التديّن الشعبي في أدب الطيب صالح

 


 

 

نعني بالتدين الشعبي popular religion الدين كما هو ممارس على أرض الواقع الحي، لا كما في النّصوص والكتب الدينية وخطب الوعّاظ ودروس الفقهاء. خذ مثلاً وضعية المرأة في المجتمع، فهي في التدين الشعبي يحدّدها العرف والممارسة الاجتماعية، أكثر مما تفعل النّصوص الشرعيّة. ولذلك يمكن القول إن التدين الشعبي هو نتاج العلاقة الجدلية بين النص والثقافة.
ولو نظرنا إلى المجتمعات العربيّة والإسلاميّة قبل انتشار حركات الإسلام السّياسي والجماعات السلفيّة نجد أنّ تديّن هذه المجتمعات تديّن شعبي حيث يمتزج الدين بالثّقافة الشعبيّة والعادات والتقاليد وحياة الناس اليومية، ويشكّل معها كُلاً واحدًا مركّبًا في بنية اللاشعور الجمعي.

وأهم ما يميز الإسلام الشعبي عندنا التسامح القائم على مبدأ "لا إكراه في الدين"، وأنّ الدين مسألة خاصة بين العبد وربه. وفيما يلي الخلق، يتلخص التدين الشعبي في القول المأثورة "الدين المعاملة". وهنا يتماهى التدين الشعبي بالمفهوم الصوفي للتدين. بل هو وليد التصوّر الصوفي للدين.

ويقدم أدب الطيّب صالح نموذجًا ممتازًا لمفهوم التدين الشعبي في السودان. خذ مثلاً حادثة "عرس الزين" فهي تشكّل لوحة بليغة على الكيفية التي تمتزج بها عادات الناس وتقاليدهم، بفهمهم للدين:
"كان المشايخ يرتّلون القرآن في بيت، والجواري يرقصن ويغنين في بيت، المداحون يقرعون الطّار في بيت، والشبّان يسكرون في بيت. كان فرحًا كأنّه مجموعة أفراح. وكانت أمّ الزين ترقص مع الراقصين وتنشد مع المنشدين. تقف هنيهة تستمع للقرآن، ثمّ تهرول خارجة إلى حيث يُطهى الطّعام، تحثّ النساء على العمل".

ويتجلى التدين الشعبي في قرية ود حامد – مسرح أحداث روايات وقصص الطيّب صالح – من خلال علاقة أهل القرية بإمام الجامع خريج الأزهر الذي يمثّل الدين بمعناه السلفي كما هو في الكتب والفقه والنّصوص الدينية. حيث نجد أنّ علاقة القرويين بالفقهاء وعلماء الدين علاقة تحكمها الضّرورة لا أكثر. كان الإمام في نظر أهل القرية:
"رجلاً ملحاحًا متزمتًا كثير الكلام. كانوا يحتقرونه في دخيلتهم، لأنّه كان الوحيد بينهم الذي لا يعمل عملاً واضحًا – في زعمهم . لم يكن له حقل يزرعه ولا تجارة يهتم بها. وكان يرتبط في أذهانهم بأمور يحلو لهم أحيانًا أن ينسوها: الموت، والآخرة، والصلاة. كان يلهب ظهورهم في خطبه، وكأنّه ينتقم لنفسه منهم، بكلام متناسق فصيح عن الحساب والعقاب والجنّة والنّار ومعصية الله والتوبة إليه، كلام يتنزل في حلوقهم كالسّم". انتهى.

أمّا أصحاب النفوذ الفعلي في البلد، شلة محجوب الذين تلقاهم في كل أمر جليل يحل بالبلد، فكان الإمام "لا يحبّهم، ولكنّه كان يعلم أنّه سجين في قبضتهم إذ أنّهم هم الذين يدفعون له مرتّبه آخر كلّ شهر. كانوا يعتبرونه شرًّا لا بدّ منه، ولكنهّم كانوا يقومون بالواجب والمجاملة كما يقول محجوب. كانوا لا يصلُّون، ولكنّ واحدًا منهم على الأقل كان يحضر الصلاة، مرّة في الشهر. يعطون الإمام مرتبه ويتفقّدون بناء المسجد إذا كان يحتاج لإصلاح". انتهى.

في مؤانسة حول وظيفة إمام الجامع ومن هو الأجدر بأن يصلّي بالنّاس في حال غيابه يزعم الطّاهر ود الرواسي أنّ أي منهم يمكن أن يصلّي بالنّاس:
"الحكاية مش صلاة العيدين وخطبة الجمعة وصلاة التراويح؟ والحمد لله رب العالمين، ولا الضالين آمين. وحتى خطبة الجمعة إياها الكلمتين. اللهم انصر المسلمين واحفظ أمير المؤمنين. وين أمير المؤمنين دا عاوزين نعرف؟"
- "لا حول ولا قوة إلا بالله. انت يا ود الرواسي ايش عرفك في خطب الإمام؟ طول عمرك لا اتوضيت ولا صليت. الجامع من الله ما خلقك ما دخلته ولا عتبت على بابه.
- "يا عبد الحفيظ خاف الله. كيف ود الرواسي ما شاف الجامع؟ هو في إنسان ساعد في بناء الجامع اكتر من ود الرواسي؟"
- "شايف يا محيميد؟ شايف ناس الزمن دا كيف بقوا ينكروا الحق؟ والله صدق إبراهيم ود طه. يقول لي يا ود الرواسي اتجنّب ناس الدقون والسبح ما يجيك من وراهم إلا الشر. أنا يا عبد الحفيظ ما أعرف الجامع؟ في الحر والبرد منو نقل المويه والطوب؟ منو الوقف لحد ما السقف ارتفع؟ منو اشتغل طول الليل وقت الرجال شخرت؟ منو..؟ بس نقول شنو ولا شنو؟".
"غضب عبد الحفيظ من كلام ود الراوس فنفض يده وقام من المجلس. فيرد عليه سعيد: "يا أخي انت جنّيت ولا شنو؟ الحكاية ونسة. انتو عاوزين تحجروا الكلام علي الناس؟ يا أخي الجامع ما تراه واقف، في إنسان عاوز يبيعه ولا يشتريه؟ ال يصلي وال ما يصلي كلهم اشتغلوا. والأجر والثواب عند الله. بسم الله الرحمن الرحيم. يا اخي انتو عاوزين تجيبوا الإسلام من أول جديد؟".

كبار السن والأعيان، وحدهم، كانوا "يعاملون الإمام معاملة ودٍّ يشوبها تحفّظ. كانوا يحضرون كلّ الصلوات في المسجد ويبدو على وجوهم على الأقل أنّهم يفهمون ما يقوله الإمام. شذّ عن هذا الفريق رجل في السبعين اسمه إبراهيم ود طه، لا يصلّي ولا يصوم ولا يزكّي ولا يعترف بالإمام".

وفي رواية "ضو البيت" يبرز انحياز الكاتب للإسلام الشعبي ونقده لمفاهيم الإسلام السياسي وفكرة الدولة الدينية بصورة أكثر. مثلاً نجد محيميد، يُحال إلى المعاش من قبل حكومة متدينة لأنّه لا يصلّي الفجر في الجامع. ويقول: "عندنا الآن حكومة في الخرطوم متديّنة، رئيس الوزراء يصلّي الفجر حاضر في الجامع كل يوم. وإذا كنت لا تصلّي أو تصلّي وحدك في دارك، فسيتهمونك بعدم الحماس للحكومة. أن تحال للمعاش كرم منهم".

هكذا كانت رؤية أهل القرية في أدب الطيّب صالح للتدين "الفقهي" والسياسي. لكن الوضع مختلف فيما يتعلق بعلاقة أهل القرية بأهل التصوّف الذين يمثّلهم "الحنين" الولي الصالح. فقد كان رجلاً منقطعًا للعبادة يقيم في البلد ستة أشهر في صلاةٍ وصومٍ، ثم يحمل إبريقه ومصلاته ويضرب مصعدًا في الصّحراء ويغيب ستة أشهر، ثمّ يعود، ولا يدري أحد أين ذهب. يحلف أحدهم أنه رآه في مروي في وقت معين، بينما يقسم آخر أنّه شاهده في كرْمة في ذلك الوقت، وبين البلدتين مسيرةُ ستّة أيام".

ويبرز جليًا التمايز بين الفهم الفقهي والصوفي للدين من خلال علاقة "الزين" بكلٍّ من الحنين والإمام. ففي حين ربطت الزين علاقة صداقة مع الحنين، فإنّ الإمام هو الشخص الوحيد الذي كان الزين يكرهه:
"كان في البلد إنسانًا واحدًا يأنس له الحنين ويهشّ له ويتحدث معه، ذلك هو الزين. كان إذا قابله في الطريق عانقه وقبله على رأسه، كان يناديه المبروك. وكان الزين أيضًا إذا رأى الحنين مقبلاً، ترك عبثه وهذره وأسرع إليه وعانقه".

أما الإمام فكان الزين "يعامله بفظاظة، وإذا قابله قادمًا من بعيد ترك له الطريق. ولعلّ الإمام كان الشخص الوحيد الذي يكرهه الزين، كان مجرد وجوده في مجلس يكفي لإثارته، فيسب ويصرخ ويتعكّر مزاجه ويتحمّل الإمام في وقار هيجان الزين ويقول أحيانًا إنّ النّاس أفسدوه بمعاملتهم له كأنّه شخص شاذ، وإن كون الزين وليّ صالح حديث خرافة وإنّه لو رُبِّي تربيةً حسنة لنشأ عاديًّا كبقية النّاس". انتهى.

ولعلّ أكثر شخصيّة من شخوص الطيّب صالح الروائيّة يتجسّد فيها مفهوم التدين الشعبي الصوفي هي شخصية الطاهر ود الرواسي. ود الرواسي أقربُ الشخصيّات إلى قلب الراوي، ومن أخلص أصدقائه في قرية ود حامد. فالدين عنده يعني المحبّة، محبّة النّاس. وعلاقة الإنسان بربّه تقوم على المحبّة.

كان الطاهر يقول: "الإنسان يا محميد.. الحياة يا محيميد ما فيها غير حاجتين اتنين. الصداقة والمحبة. ما تقول لي لا حسب ولا نسب، ولا جاه ولا مال. ابن آدم إذا كان ترك الدنيا وعنده ثقة إنسان واحد، يكون كسبان. وأنا المولى عز وجل أكرمني بالحيل. أنعم عليّ بدل النعمة نعمتين. أدّاني صداقة محجوب وحب فاطمة بت جبر الدار".

حينما يأتي الحديث عن الصّلاة يقول الطاهر ود الرواسي: "أنا فاطمة بت جبر الدار طول حياتها تصلّي. صلاتها تكفينا نحن الاتنين".
وفاطمة بت جبر الدار هي زوجته، أخت محجوب نديد الراوي وصديقه. يقول: "ويوم الحساب، يوم يقيف الخلق بين يدي العزة والجلال، شايلين صلاتهم وزكاتهم وحجهم وصيامهم، وهجودهم وسجودهم، سوف أقول: يا صاحب الجلال والجبروت، عبدك المسكين، الطاهر ود بلال، ولد حواء بت العريبي، يقف بين يديك خالي الجراب، مقطع الأسباب، ما عنده شئ يضعه في ميزان عدلك سوى المحبّة". انتهى.

الصوفيّة الكونيّة:
لا نقصد بها الصوفيّة بالمعنى التقليدي ممثّلة في شخصيّة الحنين الوليّ الصّالح، وإنّما المقصود بها التصوف الفطري حيث الإقبال على الحياة والامتزاج بالطبيعة في براءة ينمحي عندها التعارض بين العقل والقلب، ويتداخل فيها الظّاهر بالباطن، وتتعرّى فيها القيم عن دوافعها النفعيّة، ويُعاد ترتيبها.
والصوفيّة الكونيّة بهذا المعنى تتجسّد في شخصية الزين. فقد كان الزين، في ظاهره، أبله، قبيحَ الصورة، عابثًا مهزارًا، لا يؤاخذه أحد بما يفعل ويدع. ولكن، من ناحية أخرى، كان يأتي بأفعال لا يأتي بها إلا أصحاب النظر والبصيرة. فإلى جانب صداقته المحيّرة بالحنين، كانت للزين صداقات عديدة من هذا النوع مع أشخاص يعتبرهم أهل البلد من الشواذ، مثل عشمانة الطرشاء، وموسى الأعرج، وبخيت الذي ولد مشوّهًا ليست له شفة عليا وجنبه الأيسر مشلول. كان الزين يحنو على هؤلاء ويساعدهم وينفق عليهم:

"ويرى أهل البلد هذه الأعمال من الزين فيزداد عجبهم. لعلّه نبي الله الخضر، لعلّه ملاك أنزله الله في هيكل آدمي زري، ليذكّر عباده أنّ القلب الكبير قد يخفق حتى في الصدر المجوف والسمت المضحك، كصدر الزين وسمته. وبعضهم يقول: يضع سرّه في أضعف خلقه. ولكن صوت الزين لا يلبث أن يرتفع مناديًا: يا أهل الفريق.. يا ناس الحلة أنا مكتول... فتتحطّم هذه الصورة، وتعود صورة الزين التي يألفها الناس ويؤثرونها". انتهى.
ومن تجليات الصوفية الكونية نكران الذات والتضحية بالنفس من أجل الآخرين بلا مقابل نفعي دنيوي. نعمة بنت عم الزين. كانت أجمل بنات البلد وأكثرهن أدبًا، رفضت الزواج من أبناء الأثرياء والوجهاء في البلد؛ ولكنّها أصرّت بعناد أن تتزوّج الزين:
"كانت تحلم بتضحيةٍ ضخمةٍ تؤدّيها في يوم من الأيام، فيها ذلك الإحساس الغريب الذي تحسّه حين تقرأ سورة مريم.. وحين يخطر الزين على بال نعمة تحسُّ إحساسًا دافئًا في قلبها من فصيلة الشعور الذي تحسّه الأم نحو ابنها".

نموذج آخر. حواء بت العريبي والدة الطاهر ود الرواسي: "فقد كانت امرأة صاعقة الحسن، حلوة الحديث متبرجة، في حديثها شيء من تفحش وتغنج. فأرادها الكثيرون فتمنّعت واعتصمت ولم تقبل منهم طالب حلال أو حرام. ولكن، لم يعلق قلب حواء هذه دون الناس جميعًا إلا بلال المريد الصوفي الذي هو في الأصل رقيقًا".
"فكانت تعرض له وهو في صلاته وعبادته فلا يرد عليها ولا يجاوبها. ولما أعيتها الحيلة ذهبت إلى الشيخ نصر الله ود حبيب وشكت له وتذللت وتضرّعت، فأشار على بلال أن يتزوّجها. فصدع لأمر شيخه وتزوّج حواء، ولكن لم يجتمع بها إلا ليلةً واحدة، بعدها استأذن شيخه أن يسمح له بأن يبريء ذمته منها، فأذن له. وكان أن حبلت منه بابنه الذي يسمي الطاهر ود الرواسي. وبعد أن سرّحها بلال أبت أن تدخل على رجلٍ آخر. وانصرفت لتربية ابنها، فكان شأنها في ذلك شأن المتصوّفةِ العاكفين". انتهى.

abusara21@gmail.com
/////////////////////

 

آراء