التسوية والتغيير الجذري .. الحقائق والتصورات المتوهمة والهدر التاريخي لموارد الحركة الديمقراطية السودانية

 


 

حمد الناير
16 December, 2022

 

alnaierhamad20@gmail.com

مدرستان الآن تسيطران على سياسة المعارضة: مدرسة التسوية ومدرسة التغيير الجذري. هذا ليس بجديد على المعارضة السودانية منذ الدكتاتورية العسكرية الاولى الى يومنا هذا. حتى الآن، لم تنجح في تجربة الأمة السودانية اي تسوية مع نظام عسكري، وفي نفس الوقت لم تنجح دعوات التغيير الجذري حتى الآن. عدم النجاح ليس حتميا بالطبع، وكان العامل الحاسم في الفشل في كلا الحالتين قصور المعارضة عن حشد وتعبئة الموارد اللازمة لايصال التسوية او التغيير الجذري الى نهايتهما المأمولة. في زعمي ان الاتجاهين رؤيتان للواقع، تمسك كل منهما بخيوط وتهمل اخرى، وكل من الرؤيتين نتاج لنظرة وخبرة جناها قسم من النخبة السودانية الحزبية، لكنها خبرة مبنية على زاوية واحدة من النظر. في كل مرة، حتى داخل الحزب او التحالف الواحد، في ميله نحو التسوية، تساق حجج معينة على رأسها استحالة التغيير مع توازن القوى الراهن والخوف من تمزق البلاد. بينما تقوم رؤية التغيير الجذري في كل مرة على امل راسخ في نهوض جماهيري مفاجيْ وحاسم سيحدث حتما، يرافق ذلك في الغالب السؤال البلاغي: "الم يحدث منذ قليل؟ الم نقل لكم من قبل؟" التسوية في نهاية الأمر رؤية سياسية وكذلك رؤية التغيير الجذري، وليس من مهمة هذا المقال الحكم عليها اخلاقيا وإنما تتبع وتقصي خلفيات الرؤيتين ودوافعهما. المهمة الثانية للمقال هي تبيان مبلغ الضرر البليغ الذي تلحقه الرؤيتان بالحركة الديمقراطية السودانية واهدار امكاناتها. وهذا بدوره ليس بحكما اخلاقيا وانما حساب مجرد.
تستند هذه الورقة على مفهوم اقتصادي لفهم الحركات الاجتماعية ونشاطها وتبني على ما عرف بمنظور تعبئة الموارد في دراسة الحركات الاجتماعية. لأجل ان تحقق حركة اجتماعية ما اهدافها كليا او جزئيا عليها ان تستغل الموارد المتاحة في مجتمعها على النحو الامثل. الموارد مفهوم واسع، يوازي مفهوم الموارد في الاقتصاد ولكن هنا على مستوي إجتماعي. تتضمن الموارد في حالات الديمقراطيات المستقرة المال والكادر المتفرغ والكادر المتخصص غير المتفرغ، صحافة الحركة والاعلام الذي ينظر اليها بعطف، وعضوية الحركة والمتعاطفين معها، المؤيدين والمؤيدين المحتملين، المؤيدين والمتعاطفين في البرلمانات والأجهزة التنفيذية، المؤسسات الدينية، صناعة السينما والآداب والفنون...الخ . يتمثل مفهوم الموارد في حالة حركة الاحتجاج في مواجهة دكتاتورية عسكرية على سبيل المثال في عدد المنظمات المعارضة -أحزاب، نقابات، جمعيات أهلية- مستوى وحدتها، ( شكلية أم عضوية)، عدد المتظاهرين المنخرطين في الاحتجاج، الكادر الطبي المهيأ لاسعافهم، المحامين المستعدين لفك اسرهم، الصحافة والاعلام المتعاطف مع الحركة، المتعاطفين الذين يمكن تحويلهم الى حيز الفعل، والرأي العام او افئدة المجتمع ..الخ وكما إن الموارد الاقتصادية محدودة ينطبق الحال على الموارد الحركية. الحركة الاجتماعية هي مجموعة مفاهيم وتصورات وترتيبات اجتماعية وسياسية تطمح أن تحل محل الترتيبات القائمة. الحركة الاجتماعية ليست المنظمات والاحزاب، إنما هي الافكار والتصورات والمفاهيم التي تحملها المنظمات والاحزاب. على سبيل المثال حزب الخضر ليس حركة إجتماعية بل هو منظمة تعمل ضمن تصورات حركة اجتماعية يمكن أن تطلق عليها حركة حماية البيئة. وهكذا، فإن الحركة الاجتماعية تتكون من مجموعة من المنظمات تحمل تلك التصورات والمفاهيم بصورة عامة مع اختلافها في التفاصيل والوسائل، لذلك يجب ان نفرق هنا بين الحركة والمنظمة. مجموعة المنظمات تشكل ما يعرف بالقطاع، تماما مثل القطاع في الاقتصاد الذي يعمل في صناعة محددة. هذه الورقة تنظر الى الاحزاب السودانية الفاعلة الآن بما فيها تحالف قحت والحزب الشيوعي ولجان المقاومة كجزء من حركة اجتماعية واحدة تسعي لصناعة الديمقراطية في السودان في نهاية الأمر، لكنها تختلف في تفاصيل الرؤى والوسائل. هذا يعني ان كل حزب منها أو كيان لا يعدو أن يكون غير منظمة وحيدة ضمن حركة إجتماعية تتكون من العديد من المنظمات بينها الاحزاب نفسها وبينها منظمات اخرى ممثلة في نقابات وإتحادات مهنية ومنظمات مدنية اخرى، بمافي ذلك منظمات لجان المقاومة سواء في الخرطوم او كادوقلي . كل منظمة او مجموعة من المنظمات تتفق في الهدف النهائي، لكن لها رؤى مختلفة عن الواقع وتتوسل بوسائل احيانا تراها الطريق الوحيد للوصول الى هذه النتيجة النهائية.
القول بأن هنالك حركة اجتماعية عريضة واحدة تتكون من العديد من المنظمات والتحالفات المختلفة والمُختلِفة مع بعضها يترتب عليه عدة نتائج منطقية هامة: أولا، أن موارد هذه الحركة منقسمة بين كل من منظماتها وان تعبئة هذه الموارد الى الحد أقصى أمر في غاية الصعوبة يقتضي في الاساس تجميع تلك الرؤى المجزؤة للمنظمات المختلفة في رؤية واحدة متكاملة. في لحظات تاريخية نادرة يحدث ذلك ويترتب عليه وحدة عضوية في إستغلال الموارد. ثانيا، أن هذه المنظمات تعمل على نفس الموارد، وتستحوذ على جزء منها وطالما اننا في حيز صناعة الافكار والتصورات والمشاعر الانسانية بصورتها الكثيفة بالغة التعقيد، لا يمكن لمنظمة واحدة أن تستحوذ على كل الموارد المتاحة في مجتمع ما. لذا على الدوام سيكون هنالك جزءا من الموارد يكون في حكم المستحيل الوصول اليه من جانب منظمة ما. مثال ذلك جمهور طائفة او طريقة دينية او عضوية ملتزمة بحزب معين. ثالثا، أن الموارد نفسها وتعبئتها يولد موارد جديدة مثلما يفعل إعادة تدوير رأسالمال. لذا حزم الموارد نفسها والميل نحو تحالف منظمات الحركة الواحدة يعد افضل استخدام للموارد. ولكن بشرط أن تكون وحدتها عضوية (تقدم إنتفاضة أكتوبر 1964 نموذجا فريدا لحزم الموارد بين المهنيين والموظفين تولد عنه تدوير آخر للموارد آخر ولّد بدوره المزيد من الموارد). رابعا، أن هنالك احتمال وارد في هدر الموارد حيث ان عدم استغلالها الامثل أو استنفاد جزء منها دون طائل يسبب الهدر والخسارة وقد يقود الى الإعاقة الطويلة للحركة اجتماعية في مجملها. هذه يعني أن الخمول في حزم وتعبئة الموارد وبقائها في حالة سكون، أو استهلاكها منفردة او مقسمة يتيح فراغ عريض للحركات المضادة التي قد لا تحتاج لكل هذا القدر من الموارد لفرض تصوراتها ويكفيها فقط خمول موارد الحركة الاخرى أو تبددها. خامسا، يترتب على ذلك الانتباه اللصيق للحركة الإجتماعية المضادة. تلك الحركة المضادة هي نفسها تنافس على الاستحواذ على نفس سوق الموارد الذي تعمل عليه الحركات الاخرى، لكن اهم من ذلك ان لها وسائلها في حرمان الحركات الاجتماعية الاخرى من استغلال وتعبئة الموارد. في مثل هذه الحالة لا يجدي الا تكوين الكارتيلات الحركية الكبرى فهي السبيل الامثل لحزم الموارد وتعبئتها.
تزعم هذه الورقة أن اي تغيير حاسم تم في السودان (الانتفاضات وإسقاط الدكتاتوريات العسكرية) كان نتيجة لعمليات معقدة في حزم الموارد وتعبئتها عملت عليها منظمات عديدة من هذه الحركة الاجتماعية نتج عنها تعبئة موارد الحركة الاجتماعية الديمقراطية لحدها الأقصى بما في ذلك ثورة ديسمبر 2018 . ولكن للأسف، بعد كل تجارب اسقاط الدكتاتوريات، توقف حزم الموارد وانفرط عقدها عند توهم الحركة الاجتماعية الديمقراطية الانتصار الكامل، أو فيما بعد، عند تراجع اقسام منها جزئيا او كليا عن تصوراتها عن نفسها كمنظمات في حركة ديمقراطية، حيث اعاد بعضها تعريف الحركة الديمقراطية لتفصل على منظمات بعينها (نموذج ذلك حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان وللمفارقة مفهوم الديمقراطية الجديدة الذي أعتنقه الحزب الشيوعي نفسه لفترة من الزمن). في نهاية الأمر انفراط حزمة الموارد القصوى للحركة الديمقراطية ينشط الحركة الاجتماعية المضادة ويتيح لها تعبئة الموارد المنسجمة مع تصوراتها ونسيج منظماتها.
التسوية تاريخيا ودعوة التغيير الجذري منذ دكتاتورية عبود ونميري وحتى سقوط البشير موجودة في بطون الكتب والصحف ولا اود الرجوع اليها الآن رغم كثافة التوثيق الا بالقدر الضروري لشرح جذورها الآن. اود هنا مراجعة الراهن، وسأبدأ بالنظر الى جذور الاتجاه نحو التسوية الحاضرة للتدليل على انها ليست مفاجأة وانما لها جذورها الفكرية، اي انها رؤية املتها خبرة محددة للنظر الى الأفق السياسي في لحظة ما واملتها حسابات مما يعني انها قابلة للتغير والتعديل، وقابلة للصواب والخطأ وقابلة للنقد، حتى من قبل اصحابها، مثلما حدث من قبل في تسويات كبرى مثل المصالحة الوطنية 1977 ومثل ما حصل بعد مشاركة العديد من الاحزاب في برلمان الانقاذ بعد اتفاقية السلام الشامل عام 2005. بعد ذلك سأتناول نظرة التغيير الجذري واحاول تلمس الدوافع لها، فقد كانت في الماضي أمل رومانسي، بل كانت كطيف يطل كل مرة في المنعطفات التاريخية الوعرة، وفي كل مرة يستيقظ دعاتها وفي كل مرة يراجعون حساباتهم في واقع عصيب يستدعي اصطفاف مختلف لا يرقى الى الجذرية ويقولون لشعبهم: "حبا وكرامة، لنبدأ من جديد." إذن هي ايضا نظرة قابلة للصواب والخطأ وقابلة للنقد من قبل اصحابها مثل ما حدث من قبل. فوق كل ذلك، إن غرضي الاساسي من هذا المقال ربط رؤى الاتجاهين بإشكالية تعبئة وحزم الموارد في دراسة الحركات الاجتماعية واثرها الحاسم في إنتصارها او هزيمتها.
في نظري الى جذور رؤية التسوية الحالية ورؤية التغيير الجذري الراهنة اود تناول رؤيتي حزب المؤتمر السوداني والحزب الشيوعي السوداني كنموذجين في قلب المدرستين النقيضتين واود أن ابين إنهما يصدران من منبع واحد في قراءة الواقع رغم اختلاف النتائج. ليس من سبب وراء اختياري هاتين المنظمتين غير دقة وسخاء التوثيق لديهما. فقد تميز المؤتمر السوداني بأدبيات منشورة وكذلك الحزب الشيوعي وذلك قد يعين في تلمس جذور المدرستين ودوافعهما الراهنة، وقد يتاح لنا الاقتراب ولو خطوة واحدة خجولة نحو الحمض الننوي لأزمة الحركة الديمقراطية السودانية المكلومة وتبدد مواردها.
فيما يتعلق بالمؤتمر السوداني، برزت جذور الاتجاه نحو التسوية في صراع فكري داخل هذا حزب دار في اوائل عام 2018 وربما قبل ذلك حيال قرار الحزب نحو خوض الانتخابات في 2020 ، تلك الانتخابات التي قطعت عليها ثورة ديسمبر الطريق ولم تتحقق. وحقيقة تميز هذا الصراع بالحيوية والشفافية، وقد اشرك حزب المؤتمر السوداني جمهوره والجمهور العام ووسائل الإعلام في هذا الصراع المكشوف وكان تتويج فعاليات الحزب لحسم هذا الصراع مناظرة مشهودة بين اثنين من قادة الحزب هما خالد عمر، الأمين العام للحزب فيما بعد، الذي كان يدافع عن المشاركة في انتخابات الإنقاذ والقائد عادل بخيت الذي كان يقود تيار مقاطعة الانتخابات. في نهاية الأمر انتصر تيار خالد عمر وقرر الحزب خوض الانتخابات. كانت حجج خالد عمر متماسكة واداءه رائع كقائد ذو رؤية راسخة وقد استطاع الدفع بحججه على نحو تحولت فيما بعد الى قرارا للحزب في خوض الانتخابات. لا ضير في ذلك، ففي نهاية الأمر هي رؤية تحقق لها الانتصار في ذلك الوقت بوسائل ديمقراطية داخل حزب سوداني، لكن في الواقع، ومن ناحية تاريخية، انتصر خيار عادل بخيت المهزوم آنذاك وكانت حججه ودعوته ما اثبت التاريخ صحتها، إذ لم تقم الانتخابات اصلا وسقط النظام بنفس الوسائل التي دعي اليها عادل بخيت بعد أشهر قليلة. التاريخ لا يحاكم ب(لو) وقد كانت النظرة المهزومة قراءة صائبة للواقع على نحو ما. ليس في هذا تقريظ لرؤية عادل بخيت، وليس في ذلك ادانة لرؤية خالد عمر فهي رؤية للواقع بل ان لها سابقة تاريخية في ظروف مشابهة تمثلت في دعوة الحزب الشيوعي للمشاركة في انتخابات المجلس المركزي أبان دكتاتورية عبود، وبغض النظر عن نقد الحزب الشيوعي لتلك التجربة، فقد كانت حجج المشاركة في انتخابات المجلس المركزي شديدة الشبه بحجج خالد عمر للمشاركة في انتخابات 2020.
قد يقول قائل ان المشاركة في الانتخابات ليست تسوية، وهذا صحيح جزئيا – رغم اني ازعم ان في هذا الموقف يمثل جذور نظرية التسوية – لكن لنذهب بالحجة المضادة الى نهايتها: لنقل انك نجحت في تعرية النظام الى حد انحسار نفوذه في عدد من الدوائر، ونجحت في دورة انتخابية تالية في تكوين اقلية حاسمة لابد ان تشارك في السلطة. في نهاية الأمر هي تسوية من نوع ما وتحوير للنظام القائم. ليس في هذا إدانة للتسوية من حيث المبدأ فهنالك تسويات تاريخية عادلة مثلما حصل في تفكيك النظام العنصري في جنوب افريقيا. ولكن من ناحية اخرى إذا نظرنا الى جوهر المشاركة في إنتخابات نظام دكتاتوري، سواء من قبل المؤتمر السوداني الان او من قبل الشيوعي قبل اكتوبر 1964، فهو نقيض للإنتفاضة السودانية التقليدية التى لم ترض لا بمجلس مركزي او اتحاد اشتراكي او برلمان إنقاذي. جوهر التسوية، في أحسن الفروض، هو مواجهة الأمر الواقع كما رأه قسم من النخبة في محاولة لاختراقه في خضم قانونين وشروط خلقها النظام القائم.
لكن لنرجع الى البداية ونحاول الإجابة على السؤال: ماذا يدعو لاقتراح التسوية في الاساس؟ الإجابة هي دون تردد اليأس من التغيير حسب المعطيات المتصورة – اقول المتصورة وليست الماثلة. وربما الإرهاق بعد هزيمة ما، الارهاق الذي من الممكن أن يصيب اقسام من النخبة. على سبيل المثال، جاءت المصالحة الوطنية مع نظام نميري بعد هزيمة عسكرية ماحقة فيما عرف زورا وبهتانا باحداث المرتزقة عام 1976 ، تفككت الجبهة الوطنية وضربتها الخلافات وقد تملك قادتها اليأس من العمل الجماهيري المدني باكرا منذ انتفاضة شعبان 1973. إذا رجعنا الى حجج خالد عمر في المناظرة المذكورة لوجدنا نفس المناخ السياسي فقد اشار الى عجز احزاب المعارضة بما فيها حزبه وقال انها تعاني من عزلة جماهيرية لضعف ادواتها وبعد خطابها من الجماهير، بل سخر خالد عمر من مقدرتها على حشد الجماهير حيث قال انها وبعد وحدتها في فبراير 2018 ودعوتها للتظاهر ضد الغلاء لم يخرج سوى الف متظاهر من 30 مليون نسمة. هذا صحيح، ولا أظن ان أحد يستطيع ان ينازع خالد عمر في وصف حال الاحزاب آنذاك. في نهاية الامر، هذه رؤية للواقع تحمل تصورات امسكت ببعض خيوط الحقيقة وافلتت منها خيوط. وفي حقيقة الامر قد تحققت انتفاضة كبرى اطاحت برأس النظام وكذبت رؤية خالد بعد اشهر معدودة ، لكنه كان محقا في وصفه للأحزاب التي لم تكن مستعدة وكان يرى جزءا من الحقيقة . في رؤية خالد، شاء ام ابي، تركيز على النخبة الحزبية وقياس للنهوض الجماهيري بإستعداد الاحزاب لحشد الجماهير وتعبئتها. ورغم نقد خالد عمر للأحزاب وسخريته منها إلا انه كان يرى إن انخراط النخبة الحزبية في العمل المدني وإقتراب خطابها من الجماهير على حد تعبيره سيقود الى نهوض جماهيري. هذه نظرة صحيحة إذا أخذناها في معزل عن ديناميات اخرى، وخاطئة تماما في إهمالها لمبادرات اخرى من الحركة الجماهيرية في منظماتها الاخرى -غير النخبة الحزبية. ولكن لنقف هنا قليلا، أليس حجج خالد كلها تنصب على حشد وحزم الموارد؟ (الف نسمة من 30 مليون، احزاب تعاني من عزلة جماهيرية بما في ذلك حزبه، المشاركة في الانتخابات فعل مدني يقود الى نهوض). إذن كيف حدثت انتفاضة بعد اشهر قليلة من هذا الركود؟ كان نشاط الاجسام النقابية الموازية لنقابات السلطة آنذاك، ممثلا في تجمع المهنيين والحركة المطلبية، في اوجه. و كانت حركة الشباب المدنية تمور بالتيارات والاستعداد للبذل والفداء منذ هبة سبتمبر 2013. وقد كانت ازمة النظام في قمتها وقادت ازمته الى اخطاء لا يمكن تفاديها وتم حزم كل هذه الموارد كليا عندما توحدت الاحزاب السودانية في قوى الحرية والتغيير في لحظة ما ليسقط رأس النظام. تم ذلك بحزمة فريدة من حشد الموارد لحدها الاقصى شاركت فيها الاحزاب متحدة والأجسام الموازية لنقابات السلطة ممثلة في تجمع المهنيين وحركة الشباب. إذا سحبت اي من هذه المكونات من هذه المعادلة، لما تحققت الانتفاضة. إذا نظر القاريء الى كل حدث منذ ديسمبر 2018 الى انقلاب 25 أكتوبر 2021 لوجد الصلة القوية بين حزم وتعبئة الموارد والنتيجة المترتبة. خذ فض الاعتصام على سبيل المثال كمثال لكرومسوم يمثل كل ما حدث بعد ذلك. لم يتهيأ للجنة الامنية فض الاعتصام عندما كان يؤمه مئات الالاف من السودانيين، هذه موارد تدفقت من كل مجرى من انهار الحركة الديمقراطية السودانية، وكانت ذات صلة لا فكاك منها بالضمير الجمعي، وفضه وهو في عنفوانه كان يعنى كارثة محققة للجنة الامنية. كان الاعتصام قمة في حزم الموارد آنذاك. ولكن عندما نحل وضمر جسم الاعتصام وصار يسكنه بضع مئات وتراخت قبضة التعبئة لاسباب شائكة منها خواتيم الشهر المبارك وقبلة العيد تم فضه. تراجعت اللجنة الامنية عن التفاوض عندها، ولكن لما تمت جولة اخرى من حزم الموارد تمثلت في مواكب 30 يونيو غير المسبوقة في حجمها وتصميمها عادت اللجنة الامنية للتفاوض ووقعت الوثيقة الدستورية. واقع الأمر كان فض الاعتصام محاولة الانقلاب الأول. وقس على ذلك الاحداث فيما بعد بما فيها انقلاب 25 أكتوبر نفسه. للاسف لا يزال تركيز قسم من النخبة الحزبية على سياسات تنظر الى النخبة الحزبية فقط رغم أن الدرس الاساسي لإنتفاضة ديسمبر 2018 وقبلها من الانتفاضات انه في سبيل تغيير لابد من حزم وتعبئة موارد الحركة الديمقراطية من مصادر ومنابع متعددة ولابد من استمرار حزمها الى النهاية . الأحزاب ستلعب دورها ومنظمات الحركة الديمقراطية الاخرى ستلعب دورها ولجان الشباب ستلعب دورها في التغيير ولكن ليس بمعزل عن شعبها وليس في معزل عن بعضها البعض.
أما رؤية التغيير الجذري التي يمثلها الحزب الشيوعي فهي في نهاية الأمر لا تختلف في منبعها من حيث النظر الى النخبة الحزبية واحتقارها. ولكنها تنتهي الى رؤية مخالفة بنيت على تجربة الشيوعيين والجزء الذي يرونه من الغابة. تنطلق رؤية الجذريين من نفس الحقيقة وهي ضعف النظام الحزبي لكنها تنتهي الى محقه وتجاهله ووصمه بالفشل والبراءة منه وإنتظار الجماهير دون احزابها. لنبدأ القصة من اولها: بعد مشاركة الحزب الشيوعي المشهودة مع بقية الاحزاب في الانتفاضة جاء تراجعه غير المنتظم عن العمل مع الاحزاب الاخرى، بل حمل تناقضا كبيرا يحتار المرء فيه. إضطراب رؤية الحزب الشيوعي تمثلت في وثقتين كل منهما حملت وجهة نظر نقيضة للاخرى وقد صدرت الوثيقتان من نفس القيادة. الوثيقة الاولى تضمنت نقدا ودعوة لحزب الأمة لمراجعه موقفه من تجميد نشاطه في قوى الحرية والتغيير، بينما حوت الوثيقة الثانية انسحاب الحزب الشيوعي نفسه من قوى الحرية والتغيير وتحوله الى معارضة التحالف بل الخصومة معه. في الوثيقة الاولى التي صدرت في مايو 2020 انتقد الحزب الشيوعي موقف حزب الامة حيال تجميد عضويته في تحالف قحت وحذر من مغبة انقسام قوى الثورة الذى بدوره سيساعد اعداء الثورة من الفلول ويعرض مكاسب الثورة الى الخطر واشار الحزب الشيوعي بكل حرارة الى أن المهم في هذا الوقت وضع الهم الوطني العام فوق كل "مصالح ومطامح اي فيئة كانت ..الخ". هذه الرسالة الحارة امسكت بتلابيب الحقيقة في نظرتها للموارد وركزت بشكل خاص على جماهير حزب الأمة وتضحياتهم كمورد اصيل في جماهير الانتفاضة. لكن، للاسف لم يلتزم بهذه الرسالة الحارة الحزب نفسه عندما اعلن بعد ستة اشهر انسحابه من قحت. بل ضرب عرض الحائط بكل المحاذير والنصائح التي اسداها لحزب الأمة فيما يتعلق بحزم الموارد وراح يعدد عجز الاحزاب عن تنفيذ سيايات بعينها. في نهاية الأمر ينتظر الحزب الشيوعي من الجماهير أن تكسر طوق انتماءاتها المختلفة وتنعطف نحوه. فضل الحزب الشيوعي انتظار الجماهير على ناصية الشارع دون احزابها. يشجع الحزب الشيوعي على ذلك، في تقديري، ان المقاومة لم تجف دماؤها بعد وان حركة الشباب في عنفوانها وان الثورة ممكنة. يشجع على ذلك تاريخ تليد للحزب الشيوعي في التبشير بالثورة وايمان لا يتزحزح بجماهيرها. في إعتقادي أن حركة شباب المقاومة ببسالتها المشهودة شكلت عامل تشويش لقيادة الحزب الحالية مع خبرة الشيوعيين الطويلة كشاهد على نهوض الحركة الجماهيرية وانحساراتها المريرة لسنوات طويلة عبر العقود وهاهو الآن يرى تلك البسالة اليومية كأنها تبشير بتلك الطاقة النبيلة الكامنة للشعب التي ظل الحزب يبشر بها منذ تأسيسه. أهملت القيادة الحالية للحزب ديناميات إجتماعية كان قادته التاريخيين هم الذين اماطوا اللثام عنها الا وهي ضرورة الجبهات العريضة في التغيير. الضيق بالاحزاب جعل الحزب الشيوعي يتناسي تكاتيكاته المجربة في بناء جبهات الاحزاب وانخرط في التبشير بثورة عصية القانون اثبت التاريخ مرارا وتكرارا أن توافق الاحزاب عامل حاسم في اكتمال دوراتها مهما كان حكمه على هذه الاحزاب وتجربته معها. هل كان هنالك هبوطا ناعما أكثر من المصالحة الوطنية عام 1977؟ ومع ذلك، واصلت قيادة الحزب الشيوعي آنذاك صلاتها وتحالفاتها مع الاتحاديين وحزب الامة في النقابات الى ان حانت انتفاضة 1985 وجلس معهم دون منّ ودون أذى. واخيرا يحيرني بكل صدق فهم ميكانيكي تلبس قادة الحزب وكُتابه في تفسير قوانيين الديالكتيك المادي تمثل ذلك في ابسط قوانينه: قانون التراكم الكمي والتحول النوعي.
صحيح ان الحزبان، حزب المؤتمر والحزب الشيوعي، يتفقان على ضعف النظام الحزبي لكن الخط الذي انتهجه كل منهما ليس واحدا. بينما يرى حزب المؤتمر الجماهير ككتلة صماء تقودها النخبة ممثلة في احزابها للولوج في تسوية اليوم مع الانقلاب من اجل التفكيك التدريجي لنظام الانقاذ، يرى الحزب الشيوعي في الجماهير كتلة صماء ستيقظ يوما ماعلى صوته ليقودها نحو التغيير الجذري. خطر هذه الرؤية الاحادية كلف وسيكلف الحركة الديمقراطية الكثير. خذ على سبيل المثال انقسام تجمع المهنيين واثره المدمر على الحركة النقابية: لم يحدث هذا الانقسام لخلاف بين نقابيين مهنيين انما بين نقابيين حزبيين. تبع كل من الجناحين رؤية حزبية. اثر انقسام تجمع المهنيين والتمترس في الرؤية الحزبية الاحادية فاقم من تحطيم الحركة النقابية وتشرذمها: هل يعقل بعد ثلاث اعوام من الانتفاضة أن يظل الاطباء مشتتين في ثلاثة اجسام شبه نقابية؟ وكذلك الحال بين المهندسين والمحامين وغيرهم من المهنيين؟ هل يعقل، بعد ثلاثة اعوام، أن تنجح ثلاث نقابات فقط في عقد جمعياتها العمومية (الصحافيين، اساتذة الجامعة، والتشكيليين) ؟ لا ارى سببا لقعود الحركة النقابية غير التمترس في الرؤي الاحادية للسياسيين الحزبيين.
جناح التسوية وجناح التغيير الجذري يرون فقط ما يريدون رؤيته مهملين الحقائق الماثلة امامهم. لولا حركة الشباب وتجمع المهنيين لما كانت هنالك ثورة وبنفس القدر لولا النفوذ الاخلاقي للاحزاب السودانية على ضعفها لما اكملت الثورة هذا القدر من المشوار. اين الحل أذن؟ الحل يكمن في الوعي بأنك خالى الوفاض من جل الموارد وعاجز عن تعبئة الموارد الى حدها الأقصي ولن تنجح لك تسوية، وانك خالي الوفاض من جل الموارد وعاجز عن تعبئة الموارد الى حدها الأقصي و لن تدرك تغيير جذري. الحركة الاجتماعية المضادة لا تعمل فحسب على حشد الموارد هي الاخرى، بل تعمل بقصد وتخطيط لحرمانك من حزم وتعبئة الموارد. الحل يكمن في الصبر على تمرين الديمقراطية، في المقدرة على العمل مع الآخر رغم الاختلاف معه. إدراك أن خلافاتك كاللعنة تهدر مواردك وفي نفس الوقت تشكل مورد ووقود للحركة المضادة. الحركة الاجتماعية المضادة هي نفسها تصورات ومفاهيم، غض النظر عن دوافعها، تسعى لحشد الموارد، وغياب الموارد من طرفك كسبا لها. التمسك بتسوية شحيحة تقودها نخبة حزبية او تغيير جذري مبني على نهوض جماهيري في رحم الغيب لا يجدي. الحل يكمن في الايمان بكل اقسام الحركة الديمقراطية السودانية وقدرتها مجتمعة على تعبئة الموارد لحدها الاقصى، إدارك أن قانون الثورة السودانية منذ أكتوبر 1964 وحتي ديسمبر 2018 هو فن حزم الموارد وتعبئتها لحدها الأقصى.

 

آراء