التسوية الامريكية وغياب المشروع الوطني

 


 

 


لا يمكننا السعي في ايجاد افق للأزمة الراهنة ـ أزمة الحكم ـ دون ان نقع في سعينا هذا ـ الذي ربما لن يرى ـ في فخين ، أو فخ يقود بإمتياز الى الفخ الاخر ، أو قل دون أن نلج في حالة مفخخة بالكامل على طريقة "خط الفخاخ" للكاتب اليكسي زينتنر
وتكمن هذه الحالة تحديدا في كيفية التغيير الذي نسعى اليه ونرى فيه التغيير الامثل والتحول الاكمل الذي يحفظ اللحمة الوطنية "كاملة" من التشظي ويدفع بها الى الامام نحو افق جديد ، وينتج حلولا عادلة للمشاكل المختلفة للعناصر المختلفة التي تشكل الوطن لتكون نواة لـ"مشروع وطني" ، لنصطدم حينها بخارطة الحل التي تقدمها الولايات المتحدة التي هي لا تحمل تلك الحلول العادلة ،وفي ذات الوقت يجد استجابة له من القوى الحاكمة وتفاعلا في ذات الوقت من اجزاء واسعة من احزاب المعارضة الرسمية والتي للأسف الشديد بدلا من ان تطور موقفا او إطروحة وطنية تشكل أساسا لرؤية وطنية خالصة لـ"فجر الخلاص" وترياقا في ذات الوقت للمشروع الامريكي وللذمم المؤمركة التي تسوق ذات البضاعة الأمريكية وتقدمها لـ"نا" كمشروع وطني خالص ، بدلا من ذلك انخرط الكثير من تلك القوى ليكونوا جزاءاً من المشروع الامريكي وادواتاً لخارطةِ الطريق الامريكية إن تحقيق أهداف (العدالة الاجتماعية، الكرامة الوطنية، احترام حقوق المواطنين الديمقراطية) كما يقول المفكر سمير امين يقتضى إدراك وجوب الخروج من المأزق المزدوج الوجه، أى مأزق الليبرالية الاقتصادية المنفلتة والخضوع للإملاءات الأمريكية. علما بأن وجهى التحدى لا ينفصلان.
غير الكثير من القوى التي تتصدر المشهد المعارض الان تبدو متماهية مع المشروع الامريكي بما في ذلك قوى ترفع شعار مناهضة الرأسمالية والعداء للايدولوجية الامريكية ، هذه القوى تحولت عن ذلك الموقف والقت راياتها المناهضة تلك وانسجمت تماما مع المشروع الامريكي المعولم ، بالتالي فإن ما يجمع تلك القوى والنظام الحاكم هو الانصياع والتسليم الكامل للمشروع الامريكي ، فالجميع الان يدخلون افواجا وافرادا داخل من باب هذا المشروع والخارطة الامريكية للتسوية السياسية في السودان.
وبالامس جاءت تلك النخبة السياسية لتستمع الى خطاب البشير الذي سبقته تصريحات لاركان من النظام تبشر بالتغيير والاصلاح وان كل تلك المعاني سيتضمنها الخطاب ، ولكن الخطاب لم يقل شيئا وفي لا قوله هذا تنعكس الازمة كلها بشكل جلي ، الخطاب كان أزمة تعبر تماما عن الأزمة الخانقة وانسداد الافق  بالتالي كان الخطاب هو الاخر ازمة "خطاب الازمة" والواضح ان السلطة الحاكمة تدري جيدا انها لن تستطيع ان تمضي في ادارتها وطريقه ادارتها لتلك الازمة التي صنعتها اكثر من ذلك وبالتالي هي تريد المضي في خارطة الطريق التي وضعتها الولايات المتحدة باشراك كل القوى السياسية الا من أبى ، والواقع اننا كنا مخطئون كثيرا عندما ظننا ان النظام يسعى لمصالحة فقط مع القوى التي تحمل برامجا وتوجهات اسلامية "تحالف اهل القبلة" ربما كان ذلك صحيحا في وقت مضى لكن فيما يبدو ان الحكومة تعمل الان وفقا للخارطة الامريكية الجديدة التي تريد ان يدخل فيها الناس جميعا بما في ذلك الحركات التي تحمل السلاح "الجبهة الثورية" المؤلفة من الحركة الشعبية ـ شمال وحركات دارفور . ويقول تقرير معهد السلام الامريكي الصادر حديثا ان من الاخطاء التي ارتكبت في السابق من اتفاقات كونها جرت بين الحكومة وحملة السلاح وتجاوزت المعارضة المدنية ويقول التقرير ان من اجل انجاح التفاوضوالحوار الوطني لابد من اشراك المعارضة السياسية التقليدية والمجتمع المدني ، لكن في ذات الوقت تبدو الحكومة مترددة بعض الشيء في المضي الكامل في ذلك الطريق حيث ان امان بعض اركان النظام وعلى رأسهم الرئيس البشير ارتبط بالسلطة ولا امان لهم خارجها خاصة فيما يتعلق بالقصاص والجرائم التي ارتكبها النظام ، فالنظام يخشى طرح قضية المساءلة والمحاسبة ، وهذا ما اقره الموجز او تقرير معهد السلام الامريكي عندما قال ان البشير ونظامه لا يستسيغان اية عملية تنتهي باختفائهم من المشهد خاصة في ظل سيف المحكمة الجنائية المسلط على رقبة النظام ، ويقر الموجز ان التسوية في هذا الاتجاه لم تكتمل . وربما تكتمل التسوية عبر بث تطمينات قوية للبشير ونظامه من قبل الولايات المتحدة في اتجاه تجاوز ذلك الملف ،ويبدو أن القوى المعارضة خاصة في المعارضة الرسمية ـ المسجلة ـ لا مانع لدى معظمها في طرح قضية المحاسبة جانبا وذلك بدأ واضحا في اشارات كثيرة ومتوفرة ويحضرني هنا المقال الذي خطه الاستاذ عبد العزيز الصاوي الكاتب المعروف والقيادي بحزب البعث "السوداني" وهو المقال الذي يسير في اتجاه ضرورة التسوية السياسية والتحول ديمقراطيا دون وضع اية عثرات في ذلك الطريق مستشهدا بمواقف ومشاهد من الممارسة السياسية السودانية والاقليمية فهو يقول : قُدمت التنازلات حتي إزاء إطراف بقيت علي ضلالها المقيت. سودانياً، حيث قبل جون قرنق تقاسم السلطة مع الانقاذ في اتفاقية نايفاشا. جنوب افريقياً، حيث بقي مانديلا يفاوض حزب الاقلية البيضاء اربع سنوات وسلم عميلها الاكبر بوتوليزي وزارة الداخلية. عربياً، حيث ينص الاتفاق اليمني تحت التنفيذ حالياعلي تحصين علي عبد الله صالح ضد العقاب" ويبدو جليا ان الكثير من المعارضين الذين "يتعجلون" عملية التسوية يرون في النموزج اليمني قدوة حسنة ويرى الصاوي ان لا داعي للعقاب طالما ان "الجميع" شركاء في الترويج للشمولية :" من كان منا، نحن الناشطين والمثقفين العلمانيين، بلا خطيئة الترويج للشمولية فليرم الاخرين بحجرها. شخصيا، إذا كان لتجربتي أي وزن، لست في وضع يسمح لي بأن اجعل محاسبة الاصلاحيين الاسلاميين قبْليا شرطا شارطا للتعامل الايجابي معهم فقد تعايشت مع نظام الاستبداد العراقي بحكم علاقتي ببعث السودان المنتمي لنفس المنظومة البعثية التي ينتمي اليها بعث العراق … تعايشٌ لايقلل من وزره كونه امتزج بأنتقاد قليل ثم كثير ولكنه استمر زمنا دون إعلان، تبعه نقد مفتوح وجذري" انتهى حديث الصاوي الذي كان يعلق على البيان التأسيسي للحركة الوطنية للتغير التي ابتدرها عدد من المثقفين الاسلاميين . وامام ذلك يبدو ان الكثير ـ حتى لا نقل الجميع ـ يريدون اللحاق بقطار التسوية الامريكي السريع لكل مبرراته التي تخرجه من الحرج ولكن يبقى السؤال : هل التغيير او المساومة السياسية التي تطرحها الولايات المتحدة بهذه الصورة هل ستقود الى تغيير فعلي ام انه تغيير يلامس فقط سطح القضايا ويبقى على الازمة كما هي؟ ، الواقع ان مثل هذا النوع من الاسئلة يشكل حرجا للجمع المتسارع نحو التسوية بخطوات واسعة تتخطى معها الكثير من القيم والمفاهيم التي تسهم حقا في بلورة مشروع وطني بامتياز ، وهذا ظل يشكل الفريضة الغائبة "المشروع الوطني" في عمل تلك النخبة السياسية التي فقدت الاتصال بجماهيرها وصارت منعزلة تماما ، فتحالف المعارضة كمثال يجب ان يقدم كونه يحمل ادعاءات انه المعارضة الاوسع والاكبر ظل يعمل بلا رؤية فكرية حقيقية وبلا مشروع يشكل اختراقا لحالة الانسداد التي نعانيها جميعا ، بالتالي فهي تتقبل وبطيب خاطر كبير ـ كما فعلت من قبل ـ ان تصبح جزءاَ من التسوية الامريكية ، وهي بالفعل فعلت ذلك منذ ان جبت مقررات "اسمرا" بمخرجات "مصوع" المطبوخة امريكيا الى انخرطت في المشاركة في السلطة
ان الخارطة الامريكة او المقترح الامريكي لن يفعل شيئا سوى ان يعيد انتاج الازمة بالابقاء على القوى التي صنعت تلك الازمة ، وهنا يبدو جليا ان الولايات المتحدة لاتبدو مهتمة بشيء سوى الحفاظ على مصالحها ومصالح شركاءها وحلفاءها في السودان ويتساوى في ذلك جماعة الاسلام المصنوع امريكيا وقوى المعارضة التقليدية المخترقة امريكياً
وبالتالي لا بديل للمشروع الوطني اجلا او عاجلا ، لابد من تشكل قوى جديدة تضع في اعتبارها مثل ذلك مشروع ، فالرهان كل الرهان على قوى جديدة بمفاهيم ورؤى جديدة تتجاوز الافكار الشايخة لدى القوى التقليدية للمعارضة التي تتعجل قطار التسوية الامركي السريع
ولنا عودة
alaaddinadwa@hotmail.com
/////////

 

آراء