تداولت بعض الصحف ووسائط التواصل الاجتماعي خبرًا يفيد باعتقال المتطرف مزمل فقيري، بل وتقديمه للمحاكمة بتهمة الردة، ومن ثم، تعريضه لأن يستتاب بواسطة "العلماء"، كما حدث للجمهوريين في عهد نميري، وكما حدث للنيل أبو قرون، في العقد الأول من عهد الإنقاذ. الغريب أن المدعي الذي قام بفتح البلاغ في المتطرف مزمل فقيري، كما ذكرت الصحف، منسوب إلى التصوف. ولم يُعرف عن المتصوفة، في كل تاريخهم الطويل، إنهم يكفرون الناس، أو إنهم يقدمونهم المحاكم، ناهيك أن يقدمونهم بتهمة "الردة". الشاهد هنا، أننا نعيش الآن فترة انحطاط شاملة في الروحانية، وفي الوعي الديني، وأصبح غائبا عنا، تمامًا، ما ينبغي أن يكون عليه الخطاب الديني. ويبدو أن حالة الانحطاط الدينية الشاملة، والغرق في مستنقع المكايدات المذهبية قد جرفت الجميع، بما فيهم المتصوفة، فجعلتهم يثأرون لأنفسهم، شأنهم شأن العامة.
التصوف، كما هو معروف، لا يرتكز على شريعة القصاص، وإن كان القصاص مسموحٌ به في الشريعة. يقوم التصوف الحق، على التسامي على شريعة القصاص، والالتزام بشريعة العفو التي حضت عليها روح الدين، في العديد من آيات القرآن، ومنها على سبيل المثال: "الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ، وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين". لكن يبدو أن الحابل قد اختلط بالنابل، ولم يعد هناك فرقٌ يُذكر بين وهابي، وفقيه، وصوفي. فقد ركب الجميع في ذات المركب الغارق. ولقد هيأ الاسلاميون الجو لهذا الغلو، منذ أن حشروا مادة للردة في قوانين السودان، منذ ثمانينات القرن الماضي. وهو حشرٌ قصد منه إخراس الأصوات المعارضة لحكم الإسلاميين، خاصة تلك التي تخرج من منطلق ديني. وكما تقول العرب: "تلك شنشنةٌ قديمةٌ نعرفها من أخزم". فقد استخدم سيف الردة سياسيًا، منذ العصر الأموي، مرورًا بالعصر العباسي، إلى أن بلغ انحطاط المسلمين أوجه، على يد العثمانيين.
ظل المتطرف مزمل فقيري مطلق السراح، يخاطب تجمعات الناس في الشوارع والميادين العامة، ومعه آخرون ممن يشبهونه، ولا يجدون من يعترض على أساليبهم الغثة في التطاول على الناس والتحرش بهم، وفي مجافاة أحاديثهم للآداب العامة، وللذوق السليم، ولأبسط قواعد التحضر والتمدين. ظل مزمل فقيري يصول ويجول في أعراض الناس في الشوارع والميادين العامة ردحًا من الزمان، دونما تضييق ودونما مساءلة. هذا في حين لا تستطيع نخب الأحزاب السياسية المسجلة، والمصرح لها بالعمل، أن تمد رؤوسها خارج حيشان دورها. وهذه واحدة من مفارقات الانقاذ العجيبة.
حرية مزمل فقيري في نشر الحديث الغث، وخروجه على ما عُرف بالضرورة من آداب المسلمين العامة، وإصراره على تحطيمها بتكفير الأموات، بأقذع العبارات، لم تقلق السلطات، ولم تحرك فيها ساكنا. وبدا وكأن حلفا سريًّا قائما بينه ومن يشبهونه، وبين السلطات. هذا الحلف أو الاتفاق الصامت، هو ما ظل يضمن له تلك المساحة الواسعة من الحرية الفالتة.
المدهش في الأمر، أن المملكة العربية السعودية أخذت تضيِّق السعودية على الخطاب المتطرف، وتقيِّد سلطات ما سميت "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، بل، وتسمح بقيادة النساء للسيارات. كما أخذت المؤسسة الدينية السعودية الرسمية، تتراجع عن عقائدها المعلنة، منذ زمان طويل، فتعيد صياغتها وتجعلها متناغمة مع السياسات الجديدة للحكومة السعودية. أما في السودان، فيُولد فيه الآن، ما وُلد في السعودية قبل قرون. يصعد الآن، في السودان، وبصورة انفجارية، خطاب متطرف، في بيئة شديدة التنوع. ولقد أحال هذا النشاط المحموم، فضاء العاصمة السودانية إلى أتونٍ ملتهبٍ من العصاب الديني، الذي لا ينقطع زعيق المهووسين فيه ليل نهار، وكأن صنع الحياة لم يعد يتعدى الشعائر والمظهر الديني. فهل كانت مكة أو المدينة، في الصدر الأول، بهذه الصورة؟
ساد الخطاب الديني المتطرف، والرقابة الدينية المتطرفة، في السعودية لقرنين، ويزيد. وبعد تجربة طويلة، تجد السعودية نفسها مضطرة؛ داخليًا، وخارجيًا، لتراجع هذا النهج، ولتكبح جماح هذا الخطاب التبسيطي الساذج الفالت. بل وتذهب لتراجع مناهج المدارس وتنقّيها مما تحمله من بذور التطرف والعنف والكراهية. ولكن في الوقت الذي تحتفل فيه الأوساط الحكومية السودانية برفع العقوبات، والإخراج من قائمة الدول الراعية للإرهاب، والاندماج من جديد في المنظومة الدولية، نجدها تاركة الحبل على الغارب للمتطرفين، ليخربوا عقول الشباب، وليسمموا الشارع العام، وليحطموا مواريث التسامح والتعايش السلمي، وليخلقوا قنابل موقوتة، لا يعلم أحد متى ستنفجر بكامل طاقتها التدميرية، لتحرق الأخضر واليابس، كم فعل تنظيم الشباب في الصومال حتى اضطر المتصوفة إلى حمل السلاح للدفاع عن مراقد أوليائهم.
تناقلت الصحف ووسائط التواصل الاجتماعي أن هناك مجاميع من المتطرفين أصبحت تأتي على ظهور سيارات جديدة، لتتحدث من خلال مكبرات الصوت، وتتحرش بالشباب وهم يمارسون حياتهم الاجتماعية العادية، في المقاهي، وفي سائر أماكن التجمعات، في أحياء الطبقة البرجوازية في العاصمة الخرطوم. وكأني بهؤلاء يريدون أن يستعيدوا في السودان ما أصبحوا يفقدونه، وباضطراد، من أراضٍ في السعودية. ولم يُعرف بعد، ما إن كانت هذه الجماعات، جماعات أهلية، أم أنها تتبع لجهة رسمية. وعمومًا لم يعد أحد في السودان يعرف، من يتبع لمن.
كثيرا ما تستخدم السلطات الجماعات الدينية لأغراض سياسية، من أجل خلق توازنات بعينها. فعلت السعودية هذا لترسيخ أقدام نظامها الملكي، وفعل السادات هذا مع جماعات الإخوان المسلمين، وفعل ذلك نميري مع الحركة الإسلامية السودانية. وقد اتضح عمليا خطأ كل تلك التحالفات التي وقف وراءها الغرض السياسي الآني، وقصر النظر الاستراتيجي. فبناء الدول لا يكون بمثل هذه السياسات الذرائعية الموقوتة. وأخطر هذه السياسات الذرائعية، لتلك التي يجري فيها استخدام الخطاب الديني المتطرف والجماعات الدينية المتطرفة. نحن نمر الآن بمنعطف تاريخي بالغ الخطورة، يقتضي من السلطات الحاكمة كبح جماح الخطاب المتطرف، وإعادة الحريات إلى الفضاء العام. فقد أخرست السلطات أصوات العلماء والعقلاء، في الفضاء العام، وأطلق السراح لأصوات الجهلاء والمتطرفين. وليتذكر من اختاروا هذا النهج، أن غول التطرف، حين يشبُّ عن الطوق، يبدأ بالتهام من قام بتربيته.
elnourh@gmail.com