التحول الديمقراطي من منطلق واقعي

 


 

 

عندما نبحث في التاريخ عن قضية التحول الديمقراطي في أوروبا نجد أنها كان مخاض رهيب شاركت فيه كل فصائل المجتمع ومن أهل الهم بالشأن العام ساسة وأصحاب أموال واكاديميين وعمال في تلك الحقب التاريخية وحينئذ علينا مراجعة التجارب بكل دقة لكي نستلهم منها الأنفع وذو الجدوى لنا ولبلدنا وفي البداية كان لازما أن نعرف الفرق ما بين ماهية الثورة ومال الحروب الأهلية وتهدف الثورة دائمًا إلى تغيير الوضع الراهن، وفي معظم الحالات، إلى قلب النظام السياسي القائم عن طريق استبدال الدستور الحالي والقضاء على النخبة الحاكمة, غالبًا ما تقاتل الثورات من أجل مثل عليا أو قيم وتنتج عنها نماذج اجتماعية وثقافية مختلفة عن ما كان الوضع عليه نحو التحول الديمقراطي ,ومفهوم التحول يتسم بالشمول بحيث لم يعد ينظر إلى إرساء نظام ديمقراطي في دول العالم الثالث باعتباره نتاجا لعمليات التحديث وإنما أضحى نتاجا لتدابير إستراتيجية واتفاقات بين مختلف النخب السياسية إلى جانب الخيار الواعي بين مجموعة من البدائل المؤسسية للأنظمة الفكرية و السياسية
ولابد من التمييز بين كل من عملية التحول الديمقراطي والليبرالية، فالأولى هي تلك التغييرات السياسية التي شهدها العالم الثالث خلال العقدين الأخيرين والتي مست إلى جانب توسيع نطاق الحقوق الفردية والجماعية، استهداف تحقيق إصلاحات سياسية تعكس قدرا أكثر اتساعا في الحريات ومن ثم محاسبة النخبة وصياغة آليات عملية صنع القرار في إطار مؤسسي ديمقراطي
أما الليبرالية تتضمن أهدافا متواضعة تتمثل في التخفيف من حدة القيود وتوسيع نطاق الحقوق الفردية والجماعية داخل النظام السلطوي والتي قد تساعد على تحفيز عملية التحول من منحي مؤسسي الرؤية
ونعود لنذكر أن النهج الديمقراطي هو اتخاذ التدابير المؤسساتية من أجل التوصل إلى القرارات السياسية التي يكتسب من خلالها الأفراد سلطة اتخاذ القرار عن طريق التنافس بالانتخاب و بإتباع النهج الذي رسمه مؤسسو نهج الدولة الحديثة فإن مدى نجاح أي ديمقراطية كنظام سياسي يتوقف على مدى اختيار أقوى صناع القرار الجماعي في انتخابات عادلة ونزيهة ودورية يتنافس المرشحون فيها ، وبهذا فإن الديمقراطية تشمل بعدي التنافس والمشاركة كما أنها تتضمن وجود الحريات المدنية والسياسية وبالمقابل، تنشأ الحروب الأهلية بشكل أساسي للمطالبة بالحقوق الفردية والجماعية التي لا تحترمها النخبة الحاكمة أو غيرها من مجموعات الأقليات ذات النفوذ قد تهدف الحروب الأهلية إلى تخريب النظام السياسي الحالي، ولكن هذا ليس هدفها الأساسي والوحيد بل الهدف الأسمى هو المشاركة في القرار السياسي والأطراف التي في الصراع هي معظم الثورات تعمل على تعبئة الجماهير ضد النخبة الحاكمة ضد قوات الأمن الحكومية وبعكس الحروب الأهلية بين الأقليات الدينية والإثنية والاجتماعية والثقافية، وقد ترى أو لا ترى تورط الحكومة كأحد أطراف النزاع ولا يمكن تصور نظام تسلطي تزدهر فيه الحريات الفردية، بل إن المجتمع عبارة عن سلسلة من المستويات القيادية تعمل تحت لواء الأقلية الحاكمة وأن مفاهيم القيادة، الطاعة والأمر، هي القيم العليا لهذه الأنظمة والحروب الأهلية والثورات هي مفاهيم واسعة تدور حول فكرة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية داخل البلد، والتي قد تنطوي على درجة معينة من العنف على الرغم من أن المفهومين قد يبدوا متشابهين، إلا أن هناك اختلافات أساسية لا يمكن التغاضي عنها
أضحى الآن مفهوم التحول الديمقراطي يتسم بالشمول بحيث لم يعد ينظر إلى إرساء نظام ديمقراطي فقط ,وفي دول العالم الثالث باعتباره نتاجا لعمليات التحديث وإنما أضحى نتاجا لتدابير إستراتيجية واتفاقات بين مختلف النخب السياسية إلى جانب الخيار الواعي بين مجموعة من البدائل المؤسسية للتغيير من خلال الأنظمة الانتخابية و الحزبية وكذلك من منحى اقتصادي نرى من أجل دمقرطة النظم السياسية في مناطق مختلفة من العالم، ويبدو أن هذه الحركة قد بلغت من السعة والعمق والمدى بما يوحي أنها غير قابلة للانقلاب والتراجع، وقد ترافقت هذه الحركة مع بروز وتطور معلم آخر يتمثل في الاندفاع الشديد نحو تحرير السوق وما يصحب ذلك من شعارات ذات طابع إيديولوجي تلح على تأكيد تفوق القطاع الخاص على القطاع العام بشكل مطلق وإعطاء شرعية للتفاوت الاجتماعي يرافق ذلك كله الإعلان عن معاداة مبدئية لتدخل الدولة في أي نشاط اقتصادي، ومن هكذا تطرح الليبرالية الجديدة نفسها وكأنها بديل واحد ووحيد صالح للتطبيق ، يتجاوز المناطق والحدود، دون أي استثناء أو تحفظ، داعية للانفتاح على كل شيء دون قيد أو شرط، لقد ارتبطت مفاهيم الديمقراطية والليبرالية الاقتصادية بإشكالية مهمة أخرى هي الخصخصة، حيث يلاحظ أن الخطاب الليبرالي الجديد روج ويروج لهذا المفهوم باعتباره ضرورة لابد منها لأي تقدم اقتصادي للبلدان التي يطبق فيها
قد يصعب كثيرا تحديد صيغة بعينها لتحقيق عملية التحول نحو الديمقراطية فمنا من يرى ويقترح الاقتداء بصيغة عالمية وهنالك من يركز على دور الفاعلين السياسيين إلى آخرين يرون بأن استقرار الديمقراطية نادرا ما يتحقق في دول العالم الثالث عبر وسائل إصلاحية أو حلول توفيقية دون الاختيار العقلاني للبدائل المؤسسية ولابد من تحديد الأسلوب والتوقيت والمسار المناسب لبدء عملية التحول وخلق الإجماع حوله
وعلى نفس الخط يرفض البعد الذي يخضع لمؤسسية استخدام العنف مع التأكيد بأن إرساء الديمقراطية عبر الثورة الجماهيرية التي تلجأ إلى اقتلاع النظام التسلطي من الصعوبة بمكان وعليه فإن الصيغة المناسبة للتحول يمكن أن تتم عبر اتفاقات ومساومات بين أطراف النخبة السياسية ذاتها تقود إلى صياغة عدد من القواعد الجديدة التي تضمن التعايش السياسي بين أهم الفاعلين السياسيين، وذلك من خلال موازنة بين كل من المعارضة والحكومة وعلى هذا تم صياغة خطة للتحول الديمقراطي يقوم على التدرج والاعتدال والحلول التوفيقية وضرورة الأخذ بعين الاعتبار عدم المساس بحقوق ملكية الفئات البرجوازية ومصالح المؤسسة العسكرية
لابد من تحديد شكل الحكم الذي يريدون عندما فكرنا في الانتقال من الحزب الواحد إلى التعددية، في الإسلاميون بالإضافة إلى افتقارهم إلى مشروع واضح المعالم، أخافوا جميع الأطراف المشاركة في العملية السياسية، فهم يتبنون الطرح الديمقراطي فقط للوصول إلى السلطة، في المقابل نجد ارتباك القوى العلمانية المعزولة شعبيا والتي تتبنى الطرح الديمقراطي لكنها ترفض الإسلاميين كشريك الحكم
إن الإسلاميين الذين نقصدهم في مقالنا هذا هم أولئك المتشبثين بالصورة النمطية للحياة الإسلامية كما عاشها السلف الصالح في دولة المدينة المنورة ، والذين يعتبرون أنفسهم طليعة تدافع عن الهوية الإسلامية ضد مشروع التغريب وبأساليب تميل إلى العنف والرفض الراديكالي ودون استيعاب الأوضاع الداخلية والتهديدات الخارجية في مطالبتهم بإقامة الدولة الإسلامية أنهم تعبير سياسي للإحباط الذي أصابنا من جراء فشل المشروع التنموي وإقامة الدولة الوطنية، والذين يمثلون كذلك حالة الخوف من دخول عصر الحداثة والتنمية، ويرفضون كثيرا من القيم النبيلة على افتراض أنها قيم يستخدمها الغرب بقيادة أمريكا وأوروبا لإخضاع السودان وفرض قضايا علينا بمعايير محددة كالديمقراطية وحقوق الإنسان، وحريات التعبير والاعتقاد والتعددية بكل أنواعها
ولقد سعت منظومات المصالحة الوطنية أن كانت من الكيانات السياسية أو المجتمع المدني إلى تكريس قيمة سياسية جديدة تنطلق من حاجتنا إلى الكثير من الوقت لكي يقتنعوا بأن عناصر الهوية الوطنية هي تجريم حمل السلاح ضد الدولة وإسقاط القبلية والإيمان بأن الوطن يسع الجميع والتي اتخذتها القوى الاجتماعية محورا لنضالها السياسي، لابد أن تتكامل لتشكل وحدة واحدة منسجمة، و أن ذلك شرطا ضروريا لا يمكن تجاوزه قبل ممارسة الديمقراطية، كما أننا في حاجة إلى جهيد فريد و طويل لكني نتعلم على التعايش السلمي، و العمل الجماعي و المبادرة الجماعية، قبل أن يصلوا إلى ذلك الطور الذي يؤدي فيه تناقض الأطروحات إلى نشوب الاقتتال, وفي هذا الصدد سعت السلطة إلى ترقية الائتلاف الحكومي إلى تحالف سياسي بدافع بناء جماعة وطنية، حيث رأت الأحزاب المشكلة لهذا التحالف أن بناء الديمقراطية تحتاج إلى أمن سياسي واستقرار كما أن مكاسب الوئام المدني و المصالحة الوطنية، والتطورات الاقتصادية والاجتماعية التي أصبحت ضرورة أمام تدهور الأوضاع على كل المستويات و الأصعدة وهذا يجعلنا في البداية أن نبحث عن مشتركات تجمع كل أهل السودان قبل قضية الانتقال الديمقراطي لأن الإيمان بالوحدة الوطنية هو المدخل لمشروع الانتقال الديمقراطي وبناء الدولة أعني دولة المؤسسات والقانون لكي ننجو من الفوضى المسلحة والانقسام .

zuhairosman9@gmail.com

 

آراء