التحول الديمقراطي في السودان وجراءة الامام الصادق المهدي على العقد الاجتماعي

 


 

طاهر عمر
9 September, 2021

 

ظرف السودان في الوقت الراهن يحتاج لمهارة عالية كمهارة الأركولوجيين في ترميم الخزف في مواقع الأثار و قد مرت عليها آلاف السنين كذلك مسألة التحول الديمقراطي في السودان يحتاج لمفكريين بمهارة الآثاريين في تعقب أثر الحقب و كيفية كشف أثر الحياة و تفسير منظمومة القيم التي سادت في تلك الحقب السحيقة مثلا ما نحتاجه اليوم في السودان هو ترسيخ مفهوم و فكرة الدولة الحديثة و عندما نتحدث عن الدولة الحديثة في ظرف السودان الراهن يجب أن نرصد آخر خطوات فكرة الدولة الوطنية و هي في حالة انكماش لتفسح المجال لفكرة الدولة الحقوق و بالتالي قد أصبح بيننا و بين الدولة الارادة الألهية عتبة فاصلة و نكاد لم نحقق فيها ما أنجزته الشعوب الحية و خاصة فيما يتعلق بمعادلة الحرية و العدالة و أقصد أن السودان و بسبب تأخر النخب لفهم تحول المفاهيم قد طوى زمن طويل منذ الاستقلال دون أن يسجل أي تطور فيما يتعلق بالفكر و كيفية تحول المفاهيم و ما زالت النخب السودانية منطوية تحت فكرة الدولة الالهية و الشاهد على ذلك حال أحزابنا و هي تزين فكرة الأصنام الذهنية المتمثلة في فكرة الامام و مولانا و الاستاذ.
و في ظل مفهوم الدولة الحديثة قد أصبحت معادلة الحرية و العدالة هي التي تنعش روح المجتمعات و تفسر ديناميكيتها في ظواهرها الاجتماعية و هنا يكمن المأزق الذي ينحبس فيه كثير من المفكريين في السودان و سببه بأنهم غابت عن أفقهم روح المبادرة وانساقوا خلف أفكار عالم عربي اسلامي ارتضينا أن نكون تخومه. و الغريب أن أزمة الفكر في العالم العربي و الاسلامي أزمة ناتجة عن عجز النخب لتحديد خطواتها لتساير فكر غربي يتخطى أزماته بجراءة و عجز مفكري العالم العربي و الاسلامي في مجاراته مثلا يكاد يتفق كل المفكريين على فكرة الديمقراطية كقيمة كونية و لكن يتوسلونها بأحزاب لم تتجاوز أفكارها فكر وحل الفكر الديني و حكم السلالات في وقت بمجرد الحديث عن قيمة الديمقراطية يعني بأننا وفقا للنشؤ و الارتقاء علينا تجاوز العرق و الدين و بالتالي لا يمكن أن نرضى بحزب يقوده امام و تصل جراءته أن يتحدث عن عقد اجتماعي كما تحدث الامام الصادق المهدي عن عقده الاجتماعي قبل وفاته رحمه الله فاي عقد اجتماعي يتحدث عنه رجل دين كالامام الصادق المهدي؟ و الغريب حيلة الصادق المهدي مرت مرور أفكار الكرام في مجتمعنا السوداني التقليدي بل أصبحت مثل صينية الحركة لأتباعه يلفون حولها و يباهون بطرحه ورطتهم في فكرهم الطائفي المجافي للديمقراطية كقيمة لا يمكننا بلوغ نصابها إلا بابعاد أحزاب وحل الفكر الديني.
و هنا يمكننا أن نتسأل لماذا تجرأ الصادق المهدي كرجل دين أن يتحدث عن العقد الاجتماعي؟ و الاجابة لأنه كان متأكد بأنه لا معترض من وسط النخب و المفكرين في السودان على مسألة أن السرديات الكبرى كلها و لتحقق قيمة الديمقراطية قد أبعدت الدين و فصلته عن الدولة و أن للعقد الاجتماعي فلاسفته و منهم في المقدمة الفيلسوف البريطاني جون لوك الأب الشرعي للفكر الليبرالي بشقيه السياسي و الاقتصادي و هو يقول في رسالة في التسامح بأنك لا يمكنك أن تتحدث عن التسامح و انت تعتقد في خطاب ديني كحالة الصادق المهدي و لكن في ظل نخب سودانية كسدت ساحة فكرها يمكن ان يناورها الصادق المهدي بفكرة أن الديمقراطية الغربية قد نتجت في ظروف و بيئة غير بيئة المجتمعات الاسلامية و هذا ما يردده النور حمد اليوم في أن الليبرالية نتاج بيئة تختلف عن بيئتنا السودانية.
و الدكتور النور حمد و الامام الصادق المهدي يمكن الرد عليهم بفكر أصحاب العقد الاجتماعي و كما ذكرت من بينهم جون لوك ندعمه بانثروبولوجيا عمانويل كانط و قدرته في فك الميتا عن الفيزيقيا و في ظلها يصبح الايمان ممارسة فردية و بالتالي لا حيلة بغير فصل الدين عن الدولة و حينها يفترض عمانويل كانط بأن الانسان بغض النظر عن دينه و لونه و عرقه يمكنك أن تلاحظ أخلاقيته و عقلانيته و بالتالي أن المجتمعات تنبني على الأخلاق و ليس على الأديان و كذلك يمكننا أن نتحدث عن علم اجتماع منتسكيو و هو أيضا يعتقد في أحلاقية الانسان و عقلانيته و بأن مسألة المعتقد بالنسبة له سلوك فردي و ليس كما يرى الامام الصادق المهدي بأنه سلوك جماعي و يريدها مهدية و أن يكون هومهدي هذا الزمان و لا معترض من المفكريين السودانيين على اصرار الصادق المهدي على محاوراته و مداوراته التي قد كرست لتأبيد الفكر الديني في السودان بل و منذ منتصف ستينيات القرن المنصرم نجد مسيرة الفكر في السودان انساقت باتجاه اصرار الامام و مولانا و قد جذبت الاستاذ و هو عبد الخالق محجوب بأن يهادن في مسألة أن يكون للدين دور فاعل و نجد في الثمانينيات محمد ابراهيم نقد قد سار على درب استاذه عبد الخالق في حوار الدولة المدنية و قد أوصلته الى فكرة علمانية محابية للأديان.
و عليه علينا أن ننتبه بان فكر الامام و مولانا و الاستاذ و أقصد عبد الخالق محجوب حيل لا تريد أن تجابه مسألة تحول المفاهيم مثلا عندما كان عبد الخالق محجوب مهتم بدراسة دور الدين و يحاول وضع حجر الاساس للتلفيق و التوفيق الكاذب لكي يكتمل الترقيع الفكري الذي سار على دربه محمد ابراهيم نقد و سار على دربه كمال الجزولي في خدعة لقاء نيروبي و سار على دربه الشفيع خضر في مساومته التاريخية و كذلك مهادنة الحاج وراق للطائفية و الشيوعية السودانية كلها أفكار من انتجهم اليسار السوداني الرث و السبب لأنهم لا يريدون أن يتحدثون عن الليبرالية الحديثة و كيف أصبحت أحزاب الشيوعية في الغرب المتقدم مؤمنة بنمط الانتاج الرأسمالي عرفت لماذا يصر حتى اللحظة الحزب الشيوعي السوداني على اسقاط حكومة الثورة؟ لانهم لم يتطوروا منذ ذاك الزمن البعيد و لم يعيدوا اكتشاف غرامشي و مفهوم المثقف العضوي الذي يقف بجانب الطبقات الصاعدة التي تنشد الديمقراطية نتاج مفهوم الليبرالية الحديثة و نجد أن جون راولز كان آخر من طور في فكر نظرية العدالة و حجاب الجهالة و لا سبيل لتحقيقها بغير الليبرالية الحديثة.
ما يهمنا سوداننا الحبيب و شعبه الذي يستحق بأن يعيش بحرية و هي قيمة القيم بعيدا عن أفكار وحل الفكر الديني و الأيدولوجيات المتحجرة و عليه يجب أن نراقب كيف تحولت المفاهيم في المجتمعات الحية و كيف نقفز على الحواجز التي ينصبها لنا مفكريين يشهد على فكرهم كساده بأننا يمكننا أن نستفيد من تجارب الانسانية كميراث انساني و بالمناسبة الشعب السوداني من الشعوب القديمة التي قد قدمت منذ فجر الحياة الكثير من المفاهيم للانسانية و يمكننا اليوم الاستلاف من تراث الانسانية مقابل ما اعطاه السودان للانسانية منذ فجر حضاراته القديمة.
لذلك كل من يقول بأن الديمقراطية التي نريدها يجب ان تكون ذات اتصال بقيمنا كما يقول الصادق المهدي و النور حمد فأنه كلام من لم يلاحظ تغير المفاهيم و نحن لا نريد كلام نريد فكر يواكب فكر العالم و يفهم بأن تاريخ الغرب الذي قدم الديمقراطية كقيمة قد أصبحت كونية قد اختصر تاريخ البشرية و علينا ان نعمل لتحقيق التحول الديمقراطي باجبار اتباع وحل الفكر الديني على الفهم بأن الديمقراطية كقيمة لا يمكن تحقيقها بأفكار وحل الفكر الديني و لا عبر نسخة شيوعية سودانية لا تفتح الا على نظام شمولي و بالمناسبة ما يمارسه الحزب الشيوعي السوداني من اصرار على اسقاط حكومة الثورة ما لم يجابه بفكر يوضح كيفية تحول المفاهيم سوف يقفل الطريق أمام فرصة أن يعود السودان بمفهوم الدولة الحديثة التي تقود مسألة التحول الاجتماعي و التحول الديمقراطي و هذا ما تحاوله حكومة حمدوك.
و ما يحاوله حمدوك بحكومة الثورة في ظرف يمر فيه العالم بتحول هائل و هو انتهاء حقبة النيوليبرالية و التوجه الى اتجاه فكرة الحماية الاقتصادية و خاصة أن سوداننا تخوم لمنطقة عربية اسلامية متعودة على تفويت الفرص التي تقود الى التحول الديمقراطي و هي منطقة لم تغادر مكانها منذ أكثر من قرن و السبب عدم قدرة المفكريين على مراقبة تحول المفاهيم و نضرب عليها مثلا في عام 1929 زمن الكساد الاقتصادي العظيم نجد أثره في المجتمعات الحية و قد فكرت في كيفية الخروج من أزمة العلوم الأوروبية و كانت النتيجة ظهور مدرسة الحوليات الفرنسية و دراساتها للتاريخ الاجتماعي و التاريخ الاقتصادي و وصلت الى رأي بأن ماركسية ماركس ليست على موعد مع التاريخ و أن ماركس منذ ذلك الزمن البعيد لم يعد الأفق الذي لا يمكن تجاوزه بل قد أصبح مؤرخ أثرى الفلسفة و قد وصلت به الى منتهاها أي المثالية الالمانية و قد أصبح أشهر وجه لأفشل أقتصادي.
هذا هو البعد الغائب في أفق أصحاب الايدولوجية المتحجرة في السودان و عكس ما وصلت اليه مدرسة الحوليات. نجد في نفس زمن الكساد الاقتصادي العظيم ظهرت جماعة الأخوان المسلمين و قد أفسدت على العالم العربي و الاسلامي فرصة بداية صحيحة مع العالم الخارج من أزمة العلوم الأوروبية. و كذلك يكمننا ان نعزز ذلك بمثل آخر و هو بعد انتهاء ديناميكية الكينزية و ظهور خيوط النيوليبرالية فوت العالم العربي و الاسلامي و السودان كتخوم له البداية الصحيحة مع ظهور فكر النيوليبرالية و بدلا عن التفكير في الاقتصاد كجناح لليبرالية السياسية نجد حينها قد ظهر فكر الصحوة الاسلامية و قد فوتت على العالم العربي و الاسلامي أربعة عقود من مراقبة فكرة تحول المفاهيم و لم تنتج غير داعش و طالبان و غيرها من الثمار المرة لوحل الفكر الديني الذي قد غطى كل مساحات العالم العربي و الاسلامي.
الآن و هو المهم جدا و هي لحظة مفصلية أيضا ها هو العالم يغادر فكر النيوليبرالية و يتجه باتجاه الحماية الاقتصادية و ان النيوليبرالية قد وصلت الى منتهاها و لكن العالم يتجه الى عقلانية الليبرالية في نظرياتها الاقتصادية و تاريخ الفكر الاقتصادي و يتجه من جديد الى فكرة تدخل الدولة كما قدمها كينز كحلول للكساد العظيم و هي فكرة تدخل الدولة التي تقود فكرة التحول الاجتماعي و التحول الديمقراطي وفق معادلة الحرية و العدالة و على النخب السودانية التي ما زالت تتحدث عن النيوليبرالية و العولمة أن تدرك بأن العالم يتجه الى مرحلة الحماية الاقتصادية و للأسف السودان قد صادف هذه الحقبة و هو في طور العودة الى حضن المجتمع الدولي و هو في أضعف بنية و عليه على النخب أن تكف عن أوهامها في مسالة نهاية التاريخ و نهاية انتهاء الصراع الطبقي و أن فرصة السودان تكمن في عدم تفويت الفرصة للدخول و البداية الصحيحة مع العالم الذي غادر محطة النيوليبرالية و لا يكون ذلك الا عبر الفكر الليبرالي بشقيه السياسي و الاقتصادي و هذا ما يقوم به حمدوك وسط هرج من أتباع أحزاب وحل الفكر الديني و أتباع الايدولوجية المتحجرة و من يفرحون بوصفهم أصدقاء الحزب.
نحن في زمن الفرد و العقل و الحرية و عليه على النخب مساعدة حكومة الثورة بفهم جديد و خاصة أن العالم اليوم يغادر مرحلة النيوليبرالية و يتجه الى مرحلة الحماية الاقتصادية و للأسف تصادفت هذه الفرصة مع عودة السودان بالدولة لحضن المجتمع الدولي و عودة الدولة للسودان و هي تقود التحول الاجتماعي و التحول الديمقراطي و السودان في أضعف بنية و على حمدوك أن يسارع الى تحديد ملامح الدولة الحديثة و أن يسارع في وضع يد الدولة عبر وزارة المالية على أموال الشعب التي يسيطر عليها الجيش و عليه تحديد دور البنك المركزي و تحجيم دور البنوك السودانية التي ما زالت تساعد الفلول في السيطرة على اقتصاد الشعب حمدوك هو المسؤول الاول عن غياب ملامح عودة الدولة الحديثة و لا يكون ذلك الا بتسريع تفكيك التمكين و الاهتمام بالتشريع الذي يواكب روح ثورة ديسمبر بدلا من تفسير قوانيين ما تركته الانقاذ كما يفعل القانونيين السودانيين و هم أضعف حلقة في حلقات ثورة ديسمبر و الغريب ان القانونيين السودانيين يفتخرون بلقب مولانا فلان الفلاني و هو لقب يتشاركون فيه مع الكيزان لاحظ خيبة القانونيين السودانين كأضعف حلقة في حلقات ثورة ديسمبر و ما زالوا يفخرون بلقب مولانا لقبهم المشترك بينهم و الكيزان. الثورات العظيمة كثورة ديسمبر تتبعها تشريعات تقنن تحول المفاهيم مثلا الثورة الفرنسية لحقها تشريع قنن لشعارها و خاصة فيما يتعلق بشعار الاخاء و بالمناسبة من قراءة ماركس المشهوة لشعار الثورة الفرنسية الخاطي فسر مسألة الأخاء و سياسة اليد الممدودة بمعنى الأخاء بفكرة يا عمال العالم اتحدوا و كانت قراءة مشوهة لشعار الثورة الفرنسية لماركس.

taheromer86@yahoo.com

 

آراء