الترابي .. في العاشرة مساء!
العين الثالثة
جلست لأكثر من ساعة في متابعة برنامج (العاشرة مساء) الذي تقدمه الإعلامية المصرية المتميزة منى الشاذلي بقناة دريم. وكان دكتور حسن الترابي هو ضيف ذلك البرنامج عالي المشاهدة.
والترابي قائد سياسي ومفكر خاطف للأبصار، له دربة فائقة في التعامل مع الحوارات الصحافية.. يجيد الاستماع ويختار لحظات المقاطعة ويعرف متى يواجه الأسئلة في عين العاصفة ومتى يلتف عليها بعبارات زئبقية وهو على استعداد دائم لاختراق التساؤلات الصعبة عبر سهام السخرية أو القفز من فوقها للعموم والمطلق!!
وإذا كانت الحوارات الاحترافية توصف بأنها معركة العض على الأصابع، فيندر أن يخرج الترابي خاسراً في تلك الساحة. فهو إذا أعجزته الحجة تنصره الصورة!
أذكر ملاحظة نابهة لصديقي العزيز فقيد الشباب الراحل سيف الدولة زين العابدين أبو جديري وهو يقارن بين دكتور الترابي ودكتور محمد جلال العظم على قناة الجزيرة في برنامج (الاتجاه المعاكس)، قال سيف إنه عندما شاهد الحلقة في التلفاز خرج بقناعة أن الترابي قد (التهم العظم) تماماً ولكن عندما رجع لنص الحلقة في نسختها الورقية بموقع الجزيرة نت وجد أن حجج ومنطق العظم كانت أقوى من حجج ومنطق الترابي، وأن الأخير قد استعان على قهر الأول عبر الأداء البصري الرفيع.
هذه الملاحظة لا تقلل من مقدرات وقدرات الترابي التفكيرية، فهو رجل له خبرات وتجارب ومعارف ومعلومات تمكنه من بناء حججه وآرائه بصورة صلدة تصعب محاولات النيل منها.
في العاشرة مساء كان الترابي بذات مقدراته التلفازية الباهرة، جلباب أنيق وشال مطرز ولسان مبين، وما أعانه أكثر على السطوع عدم إلمام منى الشاذلي بتفاصيل الشأن السوداني وضيق إنائها في المعرفة الإسلامية وعدم معرفتها بمنطلقات الترابي في قضايا الفكر والتجديد ولكن كانت الإطلالة الحسناء لمنى ومهارتها الأدائية الباسمة كافيتين لستر قصور الإعداد وشح المادة البحثية.
بنهاية الحلقة اقتنعت تماماً بأن الترابي في حاجة ملحة لإجراء تسوية صادقة مع إرشيفه السياسي.. (مواقف وتصريحات وآراء)، بصورة أكثر جراءة ومباشرة في النقد الذاتي والاعتراف.
الرهان على ضعف ذاكرة الجماهير لا يجدي نفعاً في ظل ثورة التوثيق وضوابط المعلومات.. عدد من السائلين تعاملوا مع الترابي كأنه لا يزال على سدة الحكم، فأبصار هؤلاء لم تغادر مسرح الأمس بعد، لأن السجون ليست وحدها القادرة على تطهير المواقف ولا على رسم الفواصل بين تجربتين لذات الشخص.
الترابي ظل يضطرب في التعامل مع إرشيفه السياسي بين الاعتراف والتبرير، في العاشرة مساء كان يبرر لانقلاب الإنقاذ وفي العاشرة ودقيقتين كان يعتذر عنه على استحياء!
كان مع منى الشاذلي يدعو للديمقراطية وفي ذات الحلقة يعترض ويشكك في منتجاتها إذ إنها في 1986 جاءت بالطائفية والقبلية!
ينادي بإسقاط النظام ويعترض على أن يتم ذلك عبر الثورة الشعبية لأنها ستمزق البلاد ويستبعد الانقلابات لأنه يكره العساكر من معاوية أبي سفيان إلى الرئيس البشير ويمتنع عن إسقاطها عبر صناديق الاقتراع. يحدد الهدف ويعجز عن اختيار الوسيلة وتحديد الطريق!
أذكر قبل سنتين التقى وفد زعامي إفريقي بدكتور الترابي، وعندما سُئل أحد أعضاء الوفد عن انطباعه، لخص الترابي في كلمتين قال: (إنه رجل غاضب)!
أشعر بكثير من الحزن والأسى أن تهدر طاقة وتجارب وأفكار وخبرات رجل مثل دكتور الترابي في مغالطات التاريخ ومرارات الراهن مع العجز التام عن صناعة الآمال!!
diaa Bilal [diaabilal@hotmail.com]