التدهور الأخلاقي فى مجتمعاتنا العربيه المعاصره: تحليل منهجي

 


 

 

د.صبري محمد خليل/ أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه فى جامعه الخرطوم

Sabri.m.khalil@gmail.com

تعريف الأخلاق :الأخلاق لغة الطبع والسجية ، أما اصطلاحا فهي مجموعة القواعد ، التي تحدد للإنسان ما ينبغي أن يكون عليه سلوكاً، تجاه الآخرين " من طبيعة ومجتمع" ، يكتسبها الإنسان من انتمائه إلى مجتمع معين زمانا ومكانا، كما يكتسبها المجتمع من مصادر متعددة " قد تكون مطلقه كالدين، أو محدودة كالعرف الاجتماعي…".

خصائص الأخلاق: من هذا التعريف يمكن تحديد خصائص الأخلاق بأنها :

أولا:معيارية: أي أنها تحدد للإنسان ما ينبغي أن يكون ، وليس ما هو كائن .

ثانيا: سلوكية : اى أنها تنصب على السلوك الانسانى.

ثالثا:اجتماعية: اى أنها ذات صفة اجتماعية وليست فردية، أي أنها جاءت كحل لمشكلة الاتصال الحتمي بين الفرد والمجتمع.

رابعا: متعددة المصادر: اى أن المجتمع يكتسبها من مصادر متعددة" الدين، العرف ، المجتمع المعين أو المجتمعات الأخرى…".

الشخصيه العربيه وعلاقات انتمائها المتعددة: والحديث فى هذه الدراسة هو عن القيم الأخلاقية للشخصيه العربيه، كشخصية حضارية عامة لشعوب الأمة العربيه المتعددة ، ذات علاقات انتماء متعددة ، ينبغي ان تكون العلاقة بينها علاقه تحديد وتكامل ، وليست علاقه إلغاء وتناقض. ومن هذه
العلاقات:

اولا: علاقة الانتماء الاسلاميه : وهى علاقة انتماء ذات مضمون دينى – حضاري . فالاسلام دين وحضارة . واذا كان الاسلام كدين مقصور على العرب المسلمين ، فإنه كحضارة " تتضمن العادات والتقاليد.." يشمل العرب المسلمين وغير المسلمين .

ثانيا:علاقة الانتماء العربية: وهى علاقة انتماء قومية ، ذات مضمون لسانى " لغوي" - حضارى ، غير عرقي – وهو الامر الذى اشارت اليه العديد من النصوص ومنها قوله تعالى ( ومن آياته اختلاف السنتكم والوانكم)، تشير الآية الى معيار الانتماء فى الاطوار القبلية "النسب المتضمن للون" ، كما تشير الى معيار الانتماء فى الطور القومى " طور امه التكوين " ، وهو اللسان" اللغة" .
ومن هذه النصوص ايضا قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) (إنَّ الرب واحد، والأبُ واحد، والدَين واحد، وإنَّ العربيةَ ليست لأحدكم بأبٍ ولا أمّ، إنما هي لسانَّ، فمنْ تكلَّمَ بالعربيةِ فهو عربي)، وإذا كان بعض علماء الحديث قد انكروا صحه هذا الحديث من ناحيه الروايه ، فان العلماء لم ينكروا صحته من ناحيه المعنى، يقول الإمام ابن تيميه ( … لكنَّ معناه ليس ببعيد. بل هوَ صحيح من بعض الوجوه. ..) (اقتضاء الصراط المستقيم) .
ومضمون علاقه الانتماء العربيه ان اللغه العربيه هى اللغه القوميه المشتركه ، الجماعات القبلية والشعوبية التى تشكل شعوب الأمة العربيه ، بصرف النظر عن أصولها العرقيه، ولغاتها الشعوبيه ولهجاتها القبليه الخاصه .

ثالثا:علاقات الانتماء القبلية والشعوبيه : فهناك علاقات الانتماء القبليه للجماعات القبلية ، و علاقات الانتماء الشعوبية " الحضارية – التاريخية السابقة على الإسلام " ،للجماعات الشعوبية التى تشكل شعوب الأمة العربيه , فالإسلام لم يلغى الوجود الحضاري السابق عليه ،بل حدده كما يحد الكل الجزء فيكمله و يغنيه ولكن لا يلغيه “ والدليل على هذا ان العرف مصدر من مصادر التشريع الاسلامى التبعية.

رابعا: علاقات الانتماء العرقيه المختلطة : كما اشرنا اعلاه فانه اذا كان معيار الانتماء فى أطوار ووحدات التكوين الاجتماعى القبليه "الأسرة والعشيرة والقبيلة " هو النسب ـ فان معيار الانتماء فى الطور القومى "
طور الأمة هو معيار لغوى – حضارى غير عرقى . فكل أمة تشكلت من خلال اختلاط العديد من الشعوب و القبائل ذات الأصول العرقية المختلفة ، وهو ما حدث فى الأمة العربيه، التى تكونت عبر اختلاط العرب (الساميين) مع جماعات قبلية وشعوبية ذات اصول عرقيه مختلفة ( ساميه او اريه او حاميه او مختلطه).

القيم الأخلاقية العربيه المشتركة : اتساقا مع ما سبق فان الحديث هنا عن القيم الاخلاقية للشخصية العربيه ، كشخصية حضاريه عامه لشعوب الأمة العربيه، بجماعاتها القبليه والشعوبية المتعددة المكونة لها، اى القيم الحضارية المشتركة بين شعوب الأمة العربيه . وبالتالي لا يدخل ضمن الدراسة القيم الأخلاقية الخاصة بشعب عربى معين او جماعة قبلية أو شعوبيه معينه مكونه له ، والتي تتضمن أنماط السلوك الايجابية والسلبية، التي تتميز بها شعب او جماعة قبلية او شعوبية معينهنه،والتي قد يتتابع انتقالها من جيل إلى جيل، فيشكل بذلك نمط سلوك شائع فيها ،أو قد ينقطع هذا التتابع فيشكل نمط سلوك نادر فيها.

علاقات الانتماء الحضارية كمصدر للاخلاق: وقد اكتسبت الشخصية العربيه ، كشخصية حضاريه عامه لشعوب الأمة العربيه ، هذه القيم الأخلاقية من خلال علاقات انتمائها الحضارية " الدينية- اللغوية- التاريخية...".

عوامل التدهور الأخلاقى: أما التدهور الأخلاقي فى مجتمعاتنا العربيه
المعاصره- اى شعوب الأمة العربيه المتعددة - فيرجع إلى عوامل متعددة ومتفاعلة،غير أن هذه العوامل ليست متساوية في درجة التأثير، فبعضها رئيسي وبعضها ثانوي. وفيما نرى فإنه يمكن حصر العوامل الرئيسية في عاملين هما:

أولا: العامل التاريخى : مشكلة التوازن بين الفرد والجماعة و الانزلاق من الاجتماعية الى الجماعية”: العامل الرئيسي الأول هو عامل تاريخي، ويتصل بمدى تحقيق القيم الأخلاقية العربيه للتوازن بين الفرد والجماعة.

المنظورالاجتماعى الاسلامى والتوازن (الفلسفة الاجتماعية ): ذلك أن المنظور الاجتماعي الاسلامى – كمصدر معرفي وقيمي الشخصية العربيه، يتصل بعلاقة انتمائها الإسلامية - يرفض الفردية التي تؤكد على الفرد لتلغى الجماعة كما في قوله صلى الله عليه وسلم (إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)، كما يرفض الجماعية التي تؤكد على الجماعة لتلغى الفرد كما في قوله صلى الله عليه وسلم (لا يكن أحدكم امعه، يقول أنا مع الناس، إن أحسنوا أحسنت، وإن أساؤا أساءت، بل وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أحسنتم ، وان أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم)،ويقوم على فلسفة اجتماعية تسعى لتحقيق التوازن بين الفرد والجماعة من خلال التأكيد على أن الجماعة بالنسبة للفرد،كالكل بالنسبة للجزء يحده فتيكمله ويغنيه ولكن لا يلغيه ،كما فى قوله صلى الله عليه وسلم )مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد،إذا اشتكى منه عضو، تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى)…

المجتمعات المسلمه واختلال التوازن (النزعة الجماعية): غير أن أغلب المجتمعات المسلمة "ومنها المجتمعات العربيه " قد انزلقت – إلى درجة ما – إلى نمط تفكير وسلوك جماعي ، كمحصلة لتخلف نموها الاجتماعي، نتيجة لعوامل متفاعلة: داخلية " كالجمود والاستبداد وشيوع التقليد وشيوع أنماط التفكير الخرافى والاسطورى والبدعى"، وخارجية "كالاستعمار والتبعيه والتغريب" .

اليات التفكير والسلوك الجماعي : هذا التفكير والسلوك الجماعي يعبر عن ذاته من خلال آليات مثل:

· التقليد والمحاكاة .

· المقارنة المستمرة مع الآخر .

· فهم المساواة على أنها تماثل وتطابق، وإنكار ما بين الأفراد من
تفاوت في الإمكانيات والمقدرات الذاتية …

أنماط التفكير والسلوك السلبي التى تفرزها هذه الاليات: وهذه الآليات تفرز أنماط من التفكير والسلوك السلبي ومنها:

· الحسد .

· التدخل في شئون الغير.

· الاعتماد على الآخرين وعدم الاستقلال الشخصي.

· النميمة و المجاملة والنفاق.

· ظهور الأبعاد الموضوعية للشخصية “ذات الطبيعة الإلزامية”
(كالقيام بالواجبات الاجتماعية من زيارات وغيرها "، مع ضمور الأبعاد الذاتية” “ذات الطبيعة الالتزامية )” الاستقلالية في الرأي والسلوك، والصراحة والوضوح في التعبير عن الآراء والمشاعر الحقيقية ،والالتزام بالمواعيد و الوعود…).

الفرديه المتحوله: وهنا يجب الإشارة إلى أن نمط التفكير والسلوك الجماعي ،فضلا عن انه لا يحقق التوازن بين الفرد والجماعة، فإنه لا يستطيع فعليا إلغاء الوجود الفردى أو الأبعاد الذاتية للشخصية، ولكنه يحيلها إلى فرديه وذاتيه متحولة، اى فردية وذاتية تتضاءل أو تتضخم طبقا لدرجه الإلزام الموضوعي، ذلك لأنه يكاد يبقى النزوع الفردي “الغريزى” عند الأفراد دون اى ترقية وتهذيب وتطوير.

انزلاق جزئى وليس كلى: غير انه يجب تقرير هذا الانزلاق إلى نمط التفكير والسلوك الجماعي ليس كليا- كما فى المجتمعات التى لم تتجاوز بعد الأطوار القبلية - وبالتالي أصبحت الشخصية العربيه شخصيه يختلط فيها نمط التفكير والسلوك الجماعي، الذي يفرز أنماط التفكير والسلوك السلبي سابقة الذكر،مع نمط التفكير والسلوك الاجتماعي الذي يفرز أنماطا من والتفكير والسلوك الإيجابي " كالمشاركة والتضامن ومساعدة الآخرين..".

الغاء التاثير السلبي لهذا العامل بالعوده من الجماعيه الى الاجتماعيه :
بناءا على ما سبق فإنه لا يمكن إلغاء التأثير السلبي لهذا العامل، إلا من خلال التحرر من نمط التفكير والسلوك الجماعي، والعودة إلى الالتزام بنمط التفكير والسلوك الاجتماعي، الذي يحقق التوازن بين الفرد والجماعة ، من خلال التأكيد على أن الجماعة بالنسبة للفرد،كالكل بالنسبة للجزء تحده فتكمله ويغنيه ولكن لا تلغيه.

ثانيا: العامل المعاصر:التناقض بين النظام الراسمالى والقيم الحضارية للشخصية العربيه : أما العامل الرئيسي الثاني فهو عامل معاصر، ويتمثل في التناقض بين النظام الاقتصادي الراسمالى (الذي تم – ويتم- تطبيقه فى المجتمعات العربيه المعاصرة ،عبر مراحل ونظم سياسية متعاقبة ، وتحت مسميات متعددة " والانفتاح / الإصلاح / التحرير...الاقتصادى ، الخصخصة ، لبرله الدولة والليبرالية الجديدة/ رفع او ترشيد الدعم...) والقيم الأخلاقية والحضارية للشخصية العربيه.

الرأسمالية تنظيم للتمرد على القيم الحضارية: ذلك ان هذا النظام الاقتصادي هو تنظيم للتمرد على القيم الحضارية المشتركة للشخصية العربيه والمسلمة، وأولاها قيمة المشاركة الحضارية.

الانانيه: حيث إن علاقات الإنتاج في ظل هذا النظام الاقتصادي تصبح مصدر للانانيه والفردية ، التي تتحول من خلال اطرادها إلى قيمه اجتماعيه ، تفسد عن طريق عن العدوى بالتفاعل باقي القيم الحضارية للشخصية السودانية في الأسرة " المشاكل الأسرية كالتفكك الأسرى، وارتفاع نسبة الطلاق…" ، في العلم( تحول العلم إلى تجارة) ، في الفكر( اتخاذ المفكرين لموقف الدفاع عن الواقع- خاصه حال أصبحوا جزء من النظام السياسى او مستفيدين منه - بدلا من اتخاذهم موقف الدعوة إلي تغييره ، بتقديمهم الحلول – النظرية - للمشاكل التي يطرحها ، اى تحولهم من طلائع الى نخب..) في الأخلاق( التدهور الأخلاقي في كافه مجالات الحياة)… الخ نرى الأثر المخرب للقيم
الرأسمالية: الفردية التي تتقدم على أشلاء الآخرين .

الاستغلال: والنظام الراسمالى بحكم طبيعته نظام استغلالي، ولا يمكن لأي إنسان في ظل الرأسمالية إلا إن يكون طرفا في علاقة استغلالية مستغلا أو ضحية استغلال ، بشكل مباشر أو غير مباشر ، إزاء هذا لا تجدي النصائح والوعظ المثالي وحسن النية، بل أن حسنى النية هم ضحايا جاهزة للاستغلال.وهذا الشكل من أشكال الاستغلال يضاف الى شكل اخر من اشكال الاستغلال، سببه نمط التفكير والسلوك الجماعي- المتصل بالعامل التاريخي التدهور الأخلاقي- والذى يؤدى الى اختلال التوازن فى العلاقة بين الفرد والجماعة.

الغاء القيم السلبية بمقاومة النظام الاقتصادي الذي يفرزها : ولا يمكن إلغاء كل هذه القيم السلبية ، إلا بالعمل على مقاومة النظام الاقتصادي الذي يفرز هذه القيم السلبية ، و يكرس للمربع المخرب ( الفقر والجهل والمرض والبطالة) ، الا بالعمل المشترك والتدريجي ، على اقامة نظام اقتصادي يعبر عن القيم الحضارية للشخصية العربيه، ويهدف إلى تحقيق مصلحه المجتمعات العربيه ككل.

التأثير المشترك للعاملين “التاريخى والمعاصر”كسبب لتزايد معدلات
التدهور: غير أنه يجب تقرير أن العامل الرئيسي الأول" الانزلاق من الاجتماعية إلى الجماعية" رغم انه عامل تاريخي، إلا أنه لم يؤدى إلى تدهور أخلاقي بمعدل كبير، في المجتمعات العربيه في الماضي، نتيجة لاتساق طابع الأخلاق العربيه الجماعي - الاجتماعي ، مع طابع الحياة حينها
الجماعي- الاجتماعي أيضا (القبيلة ، الطائفة، الأسرة الممتدة..). كما أن المجتمعات العربيه المعاصرة قد تزايدت معدلات تدهورها الأخلاقي ، نتيجة لتعرضها للتأثير السلبي للعاملين الرئيسين سابقي الذكر، إذ أن العامل الرئيسي الثاني يعمل على إلغاء أو التقليل من طابع الحياة العربيه" الذي يتداخل فيه الجماعي مع الاجتماعي"، والذي كان اتساقه مع طابع الأخلاق العربيه"الجماعي – الاجتماعي"، بمثابة حائل دون حدوث تدهور اخلاقى بمعدل كبير، في المجتمعات العربيه في الماضي . كما أن هناك عوامل أخرى- بعضها ذو صلة بالعامل الثانى -أدت إلى التقليل من هذا الطابع " الجماعي – الاجتماعي" للحياة العربيه (الانتقال من الأسرة الممتدة إلى الأسرة الذرية ، والهجرة الداخلية والخارجية ، والحروب، والفقر....)، وفي ذات الوقت استمر العامل الرئيسي الأول في افراز أنماط التفكير والسلوك السلبي سابقة الذكر ،و أهمها ضمور الأبعاد الذاتية للشخصية "ذات الطبيعة الالتزامية".

السلوك الأخلاقي محصلة تفاعل العوامل الذاتية والموضوعية: غير انه يجب تقرير ان السلوك الأخلاقي هو محصلة تفاعل عوامل ذاتية " كالالتزام الذاتي والضمير والارادة..."، وعوامل موضوعية " تتضمن العوامل المشار اليها اعلاه "،وبالتالى لا يمكن تفسيره بهذه العوامل فقط، ،فهذه العوامل توفر فقط الشروط الموضوعية التدهور الاخلاقى، دون شروطه الذاتية. فمكافحه هذه العوامل الموضوعية يهدف اذا الى الغاء –او الحد من - الشروط الموضوعية للتدهور الأخلاقي فى المجتمع المعين .

تفسير وليس تبرير: هذا فضلا عن الحديث عن هذه العوامل هو تفسير التدهور الأخلاقي وليس تبرير له .

*********************************
الموقع الرسمي للدكتور/ صبري محمد خليل خيري | دراسات ومقالات https://drsabrikhalil.wordpress.com
//////////////////////////

 

آراء