التجارب الديموقراطية السودانية: معوقات الاستمرارية وآليات ضمان الاستدامة

 


 

 

د. صبري محمد خليل / أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه في جامعه الخرطوم

Sabri.m.khalil@gmail.com

أولا: ملخص الدراسة: تتناول الدراسة أولا معوقات استمرارية الديموقراطيه السودانية وهى: أولا: مشكله مشكلة التخلف الديمقراطي ، وتتمثل في ضعف التقاليد الديمقراطية ، بفعل الاستعمار وما صاحبه من تخلف ثقافي ومادي، إضافة إلى تطبيق المفهوم الليبرالي القائم على سلبية الدولة بالنسبة للممارسة الديمقراطية، وكان حصيلة هذا فشل تطبيق الديمقراطية، ومن أثار هذا الفشل جاءت ظاهرة الانقلابات العسكرية ، كل هذا أدى إلى شيوع العديد من المظاهر السلوكية والفكرية السياسية السلبية منها: السلبية السياسية /الإشاعات/ النفاق”السياسي/ شيوع ظاهره المراهقة السياسية . ثانيا: الخلط بين الدولة بما هي مجموعة السلطة “الحكومة” والأرض ” الوطن” والشعب على مر الأزمان، والنظام بما هو السلطة “الحكومة” في زمان ومكان معين، وهذا الخلط يتجلى في عدة ظواهر سلبيه أهمها: شيوع معيار الولاء بدلا من الكفاءة لدى النظم السياسية المختلفة بدرجات متفاوتة ، وعدم تمييز قطاعات من المعارضة بين استهداف الحكومة واستهداف مؤسسات الدولة.ثالثا:أن الواقع السياسي السوداني لم يعرف – في الغالب الأعم- سوى الأحزاب ذات الشكل الليبرالي، التي هي المعادل السياسي للنظام الرأسمالي، القائم على المنافسة الحرة من اجل الربح. رابعا: أن علاقة الأحزاب السودانية – في الغالب الأعم- بالواقع الاجتماعي، إنها انعكاس لواقع تخلف النمو الوطني والقومي، وبالتالي يمكن وصفها بأنها تعبيرا سياسي عن الانغلاق القبلي والطائفي. خامسا: أن السياسة السودانية ظلت تحاول دائماً الانتقال التغيير السياسي”الثورات السياسية المتعاقبة” ، دون أن تكمل إنجاز التغيير الفكري” الثورة الفكرية” . سادسا: المظاهر الفكرية والسلوكية السلبية ، التي تسود بين المثقفين والمتعلمين السودانيين- فتوجد في مجموعهم إن لم توجد في جميعهم – وهي إفراز امتداد الحياة في ظل تخلف النمو الحضاري للمجتمع السوداني، و في ذات الوقت فإنها احد أسباب استمرارها لأنها تفتك بمقدرة المثقفين، الذين هم قادة حركة التطور الاجتماعي في كل المجتمعات، ومن أهم هذه المظاهر السلبية :الفردية (الانانيه) ومظاهرها:كالانعزال عن الجماهير أو الاستعلاء عليها والبيروقراطية/ تجاوز المثقف لدوره التنويري وفرضه وصايته على الشعب /الدوران في الحلقة المفرغة “التغريب والتقليد” / التقاء تياري التقليد والتغريب في تكريس الفهم الخاطئ للدين/ النخبوية بدلا من الطليعية/ ضمور الدور النقدي للمثقف في علاقته بالسلطة. سابعا: شيوع موقفي الرفض المطلق أو القبول المطلق لمفهوم الديموقراطيه في الفكر السياسي السوداني ، نتيجة لأسباب متعددة أهمها خضوعه لقاعدة الحصر الثنائي ” بين الفكرة ونقيضها .ثامنا: اكتفاء الديموقراطيه السودانية، بمعيار الاغلبيه وتجاهلها لمعيار التوافق، نتيجة لأخذها بالصيغة الليبرالية للديموقراطيه ، وكون الليبرالية واستنادا إلى اعتمادها المطلق على مفهوم الاغلبيه، لم تميز ابتداء بين نوعين من أنواع الاغلبيه: أولا:الاغلبيه المتغيرة “السياسية” ثانيا: الاغلبيه الثابتة” العرقية أو الدينية ” التي تقابلها اقليه ثابتة ولا توجد أمكانيه لتحولها إلى اغلبيه، وبالتالي لا يوجد ضمان لعدم قهرها بواسطة الاغلبيه . تاسعا:اكتفاء الديموقراطيه السودانية بمعيار التمثيل وتجاهلها لمعيار المباشرة ، نتيجة لأخذها بالصيغة الليبرالية للديموقرطيه ، وهى صيغه للديمقراطية غير المباشرة (التمثيلية)، ظهرت في مرحله تاريخيه لاحقه للديموقراطيه المباشرة . عاشرا: شيوع موقفين من دور الجيش في الحياة السياسية في الفكر السياسي السوداني وهما: أولا: إلغاء اى دور للجيش في الحياة السياسية ،ويستند إلى المفهوم الليبرالي للديموقراطيه، اتساقا مع سلبية الدولة بالنسبة للممارسة الديمقراطية في هذا المفهوم . ثانيا: إطلاق دور الجيش إلى درجه إلغاء الديموقراطيه.حادي عشر: شيوع موقف- ليبرالي في جذوره الفكرية – يقوم على الخلط بين الديموقراطيه كنظام فني لضمان سلطه الشعب ضد استبداد الحكام،قد يكون صالح للتطبيق في كل المجتمعات، بشرط مراعاته لخصوصية كل مجتمع، والليبرالية كفلسفة ومنهج ومذهب نشا ضمن سياق تاريخي خاص بالمجتمعات الغربية.ويستند الموقف السابق إلى موقف يقوم على القبول المطلق لأركان الليبرالية كمذهب “اى :الراسماليه/العلمانية/ الديموقراطيه/الفردية).
ثم تتناول الدراسة ثانيا آليات ضمان استدامة الديموقراطيه السودانية وهى: أولا: مساهمة الجميع في حل مشكلة التخلف الديمقراطي، بتشجيع الممارسة الديمقراطية على أوسع نطاق، وان تكون وسائل ممارسة الديمقراطية إحدى الخدمات التي تقدمها الدولة . ثانيا:التمييز بين الدولة والنظام السياسي”الحكومة”:باعتبار أن الدولة ومؤسساتها ملك للشعب وليست ملك لنظام سياسي معين.والشعب باقي أما النظم السياسية فزائلة مهما تطاول استمرارها في الوجود. ثالثا:التحرر من الشكل الليبرالي للأحزاب وتحول الأحزاب إلى طلائع للتغيير لما فيه صالح الشعب ،وليس نخب معزولة، عنه تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب مصالح الشعب. رابعا: جاوز القبلية و الطائفية.خامسا: انجاز التغيير الفكري سلبا بمحاربة التفكير البدعى شبه الخرافي وشبه الأسطوري ، وإيجابا بإنتاج ونشر التفكير الاجتهادي والعلمي والعقلاني. سادسا: اضطلاع المثقفين السودانيين بدورهم التنويري النقدي، وعدم فرض وصايتهم على الشعب . سابعا: تجاوز موقفي الرفض أو القبول المطلقين لمفهوم الديموقراطيه، إلى موقف نقدي يقوم على التمييز بين دلالتي المفهوم ، فالإسلام لا يتناقض مع الدلالة العامة المشتركة لمفهوم الديمقراطية، اى ان يكون التنظيم القانوني للمجتمع متفقا مع ما يريده الناس فيه،وهو ما يتحقق من خلال الديموقراطيه كنظام فني لضمان سلطه الشعب ضد استبداد الحكام.أما الدلالة الخاصة المنفردة للمفهوم اى الديموقراطيه الليبرالية ، فيقوم الموقف الصحيح منها على اخذ وقبول ما لا يناقض أصول الدين وواقع المجتمعات المسلمة، ورد ورفض ما يناقضهما .ثامنا: الجمع بين معياري الاغلبيه والتوافق : وذلك بالتوافق على صيغه للحكم تجمع بين حكم الاغلبيه،وإقرار دور فاعل لكافه مكونات المجتمع : الاجتماعية “ومن ضمنها المراْه”، والدينية والعرقية ” ومن ضمنها الأقليات الدينية والعرقية”، والوظيفية “ومن ضمنها الجيش”… وحفظ حقوق هذه المكونات على المستوى الدستوري . تاسعا: الجمع بين معياري التمثيل و المباشرة : وذلك بالأخذ بالديموقراطيه المباشرة في الوحدات السياسية الصغيرة كمجالس الأحياء، والأخذ بالديموقراطيه غير المباشرة ” النيابية”في الوحدات السياسية الكبيرة “كالبرلمان ” . والأخذ بالتطبيقات السياسية المعاصرة للديموقراطيه المباشرة، التي يمكن تطبيقها في الوحدات السياسية الكبيرة ، ومنها :الاستفتاء والاستدعاء والمبادرة . عاشرا:التأكيد على دور وطني ديموقراطى للجيش في الحياة السياسية: وذلك خلال الجمع بين معياري الاغلبيه والتوافق (الديموقراطيه التوافقية) . حادي عشر:التمييز بين الديموقراطيه والليبرالية ، وهذا الموقف يقوم على التمييز بين الديموقراطيه والليبرالية ،والتحرر من الخلط بينهما ،وهو ما يتحقق نظريا باتخاذ موقف نقدي من أركان الليبرالية كمذهب(الراسماليه/العلمانية/الديموقراطيه /الفردية)، كما يتحقق عمليا من خلال تخليص الديمقراطية من الليبرالية كفلسفة ومنهج وأسلوب حياه شامل (رأسمالي، فردي، علماني..) ، وذلك بالديمقراطية ذاتها لا بإلغاء الديمقراطية..................................
ثانيا: المتن التفصيلى للدراسه:
مشكلة التخلف الديمقراطي: من أهم معوقات استمرارية الديموقراطيه السودانية مشكلة التخلف الديمقراطي التي تمثل البعد السياسي لمشكلة تخلف النمو الحضاري، وتتمثل في: ضعف التقاليد الديمقراطية ، بفعل الاستعمار وما صاحبه من تخلف ثقافي ومادي، إضافة إلى تطبيق المفهوم الليبرالي القائم على سلبية الدولة بالنسبة للممارسة الديمقراطية، وكان حصيلة هذا فشل تطبيق الديمقراطية، ومن أثار هذا الفشل جاءت ظاهرة الانقلابات العسكرية ،التي تكاد تكون المرحلة التالية لمرحلة التحرر من الاستعمار على مستوى العالم الثالث كله، فضلا عن الانظمه الاستبدادية المتتالية، كل هذا أدى إلى شيوع العديد من المظاهر السلوكية والفكرية السياسية السلبية منها:
السلبية السياسية : مظاهرها العزلة عن السلطة، والشك فيها والسلبية إزاء ما تدعو إليه.
الإشاعات: التي هي محاولة لتبادل العلم بالواقع ومشكلاته، في ظل نظام يحاول الحيلولة دون هذه المعرفة، ويساعد على دعمها شيوع أنماط التفكير الخرافي القائم على قبول الأفكار دون التحقق من صدقها أو كذبها بأدلة تجريبية.
النفاق”السياسي” :الذي يعوق تطور المجتمع ، بما هو تزييف الواقع الاجتماعي ومشكلاته بالكذب في الإخبار عن المعرفة بهذه المشاكل، وتزوير الحلول الممكنة لهذه المشاكل بالكذب في الإخبار عن الآراء التي تتضمن حلول هذه المشاكل، وإرباك العمل الاجتماعي بالكذب في الأخبار عن المقدرة على العمل.
شيوع ظاهره المراهقة السياسية : هى ظاهره تتصل بالنشاط السياسي “العام”، لبعض الشخصيات السياسية، سواء كانت شخصيه طبيعيه (كالسياسيين والناشطين في المجال السياسي العام)، أو شخصيه اعتباريه (كالمؤسسات السياسية “الأحزاب والتنظيمات السياسية”….)، حيث يأخذ هذا النشاط فيها شكل بعض الخصائص السلبية ، التي تصاحب المراهقة كمرحلة تنقل شخصيه الفرد من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرشد والبلوغ. وهذه الظاهرة يلزم منها – موضوعيا وبصرف النظر عن النوايا الذاتية – تعطيل الاراده الشعبية ، وإجهاض مظاهرها من ثورات شعبيه ونظم ديمقراطيه ناشئه،ولا تخدم – ويصرف النظر عن الشعارات المرفوعة- إلا القوى”الداخلية أو الخارجية” التي تسعى إلى تعطيل آو حتى إلغاء هذه الاراده الشعبية حيث تقوم هذه القوى بتوظيفها بالتحكم بها – بصوره مباشره أو غير مباشره – من خلال إدراكها أن هذه الظاهرة تحيل النشاط السياسي إلى سلسله متعاقبة من ردود الأفعال الذاتية – العاطفية، بدلا من أن يكون مجموعه من الأفعال الموضوعية – العقلانية. ومن الامثله على توظيف ظاهره المراهقة السياسية ، بالتحكم بها وتوجيهها نحو إحداث فوضى أو عنف، بهدف تفكيك الدولة أو لتبرير فرض نظام استبدادي أو استخدام القوه.
عدم التمييز بين الدولة والنظام السياسي”الحكومة”: ومن معوقات استمرارية الديموقراطيه السودانية – والتي تعتبر أيضا من أهم إشكاليات الفكر السياسي السوداني – الخلط بين الدولة بما هي مجموعة السلطة “الحكومة” والأرض ” الوطن” والشعب على مر الأزمان، والنظام بما هو السلطة “الحكومة” في زمان ومكان معين، وهذا الخلط يتجلى في عدة ظواهر سلبيه أهمها: شيوع معيار الولاء بدلا من الكفاءة لدى النظم السياسية المختلفة بدرجات متفاوتة ، وعدم تمييز قطاعات من المعارضة بين استهداف الحكومة واستهداف مؤسسات الدولة.
مشكله الأحزاب ذات الشكل الليبرالي - الراسمالى": ومن معوقات استمرارية الديموقراطيه السودانية أن الواقع السياسي السوداني لم يعرف – في الغالب الأعم- سوى الأحزاب ذات الشكل الليبرالي، التي هي المعادل السياسي للنظام الرأسمالي، القائم على المنافسة الحرة من اجل الربح.
الانغلاق”الطائفي والقبلي”: ومن معوقات استمرارية الديموقراطيه السودانية أن علاقة الأحزاب السودانية – في الغالب الأعم- بالواقع الاجتماعي، إنها انعكاس لواقع تخلف النمو الوطني والقومي، وبالتالي يمكن وصفها بأنها تعبيرا سياسي عن الانغلاق القبلي والطائفي.
ا/ الطائفية: علاقة الطائفية بالديموقراطيه هي علاقة ذات حدين ،فمن ناحية فان تحرير الناس من الطائفية هو شرط للديموقراطيه، لأنها احد أشكال التبعية الاجتماعية، التي تمكن مجموعه من الأفراد” زعماء الطائفة” من فرض إرادتهم على غيرهم ،وإكراه الناس ” أكراها معنويا” على أن يحبسوا آراءهم .ومن ناحية أخرى فان الديموقراطيه هي احد أساليب تجاوز الطائفية .
ب/القبلية: القبلية طبقا لمعناها السلبي هي محاوله – فاشلة – للعودة إلى الطور القبلي كطور تكوين اجتماعي تجاوزه التطور الاجتماعي،وهى تتعارض- طبقا لهذا المعنى السلبي – مع الديموقراطيه من عدده أوجه ومنها: أولا : أنها تفرز نمط تفكير وسلوك جماعي، يتطرف في التأكيد على وجود الجماعة “القبيلة” إلى درجه إلغاء الوجود الفردي، وبالتالي إلغاء حرية الاراده والوعي الفرديين ، ثانيا: أنها تقترن بالعنصرية التي هي التقاء على إحدى المميزات الموروثة عن الطور القبلي، وهى: وحدة الجنس، وهى نفض للمساواة كقيمه لازمه لتحقيق الديموقراطيه.
محاوله الانتقال إلى التغيير السياسي دون أكمال إنجاز التغيير الفكري: ومن معوقات استمرارية الديموقراطيه السودانية ، أن السياسة السودانية ظلت تحاول دائماً الانتقال التغيير السياسي”الثورات السياسية المتعاقبة” ، دون أن تكمل إنجاز التغيير الفكري” الثورة الفكرية” ، بينما مرحله التغيير الفكري سابقه على مرحله التغيير السياسي.
المظاهر السلبية للمثقفين السودانيين وتأثيرها السلبي على الديموقراطيه: ومن معوقات استمرارية الديموقراطيه السودانية العديد من المظاهر الفكرية والسلوكية السلبية ، التي تسود بين المثقفين والمتعلمين السودانيين- فهي توجد في مجموعهم إن لم توجد في جميعهم – هذه المظاهر السلبية هي إفراز امتداد الحياة في ظل تخلف النمو الحضاري للمجتمع السوداني، نتيجة لعوامل داخليه (كالتقليد، الجمود،الاستبداد) وخارجية(كالاستعمار،التبعية…) متفاعلة ، و في ذات الوقت فإنها احد أسباب استمرارها لأنها تفتك بمقدرة المثقفين، الذين هم قادة حركة التطور الاجتماعي في كل المجتمعات، ومن أهم هذه المظاهر السلبية :
الفرديةh)لانانيه) : من أهم هذه المظاهر الفردية ،ومرجع هذه النزعة الفردية (التي يعبر عنها عامه الناس بمصطلح الانانيه) عند بعض المثقفين أنهم قادة حركة التطور في كل المجتمعات، وإذا كانوا في المجتمعات المتقدمة كثرة تفيض عن الحاجة. فإنهم في المجتمعات النامية كالسودان قوة نادرة؛ ذلك لأنهم أكثر معرفة وعلماً ومقدرة على العمل من الكتلة السائدة. فلا تستطيع مجتمعاتهم أن تستغني عنهم، وبينهم وبين سواد الشعب ثغرة فاصلة.يمكن أن يضاف إلى هذا أسباب عدة، منها أن برامج التربية والتعليم والثقافة والإعلام في المجتمعات النامية كانت لفترة طويلة من وضع القوى الاستعمارية لخدمة غاياتها، ومن غاياتها إضعاف العلاقة الاجتماعية التي تربط الناس بمجتمعاتهم في مصير واحد ، حتى لا تعود هذه الروابط إلى وعى الناس التزامهم بتحرير مجتمعاتهم. ومنها ميراث الممارسة الليبرالية ذلك المذهب الفردي الذي يتجاوز تمجيد الإنسان إلى إطلاق الفرد من التزاماته المترتبة علي انتمائه إلى مجتمعه؛ فيتحول المجتمع إلى ساحة صراع فردي لا إنساني؛ وتكون الفردية فيه قيمة لا يخجل منها صاحبها، بل يفخر بها، بقدر ما يكون لها من ضحايا من أفراد آخرين.
الانعزال عن الجماهير أو الاستعلاء عليها :غير أن هذه الفردية قد تأخذ شكل العزلة عن الجماهير أو شكلاً الاستعلاء عليها، والتشبث بالقيادة، والتوقف أو الانعزال، أو التمرد على العمل الجماعي ما لم يخضع الناس لإرادته.
البيروقراطية: من أشكال الاستعلاء على الجماهير البيروقراطية؛ فالبيروقراطيون هم قطاع من المتعلمين، يشكلون جزءاً من موظفي الدولة، يُفرطون في توفير الشرعية الشكلية للقوانين واللوائح (عدم تناقضها مع قواعد الدستور، أو القانون) مع إهمالهم لمضمونها ( كأدوات وُضِعت لتنظيم حياة الناس وحل مشاكلهم)، كما تستخدم فئة منهم السلطة الممنوحة له لتعويض سنوات الفقر بالاختلاس أو تعويض سنوات الذل بالاستبداد بالناس. ولا يمكن مقاومه البيروقراطية إلا بمنح الشعب حق الشكوى ،لا بمنح الموظفين الحضانة ضد الشكوى.
تجاوز المثقف لدوره التنويري وفرضه وصايته على الشعب : ومن هذه المظاهر السلبية عدم معرفه كثير من المثقفين السودانيين لحدود دورهم الاجتماعي (المعرفي التنويري) ، مما يؤدى في كثير من الأحيان لتجاوزهم لهذا الدور.ومن أشكال هذا التجاوز محاوله كثير من المثقفين السودانيين فرض وصايتهم على الشعب السوداني .
الدوران في الحلقة المفرغة “التغريب والتقليد:” من هذه المظاهر السلبية أن المثقف السوداني في محاولته الاجابه على السؤال المتعلق بكيفية تحقيق التقدم الحضاري للمجتمع السوداني ظل يدور في حلقه مفرعه مضمونها إما القول بإلغاء القيم الحضارية للشخصية السودانية واستبدالها بقيم جديدة(التغريب)؛ متناسيا أن أن محاولة اجتثاث أي شخصية من جذورها محاولة فاشلة لن تؤدى إلا إلى حطام شخصية. أو القول بالإبقاء علي الشخصية السودانية كما هي كائنة (التقليد)؛ متناسيا أن هذا يعنى الإبقاء على المظاهر الفكرية والسلوكية السلبية التي افرزها التخلف الحضاري. ولم يفلح المثقف السوداني فى الوصول إلى اجابه جدليه مضمونها إلغاء المظاهر السلبية للشخصية السودانية بإلغاء سببها (تخلف النمو الحضاري)،وفى ذات الوقت إبقاء القيم الحضارية للشخصية السودانية لتسهم سلبا في بناء شخصيه مطهره من هذه المظاهر السلبية، وإيجابا في إنتاج مظاهر ايجابيه جديدة..
التقاء تياري التقليد والتغريب في تكريس الفهم الخاطئ للدين: ومن أسباب استمرار هذا الجهل بالدين و الفهم الخاطئ له ،أن التيار التغريبي يرى أن التقدم لا يمكن أن يتم إلا بإلغاء الدين أو تهميشه،وهو بهذا يكرس للجهل بالدين وسط المثقفين الذين من المفترض أن يكونوا طليعة المجتمع في تثقيفه، وتوعيته بالإسلام وقيمه الحضارية الإنسانية، ومحاربه الفهم الخاطئ للدين الذي يساهم في الإبقاء على واقع التخلف الحضاري، وتقديم فهم صحيح له. بالاضافه إلى أن التيار التقليدي يخلط بين الدين الصحيح وقيمه الانسانيه والحضارية والمظاهر السلبية التي افرزها واقع تخلف النمو الحضاري للمجتمعات المسلمة. وأخيرا نلاحظ ان من احد أسباب الدوران في هذه الحلقة المفرغة (التغريب والتقليد) أن من خصائص التفكير الاسطورى القبول المطلق لفكره ما والرفض المطلق لنقيضها ، وهو ما يتحقق هنا في الموقف من قيم المجتمع الحضارية، اى القبول المطلق لقيم المجتمع الحضارية (التقليد) أو الرفض المطلق لها(التغريب(.
النخبوية بدلا من الطليعية: ومن هذه المظاهر السلبية اتصاف المثقفين السودانيين بالنخبوية بدلا من اتصافهم بالطليعية، اى إنه بدلاً من أن يكون المثقفين السودانيين طلائع التغيير الفكري للمجتمع السوداني بتبنيهم لنمط تفكير اجتهادى /علمي /عقلاني ، فإنهم أصبحوا انعكاسا لواقع تخلف النمو الحضاري، بتبنيهم لنمط تفكير بدعى شبه خرافى شبه اسطورى – شانهم شان باقي فئات المجتمع – مع رغبتهم فى التميز الوظيفي والاقتصادي والاجتماعي… عن هذه الفئات.
علاقة المثقف بالسلطة وضمور الدور النقدي:ومن المظاهر السلبية للمثقفين السودانيين ضمور دورهم النقدي، الذي يمثل جوهر دور المثقف في المجتمع .ودورانهم في حلقه مفرغه مضمونها القبول المطلق في حاله كونهم جزء من السلطة ، و الرفض المطلق في حاله كونهم خارج السلطة.
موقفي الرفض المطلق أو القبول المطلق للديموقراطيه: ومن معوقات استمرارية الديموقراطيه السودانية شيوع موقفي الرفض المطلق أو القبول المطلق في الفكر السياسي السوداني ، نتيجة لأسباب متعددة أهمها خضوعه لقاعدة الحصر الثنائي ” بين الفكرة ونقيضها “
أولا: موقف الرفض المطلق (التقليد): ويقوم على الرفض المطلق لمفهوم ” الديموقراطيه” ، اى رفض كل دلالاته ، وينطلق من موقف من التقدم الحضاري للمجتمعات المسلمة مضمونه أنه لا يمكن أن يتحقق إلا بالعودة إلى الماضي، والعزلة عن المجتمعات المعاصرة، وبمنظور علم أصول الفقه الوقوف عند أصول الدين وفروعه. وهو موقف يستند إلى العديد من الدعاوى، نعرض أدناه لبعضها ونقوم بالرد عليها.
دور الجيش في الحياة السياسية بين الإلغاء “الليبرالي ” ، والإطلاق “الاستبدادي” : ومن معوقات استمرارية الديموقراطيه السودانية، شيوع موقفين من دور الجيش في الحياة السياسية في الفكر السياسي السوداني وهما: أولا: إلغاء اى دور للجيش في الحياة السياسية ،ويستند إلى المفهوم الليبرالي للديموقراطيه، اتساقا مع سلبية الدولة بالنسبة للممارسة الديمقراطية في هذا المفهوم . ثانيا: إطلاق دور الجيش إلى درجه إلغاء الديموقراطيه.
الخلط بين الديموقراطيه والليبرالية : ومن معوقات استمرارية الديموقراطيه السودانية شيوع – ليبرالي في جذوره الفكرية – يقوم على الخلط بين الديموقراطيه كنظام فني لضمان سلطه الشعب ضد استبداد الحكام،قد يكون صالح للتطبيق في كل المجتمعات، بشرط مراعاته لخصوصية كل مجتمع، والليبرالية كفلسفة ومنهج ومذهب نشا ضمن سياق تاريخي خاص بالمجتمعات الغربية.
اتخاذ موقف القبول المطلق لأركان الليبرالية كمذهب(الراسماليه/العلمانية/ الديموقراطيه/الفردية): ويستند الموقف السابق إلى موقف يقوم على القبول المطلق لأركان الليبرالية كمذهب “اى :الراسماليه/العلمانية/ الديموقراطيه/الفردية(
ثانيا:آليات ضمان استدامة الديموقراطيه السودانية: أما آليات ضمان استدامة الديموقراطيه السودانية فتتمثل في الاتى:
حل مشكله التخلف الديموقراطى: مساهمة الجميع في حل مشكلة التخلف الديمقراطي، بتشجيع الممارسة الديمقراطية على أوسع نطاق. وان تكون وسائل ممارسة الديمقراطية إحدى الخدمات التي تقدمها الدولة (تشجيع العمل الاجتماعي ودعمه وتسهيل ممارسته..(.
التمييز بين الدولة والنظام السياسي”الحكومة”:باعتبار أن الدولة ومؤسساتها ملك للشعب وليست ملك لنظام سياسي معين.والشعب باقي أما النظم السياسية فزائلة مهما تطاول استمرارها في الوجود.
التحرر من الشكل الليبرالي للأحزاب :وتحول الأحزاب إلى طلائع للتغيير لما فيه صالح الشعب ،وليس نخب معزولة، عنه تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب مصالح الشعب.
تجاوز القبلية: هنا يجب أولا التمييز بين القبلية بمعناها الايجابي اى كعلاقة انتماء إلى القبيلة كوحدة تكوين اجتماعي،والقبلية بمعناها السلبي،اى محاوله العودة إلى الطورالقبلى كطور تكوين اجتماعي تجاوزه التطور الاجتماعي،وإذا كانت الاخيره قد نشأت نتيجة لتخلف النمو الاجتماعي والحضاري للمجتمعات المسلمة، كمحصله لعوامل متفاعلة، فان تجاوزها لا يمكن ان يتحقق إلا من خلال العمل على إلغاء هذا التخلف في النمو الاجتماعي و الحضاري ، بإلغاء العوامل التي أدت إلى حدوثه، بالاضافه إلى نشر الوعي الاجتماعي،مع ملاحظه ان الوعي اشمل من التعليم، فالتعليم هو شرط للوعي وليس هو الوعي.
تجاوز الطائفية: ليس المقصود بهذا التجاوز إلغاء الطائفة باعتبارها جزء من كل”وطني أو قومي أو ديني”، بل إلغاء اعتبار الطائفة كل قائم بذاته ، مستقل عن غيره ومتميز عنه ، وهو ما يتحقق يتحقق من خلال نشر الوعي الاجتماعي والديني
إكمال انجاز التغيير الفكري: انجاز التغيير الفكري سلبا بمحاربة التفكير البدعى شبه الخرافي وشبه الأسطوري ، وإيجابا بإنتاج ونشر التفكير الاجتهادي والعلمي والعقلاني. ويتضمن ذلك اضطلاع المثقفين السودانيين بدورهم التنويري النقدي، وعدم فرض وصايتهم على الشعب ، وذلك بالالتزام بالاتي:
أولا:التمييز ببين نوعين من أنواع المشاكل :
أولا : مشكلات التنمية : وهى المشكلات المتجددة التي يعانيها الشعب وهو يحاول أن ينتج من الامكانيات المتاحة ما يشبع به حاجاته المتجددة…ومصدر معرفتها هو الشعب نفسه
ثانيا: مشكلات التقدم : وهى التي تتعلق بالعقبات التي تحول بين الشعب وحل مشكلات النوع الأول من المشاكل ، و مصدر معرفتها هو الواقع الموضوعي والقوانين الموضوعية (السنن الالهيه) التي تضبط حركته…
ثانيا: الإقرار أن دور المثقفين هو تحديد الصيغة السليمة للعلاقة بين علاقات الانتماء المتعددة للشعب السوداني(الوطنية”السودانية”، القومية”العربية”،الدينية”الاسلاميه”،الجغرافيالقارية”الافريقيه”…) ، ولا يتجاوزه إلى إيجاد أو إلغاء هذه العلاقات.
تجاوز موقفي الرفض المطلق أو القبول المطلق للديموقراطيه إلى موقف نقدي منها: تجاوز موقفيالرفض أو القبول المطلقين لمفهوم الديموقراطيه، إلى موقف نقدي يقوم على التمييز بين دلالتي المفهوم ، فالإسلام لا يتناقض مع الدلالة العامة المشتركة لمفهوم الديمقراطية، اى ان يكون التنظيم القانوني للمجتمع متفقا مع ما يريده الناس فيه،وهو ما يتحقق من خلال الديموقراطيه كنظام فني لضمان سلطه الشعب ضد استبداد الحكام.أما الدلالة الخاصة المنفردة للمفهوم اى الديموقراطيه الليبرالية ، فيقوم الموقف الصحيح منها على اخذ وقبول ما لا يناقض أصول الدين وواقع المجتمعات المسلمة، ورد ورفض ما يناقضهما . هذا الموقف يقوم على قبول مفهوم الديموقراطيه بعد تقييده بالمفاهيم والقيم والقواعد الكلية للمنظور السياسي الاسلامى”كالشورى والعدل والمساواة….”،والتي هي بمثابة ضوابط موضوعيه مطلقه للتنظير والممارسة السياسية تحدهما كما يحد الكل الجزء ولكن لا تلغيهم ..
الجمع بين معياري الاغلبيه والتوافق : وذلك بالتوافق على صيغه للحكم تجمع بين حكم الاغلبيه،وإقرار دور فاعل لكافه مكونات المجتمع : الاجتماعية “ومن ضمنها المراْه”، والدينية والعرقية ” ومن ضمنها الأقليات الدينية والعرقية”، والوظيفية “ومن ضمنها الجيش”… وحفظ حقوق هذه المكونات على المستوى الدستوري
الجمع بين معياري التمثيل و المباشرة : وذلك بالأخذ بالديموقراطيه المباشرة في الوحدات السياسية الصغيرة كمجالس الأحياء، والأخذ بالديموقراطيه غير المباشرة ” النيابية”في الوحدات السياسية الكبيرة “كالبرلمان ” . والأخذ بالتطبيقات السياسية المعاصرة للديموقراطيه المباشرة، التي يمكن تطبيقها في الوحدات السياسية الكبيرة ، ومنها :أولا:الاستفتاء: تمكن الاستفتاءات المواطنين من رفض أي قانون أو تشريع غير مرغوب ، ثانيا: الاستدعاء: توفر الاستدعاءات إمكانية إقالة أي مسئول رسمي (حكومي) قبل انتهاء ولايته, حيث يعتبر المسئولون عملاء تنفيذيين، أو ممثلين مباشرين (مفوضين) ملتزمين بإرادة الشعب، ثالثا: المبادرة: تسمح المبادرات باقتراح مشاريع قوانين تقدمها الجماهير .
دور وطني ديموقراطى للجيش في الحياة السياسية: وذلك خلال الجمع بين معياري الاغلبيه والتوافق (الديموقراطيه التوافقية)، وذلك بالتوافق على صيغه للحكم تجمع بين حكم الاغلبيه،وإقرار دور فاعل لكافه مكونات المجتمع : ومن ضمنها الجيش… وحفظ حقوق هذه المكونات على المستوى الدستوري
التمييز بين الديموقراطيه والليبرالية: . هذا الموقف يقوم على التمييز بين الديقراطيه والليبرالية ،والتحرر من الخلط بينهما ،وهو ما بتحقق عمليا من خلال تخليص الديمقراطية من الليبرالية كفلسفة ومنهج وأسلوب حياه شامل (رأسمالي، فردي، علماني..) وذلك بالديمقراطية ذاتها لا بإلغاء الديمقراطية. مع وجوب ملاحظة أن الديمقراطية كنظام غير مقصورة على نموذج واحد، ومع وجوب مراعاة الظروف الخاصة بكل مجتمع.
الديموقراطيه وشرط الاتساق مع الواقع الحضاري : وهنا يجب ملاحظه أن كون الديموقراطيه هي أسلوب حل المشاكل الاجتماعية لا يعنى هذه أن المشكلات ستحل تلقائيا بمجرد الالتزام بالديموقراطيه – كما يلزم من المفهوم الليبرالي للديموقراطيه-. إنما يعني فقط أنها أصبحت قابلة للحل. أما حلها فعلا فيتوقف على مدى كفاءة الناس في كل مجتمع على حدة: التقدم الثقافي والتقدم العلمي والتقدم الفني. وتلك عناصر تتحدد تبعا للواقع الحضاري في كل مجتمع في كل مرحلة تاريخية معينة.. ومن هنا تدخل الثقافة والعلم والفن (التكنيك) عناصر لازمة لإمكان التطور في ظل الديمقراطية، وفي ظلها فقط. اى أن كل تلك العناصر الحضارية لا تجد فرصة إثمارها الاجتماعي إلا في ظل الديمقراطية.
*******************************
للاطلاع على مقالات أخرى للدكتور صبري محمد خليل يمكن زيارة العنوان التالي:
الموقع الرسمي للدكتور/ صبري محمد خليل خيري | دراسات ومقالات https://drsabrikhalil.wordpress.com
//////////////////////////

 

آراء