به أحد الشباب المتكئ على كنبةٍ، مُحاولاً طلبَ نُسخةٍ من البيان الذي تقومُ هي بتوزيعه: «يا بت انتِ هاي، جيبي البتاع ده»، كلّ ما قامت به هي ترديد جملته: «يا بت انت؟»، مع نظرةٍ يمكننا تصوّرها بسهولة، وواصلت سيرها بشموخ تاركةً إياه في دَهشتهم، هو وأصدقائه، يَعمَهون.

(5)
خرجت العديد من الأجسام الثقافيَّة إلى الساحة في الاعتصام وشاركت السودانيين بهجتهم، رأينا القديمات منها، ووجوهاً لفنانين وكُتاب وأصدقاء عادوا إبَّان الثورة؛ تجمع الدراميين اتخذَ له زاويةً رائعة في الجنينة التي تقاصد القوّات البريَّة، واستقبلوا فعاليات معرض كتاب مفروش مُصغَّر بكلّ رحابة صدر، شبكة الصحفيين السودانيين تتجمَّع تحت لبخةٍ في تقاطع البلديّة مع شارع القيادة. ستصادف الرموز السياسيّة الكبيرة تتجوَّل بابتساماتٍ لم نرَ لها مثيلاً، وارتياحاً جمَّاً بل حتَّى التنفّس قد تغيّر. ستجد مسرحاً وأنت تسير، وستسمع من البعيد عمر إحساس وأبو عركي وتفضّل عدم الذهاب لأن الحشود قد تقتلك خنقاً في هذا العمر المُضاعف بسبب كل القهر. سترى الممثلين في كلّ مكان، وتصادف محمد مرزوق يعزف الفلوت وسط تجمّعٍ يشابه التجمع الذي قام به إبّان اعتصامات الأحياء بشمبات، والتي شارك فيها عزيزنا فضل أيوب أيضاً. رأينا رموز الرياضة والفن والغناء والتصوير والسينما والآداب والتشكيل في كلّ مكان، الذين تمَّ استبعادهم من المشهد طوال عقود، ولكنّهم قاوموا أيضاً في هوامشهم الفقيرة.
وأمس، بتقاطع شارع المك نمر والبلديَّة، تجمّع المبدعون السودانيّون –من جميع روافد الإبداع- وسيّروا موكباً ضخماً وازى مواكب أخرى لفئاتٍ أخرى بشارع الجامعة، والجمهوريّة، متوجّهين إلى مسرح حياتهم الجديد: اعتصام القيادة.

(6)
لا أرى جهةً قد قصّرت طوال هذه السنوات المُهلكات، وكنت ألتقي أصدقاء وأمازحهم، بكلّ جديَّة، أن علينا الحمد للنجاة من الموت في تلك الحقبة. لقد ودّعنا الكثير من الصديقات والأصدقاء بمسبباتٍ كثيرة، من اغترابٍ إلى هجرةٍ قفزاً إلى أحزان الراحلين أجساداً.
لم تقصّر، لا الأجسام الثقافيّة ولا الإعلاميَّة ولا السياسيّة، مع الاختلافات الطبيعيّة، طوال سنوات، كذلك نتذكر المراكز الثقافيّة كمعهد جوته والمجلس الثقافي البريطاني، والمركز الثقافي الفرنسي وغيرها، اتحاد الكتاب السودانيين، جماعة عمل الثقافيّة، شارع الحوادث وتعليم بلا حدود ومشافهة النص الشعري. الملفات الثقافيّة في الصحف، المجلات والصحف الإلكترونيّة بمختلف اتجاهاتها.
إضافةً إلى أن الذي قصَّر، وأجرم، وخوّن، وخان، الله يعرفهم، وهم يعرفون أنفسهم، والأهم أن الناس تعرفهم، ولن تنسى.
ثمَّ أنه لا داعٍ لأيّ استعجال، إن هذه إلى مجرّد خطوة في طريقٍ جديدٍ ومُختَلِف، وإنَّ ثقتي في سلميَّة السودانيين غير محدودة، وقدراتهم اللامتناهيّة في الابتكار والفرح وعيش الحياة كما يجب أن تُعاش، ولا يزيدنا اطمئناناً سوى من نراهم يوميَّاً، يبدعون ويبتكرون باستمرار، دونِ كللٍ، بطاقةٍ، وقوّةٍ غامضةٍ (يحسّها كل فردٍ ولم يشرحها أيّ فيلسوف)، كما عبَّر الشاعر جوته.

(7)
وأخيراً، أمام الحركة الثقافيّة تحدٍّ كبير، وهو أن تكون –كما كانت من قبل- هي من تتقدَّم لحوار هذا الجيل الراكب راس، ولسوف تتقبّله، كما فعلت دائماً، كجزءٍ أصيلٍ منها؛ يجب إعادة فتح المنابر، واسترداد أصول الأجسام الثقافيَّة كدار الاتحاد السودانيين خلف قاعة الصداقة بالمقرن، واستلهام الخبرات العمليّة والتقنيّة للجميع. يجب أن تتقدَّم الحركة الثقافيّة لأن الاختلاف جزءٌ لا يتجزَّء من طبيعةِ تكوينها. والمجتمع مهيّأ لذلك، بمحبّته الطافحةِ هذه، والأجواء كذلك.

eltlib@gmail.com

 

آراء