التحية لإخوان مصر… وللديمقراطية
د. عبد الوهاب الأفندي
29 May, 2012
29 May, 2012
لا بد أن أعترف بأنني أكثرت، مثل آخرين كثر، من انتقاد حركة الإخوان المسلمين المصرية على خلفية ما رأيناه ممارسات سالبة وفهماً يقتضي شيئاً من التقويم. ومثل هذه الانتقادات تنبع من الحرص على الإسلام أولاً، وتبرئته من أي تشويه يقع باسمه، ثم الحرص على مصر وشعبها واستقرارها ودورها الإقليمي، ثم على الدور الريادي لحركة الإخوان وتراثها ومساهماتها في الإحياء الإسلامي والبناء الوطني. ولكن لا بد، في هذه اللحظة الحاسمة والفارقة، من أن نتوقف برهة لنرفع القبعة تحية لهذه الحركة التي قلبت كل التوقعات، وتغلبت على كل التحديات التي سعت لضربها وإقصائها خلال ثمانية عقود، لتثبت أنها عصية على كل محاولة تجاوز.
ذلك أن الانتخابات الأخيرة تحولت إلى صراع إرادات بين الإخوان ومؤسسات النظام القديم، وعلى رأسها المجلس العسكري، من أجل رسم مستقبل مصر. ورغم أن الانتخابات البرلمانية والرئاسية كانت نزيهة بشهادة الجميع، إلا أن رسم قواعد اللعبة وإجراءات الترشيح كانت خاضعة لكثير من المناورات، قصد منها تضييق خيارات الشعب. فقد وقعت مناورات شبه مكشوفة لإبعاد مرشح الإخوان خيرت الشاطر بذرائع مثيرة للجدل، في نفس الوقت الذي دفع فيه بنائب مبارك السابق عمر سليمان للترشيح بطريقة أظهرت انحياز أجهزة الدولة الفاضح له. بنفس الطريقة تم سحب ترشيخ سليمان مع استبعاد الشاطر لإدراك من وقفوا خلفه أن استمرار ترشيحه يستفز الشعب وقد يكون له أثر عكسي. واكتفى المناورون بإبقاء رجل النظام السابق أحمد شفيق في قائمة المرشحين، أيضاً بمناورة مكشوفة تشكك في العملية برمتها.
لم يكن من طرحوا ترشيح شفيق يتوقعون له فوزاً، لأنهم أعلم بأن فوز شفيق مستحيل أولاً كما أنه لو حدث بمعجزة قد يفجر ثورة أخرى تدمر ما بقي للمؤسسة العسكرية من رصيد، وتهدد بإلحاق قادتها بمبارك في قفصه. ولكن يبدو أن بعض اللاعبين من وراء ستار صدقوا "استطلاعات الرأي" التي كانوا من مؤلفيها، وهي استطلاعات تفتقد العلمية والمهنية حتى وإن صدقنا بجديتها، واعتبروا أن مرشحهم سيكون في ذيل القائمة مع مرشح الإخوان "الثانوي". وعلى هذا الأساس ستكون المنافسة النهائية بين عمرو موسى وعبدالمنعم أبو الفتوح. وعندها سيكون من السهل حشد الدعم لموسى بمختلف المبررات، وبالتالي تضمن استمرارية النظام في نسخة معدلة و "معتدلة" بما يرضي الكثيرين.
ولكن يبدو أن من رسم هذا السيناريو لم يحسب حسابات تقلبات الرأي العام المصري، كما لم يحسب ثباته. فمن جهة، كانت هناك عوامل كثيرة لم تكن محسوبة، مثل الإقبال المفاجئ على دعم المرشح الناصري حمدين صباحي، وهو دعم جاء بلا شك على حساب مرشحين آخرين، من أبرزهم عمرو موسى وأبو الفتوح. من جهة أخرى فإن المراقبين والمتآمرين من وراء ستار لم يعطوا حركة الإخوان المسلمين حقها، حيث أن الحركة أثبتت أولاً قدرة لافتة للانتباه على حسن التنظيم والدعاية لمرشحها، وثبات ولاء مؤيديها من أعضاء وأنصار ومتعاطفين. فالبالرغم من التحديات التي واجهتها الحركة، وليس أقلها شأناً وجود مرشح منافس من قيادييها السابقين، كان الانطباع بأنه يحظى بقبول شعبي أوسع بكثير من مرشحها. فقد كان من المنتظر أن يدفع هذا العامل بكثير من أنصار الحركة، بل حتى أعضائها، إلى دعم ذلك المرشح باعتباره الاستخدام الأفضل لأصواتهم، والضمان لأن يفوز مرشح إسلامي من أبناء الحركة. ولكن الحركة أثبتت خطأ منتقديها من داخله وخارجها حين حققت فوز مرشحها بالموقع الأول رغم كل هذه التحديات والعقبات، ومنها شراسة الإعلام المضاد، وفشلها في وضع مرشحها المفضل على القائمة، وتخوف كثيرين من ردود الفعل الداخلية والخارجية على فوز مرشحها.
بالمقابل فإن كثيراً من المراقبين لم يحسب حساب ثبات أصوات "الفلول" ومؤيدي النظام السابق. صحيح أن بعض من أيد المرشح أحمد شفيق لم يكونوا كلهم من مؤيدي النظام السابق الخلص، لأن هناك دلائل على أن بعض المتخوفين من التيار الإسلامي، مثل كثير من الأقباط وبعض مؤيدي الطرق الصوفية، إضافة إلى بعض المستفيدين اقتصادياً، دعموا شفيق. ولكن هذا لا ينفي أنه، وبالرغم من نجاح الثورة، فإن النظام السابق لم يكن بلا أنصار، خاصة في بعض المناطق الريفية. ولكل هذا لم يكن من الحكمة في شيء إهمال وجود هذا القطاع المؤيد للعهد السابق أو تناسي دوره وتأثيره.
مها يكن، فإن هذه المناورات جاءت بأثر عكسي على أصحابها، حيث أنهم لا بد يعضون أصابع الندم حالياً لحرصهم على إبقاء أحمد شفيق في قائمة المرشحين حفظاً لماء الوجه، لأن الوضع الذي خلقه هذا القرار جعل من المؤكد فوز مرشح الإخوان بالرئاسة الآن، وهو آخر نتيجة كان من يقف حول هذه المناورات يريدها. ولا أستبعد أن نرى مناورة أخرى تعلن بموجبها المحكمة الدستورية صحة قانون العزل، ويتم بموجب ذلك استبعاد شفيق بأثر رجعي، حتى تكون المنافسة النهائية بين صباحي ومرشح الإخوان محمد مرسي. (بعد أن فرغت من كتابة هذه السطور، تكشفت تكتيكات أخرى، لتصحيح خطأ استبقاء شفيق، منها الطعون في النتيجة، والتحقيق في اتهامات الفساد ضده. وما خفي أعظم). ولكن حتى في هذه الحالة فإن فوز مرسي أيضاً سيكون مؤكداً، لأن أصوات الإسلاميين ستتوجه لصالحه. وقد دفع هذا بالبعض لمطالبة مرسي بالتنحي لصالح صباحي.
ومهما تكن النتيجة النهائية لهذه العملية، فإن حقائق لا جدال فيها قد أثبتت، وأولها أن حركة الإخوان المسلمين وقيادتها الحالية حققت نقلة إعجازية من حركة سعت كل الأنظمة المتعاقبة على وأدها إلى حركة أصبحت هي "النظام". وإنها لنقلة كبيرة من حركة كان إعلام النظام السابق لا يتحدث عنها إلا بصفة "المحظورة"، وبعضهم كان يستخدم الصفة كاسم للحركة، ولم يكن يسمح لقادتها بالظهور في الإعلام الرسمي، حتى لرد الاتهامات ضدهم، وكانت الحكومة تحظر حتى على الدول الأجنبية التعامل معها. وقبل ذلك سعى نظام الرئيس جمال عبدالناصر لاستئصال الحركة، بدءاً باعدام قادتها، مروراً بتغييب كل كوادرها في السجون بصورة مؤبدة، والتعسف تجاه كل من يسعى لتقديم الدعم، حتى لو كان إنسانياً لأسر المعتقلين. ولكن الحركة عادت أقوى مما كانت، مما دفع بنظام السادات، ومن بعده مبارك، إلى محاولات ثبت فشلها لإعادة التنظيم إلى القمقم.
ولا بد هنا من التنويه هنا بأن الحركة لم تكن تواجه فقط الأنظمة، بل كانت تواجه حركات سياسية واجتماعية قوية، من بينها حركات إسلامية. ولعلنا نذكر بأن حركة الإخوان لم تكن هي التي قادت "الصحوة الإسلامية" التي شهدتها مصر في آخر عهد عبدالناصر وبداية عهد السادات، ببساطة لأنها كانت وقتها غائبة مغيبة، حيث لم يطلق سراح قادتها من السجن إلا في عام 1973. فقد كان في قيادة الصحوة من جهة شخصيات فكرية وإعلامية تحولت من العلمانية إلى التوجه الإسلامي، أو قيادات دينية من الأزهر أو على هامشه، مثل الشيخ متولي الشعراوي، إضافة إلى التأثير الخليجي. أما من جهة أخرى فقد نشأت الجماعات الإسلامية المستقلة وسط الطلاب، وخاصة في صعيد مصر، إضافة إلى بعض الحركات السرية المتشددة. وبخلاف ما يتردد كثيراً في الإعلام وحتى في بعض الكتابات الأكاديمية، فإن هذه الحركات لم "تخرج من عباءة الإخوان"، بل كانت مستقلة عنها ومنافسة لها. ولكن حركة الإخوان حققت نجاحاً مزدوجاً، حيث استغلت التيار الإسلامي العام لصالحها، وقامت في نفس الوقت بضم بعض أجنحة الجماعات الإسلامية إلى صفها على طريقة استحواذ "الشركات القابضة"، فعززت مكانتها على حساب تلك الجماعات التي أضرت بنفسها حين اتجهت إلى العنف والتطرف.
ولكن حتى في المواجهات الانتخابية الأخيرة، كانت الحركة تواجه تيارات إسلامية، من بينها تحالف نادر بين التيارات السلفية والمتشددة من جهة، والتيارات الإسلامية "المستنيرة" من جهة أخرى (ومعها قوى ليبرالية وحتى بعض قطاعات شباب الإخوان) يدعم المرشح الإخواني المنشق عبدالمنعم ابو الفتوح. إضافة إلى ذلك واجه الإخوان التيارات اليسارية والليبرالية ومؤيدي النظام السابق. من هنا فإن تحقيق السبق على كل هذه التيارات، وفرض الإخوان كخيار وحيد للرئاسة، إضافة إلى تحقيق دعم خالص بلغ ربع حجم الناخبين. وهذه المرة ليس هناك أي لبس حول أن هذا الدعم هو دعم خالص للحركة وقيادتها، وليس للتيار الإسلامي العام أو تعبيراً عن الاحتجاج ضد شيء ما.
ولكن هذا النجاح يفرض على الحركة مسؤوليات كبرى، ويجبرنا على استعادة بعض نصائحنا السابقة حول ضرورة ابتداع صيغة أفضل للتعاون مع القوى السياسية المنافسة. وهذا موضوع غاية في الحساسية ويستدعي الكثير من الذكاء السياسي. على سبيل المثال نجد أن "المرونة" التي أبداها الإخوان في التعامل مع المجلس العسكري، وهي مرونة كانت ذات دوافع مقبولة وفيها الكثير من الحكمة، فهمت من قبل دعاة الاندفاع الثوري باعتبارها نوعاً من "التواطؤ" والتراجع عن الثورة. وهذا يعكس فشلاً في إدارة الحوار والتواصل. نفس الشيء يقال عن فشل الإخوان في التوافق مع بقية القوى السياسية حول هيئة صياغة الدستور وإدارة الشؤون البرلمانية عموماً، وهو أيضاً يعكس إشكالية حكمة سياسية. وليس من حاجة هنا لمقارنة الوضع بما شهدته تونس وتركيا، بل يكفي أن ننظر إلى نجاح قيادي الحركة السابقة أبو الفتوح في كسب ثقة كافة القوى السياسية. وليت الحركة دعمته، إذن لكانت وفرت على نفسها ومصر متاعب كثيرة.
ما تحتاجه الحركة الآن، أكثر من أي وقت مضى، هو المزيد من المرونة، ولكن في موضعها. وقد كررنا مراراً بأنه كان يكون من الأفضل لو أن الحركة تبنت في برنامجها القضايا التي ينعقد الإجماع عليها، وتركت القضايا الخلافية التي تهدد الوحدة الوطنية. عندها لن تكون بحاجة إلى عقد صفقات تطرح من التساؤلات أكثر مما تحقق من إجماع. فالعملية الديمقراطية هي في نهاية المطاف عملية توافقية، تستند على إجماع حول الثوابت، وتراعى فيها مصالح وقيم وكرامة ومكانة كافة مكونات المجتمع. وليست الديمقراطية حرباً أهلية تستخدم فيها العملية الانتخابية بديلاً عن السلاح لتدمير الخصوم، وإنما هي تستخدم كأداة للتداول ولحسم الخلافات داخل إطار الإجماع. والتحدي في مصر اليوم هو بناء أرضية الإجماع هذه عبر تنازلات من الفئات الأقوى لصالح الأضعف.
التحية إذن لإخوان مصر على انتصارهم المستحق، ولكن التحية الأكبر هي للديمقراطية التي أتاحت لهم هذا النصر، مما يضع عليهم عبئاً أكبر في الدفاع عنها.
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]