التعايش مع الفساد والتطبيع مع الفاسدين

 


 

 

من لم يكن لديه معايير لتقييم الأشياء، فهو بلا شك سبهلل، ومن ليس لديه "قشة مُرة" بالتأكيد هو عديم الأخلاق، ومن يرى أنّ السياسية لا تعرف الأخلاق، قطعا "ما عارف أيّ حاجة"، فإنما الأمم الأخلاق ما بقيت... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا، وما من أمة اكتفت بأضعف الإيمان، إلاّ وذهبت ريحها وتلاشت.
وهذه أخطر حالات الوهن والضعف التي تصيب أي مجتمع، إذ أنّ التسليم الشعبي بضرورة التعايش مع الفساد، ليس سوى اعتراف ضمني بانتصار الفساد اجتماعياً ومؤسساتياً، ونعي لقيم كثيرة عاش عليها المجتمع وضحى من أجلها.
نقل عن الحكيم غاندي أنّ أكبر خطأ في الحياة " أن تتنازل عن مبادئك".
من المؤسف أن تبلغ بلادنا شأواً عظيماً في الفساد، حيث يصنف السودان ضمن عشر دول أكثر فساداً في العالم، أي أنّ حوالي 183 دولة في العالم، من جملة 193 مسجّلة لدى الأمم المتحدة، هي أفضل منا أمانة ونزاهة وشفافية! وهذا الأمر متناقض حد الإدهاش مع سمعتنا كسودانيين في الخارج. وتعتبر الحرب على الفساد من أهم عوامل نجاح التنمية الشاملة.
ألا يتخيل الغارقون في بحر الفساد حجم الخطيئة التي يرتكبونها بحق هذه البلاد والعباد؟ حين يسرقون منهم جهارا ونهارا فرصة العيش الكريم وتركوهم يهيمون في متاهات البطالة القاسية والفاقة المرة؟ وعندما يمدون أيديهم للمال الحرام، ويستغلون المناصب والصلاحيات، في الاحتكار، والتوظيف بالمحسوبية، والمحاباة في الترقيات، وتغليب المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، والتوريث الوظيفي؟
مخطئ من يظن أن رحيل نظام، وإبدال منظومة، سيصحح سلوك الفاسدين في أجهزة الدولة، ويضع حداً للتجاوزات وسيكشف ستر المعتدين للمال العام، المتلاعبين بالمال الخاص، ويسئ التقدير من يعتقد أن سنّ تشريعات وحدها، قد يردع الشرهين للمال الحرام، أو تقتل المحسوبية، وتوفّر فرص عمل عادلة، تنعش جيوب الفقراء، أذ أن حسب مختصي علم الاجتماع أنّ الفساد كنوع من الأمراض المجتمعية، ذات علاقة طردية بالمستوى التعليمي، فكلما أرتقى التعليم كيفا وكمّا، ارتقى الحس الرقابي للأفراد، وتفتّقت المدارك للكشف عن الفاسدين ومحاصرتهم.
ولما تراجعت مستويات التعليم في بلادنا، أنفتح الباب على مصراعيه لصعود الانتهازيين، وطالبي الثراء السريع، وخفت صوت العقل، وتراجعت ثقافة المحاسبية، وتآكلت الموروثات الاجتماعية النبيلة، وحل محلها الزيف والوصولية والجلافة والتباهي المقرف بالثراء الحرام، وما لبثت المجتمعات أن تقبلت هذه الأمراض المجتمعية وتعايشت معها!
ومما يساعد على تفشي ممارسة الفساد، وجود أفراد نافذين لا يطالهم القانون، أو تفشي ما يسمى بالعدالة الانتقائية، وفي هذا الخصوص يشير د. النور حمد في كتابه (العقل الرعوي) إلى أن التعايش مع الفاسد، والنظر إلى الممارسات الفاسدة كأمر طبيعي، وبل وعدّها أحياناً ذكاءً ودهاءً و"شطارة" ويضف، يضاف إلى ما تقدم عدم الترحيب بالنقد بل السخرية من النقد، الذي يقدمه من ينادون بضرورة التقييد بالقوانين والضوابط الإدارية ومراعاة قواعد الشفافية".
الفاسدون متواجدون في دوائر الدولة ووزارات الحكومة، ومشروعاتها، وشوارع المال والأعمال، ومتغلغلون في قطاعات الحياة المختلفة، وحاضرون في كل ما يمكن ان يوفر المال، وهم شياطين بشرية تجدهم يعبدون الله، ويذكرونه بخشوع، ويصلون ويصومون، ويحيون المراسيم الدينية بأشكالها المختلفة، وينفقون عليها من السحت الحرام، ولا يترددون في التبجح بشخصيتهم المادية والمعنوية، أي أنهم "بالنهار يسبحو وبالليل يضبحو" كما يقول المثل!
فالمسؤول الفاسد ليس فقط ذلك الذي يسرق وينهب ويهدر المال العام عامداً متعمداً، وإنما هو أيضاً المسؤول الذي يفتقد لأدنى مهارات الخبرة والإدارة والمعرفة، والمصيبة الحقيقية عندما تجتمع الحالتان مع بعضهما البعض.
ولا يمكن محاربة الفساد بمكافحة ممارساته فقط، لأنه مثل الأعشاب الضارة، تستأنف الانتشار بوتيرة أسرع منها، ولا بد من محاربة الثقافة التي تنتج الفساد، ومعالجة البيئة التي ينمو فيها، من خلال توسيع المظلة التعليمية، وتحسين وتطوير المناهج الدراسية، والعمل على التوعية المجتمعية عن أساليب الفساد، وأضراره وكيفية الكشف عنه، والتشهير والتشنيع بالفاسدين، وحماية الكوادر الشريفة، وذلك بتأسيس منظمات المجتمع المدني المهتمة بهذه العلة، ومن خلال فرد صفحات ثابتة لهذه الظاهرة في الصحف، والسوشل ميديا.
وهذا يقودنا إلى ضرورة عدم التطبيع الاجتماعي والسياسي مع الفاسدين دون ضرورة، أذ أنّ التعامل الأريجي معهم، يعتبر تحفيز لهم علي التمادي في أفعالهم الإجرامية، وعلى السياسي أو المواطن الشريف، ألاّ يعطي وجهاً "للحرامية" والفاسدين، سيما في القطاع الحكومي، الذين يستبيحون المال العام، وأن يظهروا لهم دوماً الامتعاض بدلاً عن الأريحية الاجتماعية، وعلى المجتمع أن يضرب عليهم الذلة والمسكنة بالحصار المطّبق، والعزلة المجيدة، بدلاً عن التطبيع غير المبالي بجرائمهم، التي يتباهون ويتجاهرون بها "على عينك يا تاجر"؟
يجب على المواطن ألاّ يصلى خلف فاسد، أو يتصاهر معه، وألاّ يلبي دعواتهم، وألاّ تقبل صدقاتهم.
في حدث مستفز لأسر الشهداء، ومقزز للذائقة الثورية، شاهد الشعب السوداني، مقطع مصوّر، لقيادات من تنظيمات الهبوط الناعم، يتوسطون رموز انقلابيهم، في فعالية سياسية، يجلسون معهم كرسيٍ بكرسي، وكتفٍ بكتف، يتبادلون "القفشات"، والابتسامات العراض، وكأن جرائم هؤلاء المتمثلة في شراكتهم الأصلية في قتل الشباب الأبرياء، ومحاولة إجهاض أحلام الشعب السوداني في بناء دولته المدنية، كأن هذه الجرائم من رموز الانقلاب، لا شيء يستحق الغضب، وكأن شيئاً لم يحدث في 25 اكتوبر 2021م!!
حتى أن كانت هنالك ضرورة تقديرية، للتواصل مع هؤلاء الانقلابين الفاسدين، يجب الاحتفاظ بمسافة كافية بينهم، هكذا يتصرف من يضعون الاعتبار لكرامة الشعب الأبي. يمثلونهم.
مثل هذا السلوك غير المسئول، يعتبر إرهاص، "لمباركة" أرواح ودماء شهداء ثورة ديسمبر المجيدة، وبيع القضية، والتنازل عن مطالبة الشعب في تأسيس دولة مدنية خالصة من العسكر، وبمعزل عن أعوانهم الانتهازيين، قيادات تنظيمات الهبوط الناعم، ليس لديهم نفور عن الفاسدين، ولا يجدون في أنفسهم حرجا من المسامرة السياسية بأريحية مع الذين غدروا بثورة الشعب، ومع سارقي السلطة، عديمي الأخلاق!.
وعلى لجان المقاومة، محاصرة هؤلاء وفضحهم والتشهير بهم، على غرار ما فعلوا مع اللذين أكلوا سراً من موائد اللئام والفاسدين، رفقة الانقلابي الفريق كباشي في منزل "سيد خيره" جمال عنقرة قبل سنوات.
ينبغي على المجتمعات، ألا ترفأ بالفاسدين، وألاّ تجامل "الحرامية"، ويعتبر الرفض الشعبي للضالعين في هذا الوباء محور مكمل لدور الأجهزة الرقابية الأخرى.
//إبراهيم سليمان//

ebraheemsu@gmail.com

 

آراء