التعليم الحديث والقطيعة المعرفية مع الموروث الشعبي: الكرونة والأدوية البلدية نموذجاً
من القضايا والإشكالات التي أفرزها الأخذ بنظام التعليم الغربي الحديث (تعليم المدارس والجامعات) في البلدان النامية، قضية القطيعة المعرفية مع الموروث الشعبي للمجتمعات المحلية. إذ يعتقد كثير من المتعلمين في هذه البلدان أن التعليم المدرسي يعني القطيعة المعرفية للتلميذ مع كل ما خبره وتعلمه في محيطه الثقاقي والمجتمعي المحلي من معارف. وفي كثير من الأحيان تكون هذه القطيعة المعرفية غير واعية وغير معبر عنها صراحة لكنها راسخة في اللاشعور الجمعي لجمهور المتعلمين والمثقفين.
فبرغم من دعاوى المثقفين والمتعلمين الرادكاليين والمحافظين على السواء، عن ضرورة مقاومة التبعية والهيمنة الثقافية والمركزية الغربية الأوربية والإمبريالية والعولمة إلخ..، إلا أنهم لا يترجمون هذه الشعارات على أرض الواقع ولا يحولونها إلى برامج عمل وسلوك فردي وممارسات مجتمعية للتخفيف من ربق الهيمنة وكسر شأفة المركزية الثقافية الغربية التي لا يكفون عن الجأر بالشكوى منها.
ربما كانت شعوب شرق آسيا (الصين واليابان والهند) استثناءً، فقد نجحت هذه الشعوب إلى حد ما في المواءمة بين بعض المعارف الموروثة وبين العلوم الحديثة والتقدم التقني، لا سيما في الطب وفن العمارة والتخطيط العمراني وبعض أساليب الانتاج والنظم المجتمعية والإدارية وغيرها. وأما نحن والشعوب الأخرى فقد فشلنا في ذلك أو لم نملك بعد، الوعي بأن هناك مشكلة أصلاً تتطلب أن نزعج أنفسنا بالتفكير فيها وايجاد الحلول لها.
وقد برزت أزمة القطيعة المعرفية مع الموروث الشعبي عندنا حين اجتاح فيروس كرونة العالم في مطالع العام المنصرم. فقد واجه الطب الحديث مرضاً لا يعرف له علاجا ولا مصلاً. ولكن العبقرية الشعبية عندنا كانت تعرف الدواء للعلاج وللوقاية منه. وهي منتجات محلية طبيعية من نباتات تنمو بكثرة في الخلاء والغابات ومبذولة للغاشي والماشي وليست ملك لأحد ومتوفرة بأسعار زهيدة في الأسواق الشعبية في كل مدن وقرى السودان بل يتبادلها الأهل والجيران ببلاش. وتأتي على رأس ثمار هذه النباتات: القرض (القرظ بالمعجم) وهو ثمر السنط، ثم القرنقل الذي يستورد من الهند ومعروف في السودان من قديم الزمان وغيرها.
وقد أثبت كل من القرض والقرنقل، بالتجربة، نجاعة كبيرة في علاج الكرونة والوقاية منها والتجربة خير برهان. ومن أمثالنا: "أسال مجرِّب ما تسأل طبيب"، وليس الغرض من هذا المثل التقليل من مكانة الطب الحديث أو الاستخفاف بقيمة الطبيب، ولكن الغرض من ضربه هو التعويل على التجربة والتجربة أساس العلم الحديث.
ومع ذلك وفي الوقت الذي كان الناس فيه يموتون بالمرض بالعشرات ويقر فيه وزير الصحة بالقول إن وزارته لا تملك ما تقدمه للمرضى "سوى البندول"، لم يفتح الله على وزارة الصحة بالسودان بكلمة واحدة في توجيه الناس للاستعانة بالأدوية الشعبية ريثما يتمكن الطب الحديث من الحصول على علاج للفيروس واكتفت لجنة الطوارىء الصحية بترديد ارشادات منظمة الصحة العالمية ومحاكاة الدول الأوربية وأمريكا فيما اتخذته من إجراءات الحجر وإلاغلاق الكامل.
ومع بروز الموجة الثانية من المرض لم تتعلم وزارة الصحة من التجربة السابقة ولم تراجع نجاعة التدابير التي اتخذت وما يمكن أن يضاف إليها وذلك من واقع معايشة الناس للمرض والكيفية التي تعاملوا بها معه، واكتفت حليمة بقديمها.
وكنا قد نشرنا بـ"سودانايل" بتاريخ: 25 نيسان/أبريل 2020 مقالاً بعنوان: (الكرونة- الأدوية البلدية والعلاج المنزلي وصمت وزارة الصحة). جاء كما يلي:
منذ بداية انتشار وباء كرونة انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية قصص وتجارب ونصائح بعض المرضى ومنهم أطباء تتحدث عن شفائهم من الكرونة باستعمال أدوية بلدية وعلاجات منزلية نجحت في شفائهم من المرض شفاء تاماً ومن غير الذهاب إلى المستشفيات أو تلقي أي علاج صيدلي معتمد أو الاستعانة بأطباء متخصصين.
ومن هذه التجارب أذكر أنني استمعت إلى تسجيل لطبيب أردني مقيم ببريطانيا يشرح فيه تجربة إصابته هو وأفراد أسرته بالكرونة أثناء تواجدهم بالحجر المنزلي ببريطانيا وأنهم قد تعافوا من المرض خلال أربعة وعشرين ساعة فقط من خلال استنشاق بخار زيت القرنقل ومن دون الاتصال باسعاف أو الذهاب إلى المستشفى. وقصة هذا الطبيب دليل على أن العزل الاجتماعي لا يمنع الإصابة بالمرض لكنه يخفف احتمالات الإصابة ولا شك أن الآلاف في أوربا وأمريكا أصيبوا بالعدوى وهم ماكثون في بيوتهم.
كما أوردت قناة الجزيرة مقابلة مع مغربي أفاد فيها أنه شفي من المرض هو وزوجته باستعمال القرنقل أيضا. وكنت قبل ذلك قد استمعت إلى تسجيل لسيدة مصرية أصيبت بالكرونة وشفيت (لا أدرى إن كانت طبيبة ولكن يبدو أنها على وعي تام بأعراض المرض) قالت تلك السيدة إنها عند شعورها بأعراض المرض عمدت إلى عمل قرقرة بالملح والليمون فكانت النتيجة الشفاء التام من غير الاستعانة بالمستشفى. وهناك الكثير من التجارب على هذه الشاكلة.
ومن أطرف هذه التجارب والقصص ما حكاه شاب سوداني مقيم بالبرازيل والذي أفاد أنه سمع ذات يوم أن هناك عقار يباع للمواطنين لعلاج الكرونة فذهب ووقف في الصف لشرائه وهو عبارة عن كيس صغير يباع بـ 10 دولارت فعندما فتح الكيس لم يجد سوى القرض (ثمر السنط) المعلوم عندنا في السودان فانفجر في نوبة ضحك من المفاجاة حتى لفت إليه بقية الحضور !!
وكنا نتوقع أن تلقى هذه التجارب والنصائح العلاجية البديلة، الشعبية والمنزلية، اعتباراً من وزراة الصحة السودانية واللجنة العليا لمكافحة الوباء فتقوم بالنظر فيها وتقييمها وتبصير المواطنين بنجاعتها واللجوء إليها سيما والبلد تعاني من مشاكل كثيرة مثل نقص الكوادر الطبية وعدم التأهيل الكافي للمستشفيات ونص أجهزة التنفس والأدوية ذات الصلة وغيرها من المشاكل المعروفة. ولكن الوزارة واللجنة لم تلق بالاً إلى تلك التجارب والنصائح واكتفت بإشاعة إجراءت الوقاية والعزل الاجتماعي والحجر المنزلي والعلاج بالمستشفيات.
حتى على الصعيد المهني سمعنا كثيراً عن أن علاج الملاريا (الكلوروكين) والمعروف في السودان من شأنه أن يعالج الكرونة إلى درجة أن الرئيس الأمريكي كان قد أجاز رسميا في خطاب علني اتخاذ الكلوروكين علاجا للكرونة.
وكنت قبل ذلك قد شاهدت تقريراً مصوراً لأطباء وصيادلة سودانيين أعلنوا عن نجاعة علاج الملاريا للكرونة (ليس لدي معلومات عما إذا كان اكتشاف هؤلاء الخبراء السودانيين سابق لاعتماد الولايات المتحدة الأمريكية الكلوروكين علاجاً). ولكن رغم كل لك لم نسمع من وزارة الصحة السودانية تقريراً أو نصائح (في حدود علمي) بشأن استخدام الكلوروكين علاجاً لمكافحة الكرونة.
كذلك لم نسمع شيئاً من وزارة الصحة عن التقارير الدولية التي تتحدث خطأ التشخيص في مرض الكرونة. فقد توصل الخبراء في كل من الصين والولايات المتحدة الأمريكية إلى أن التشخيص الأولي لما يحدثه الفيروس في الجسم، لم يكن صحيحاً. فقد كان يعتقد في البداية أن الفيروس يتلف خلايا الرئة فيصاب المريض بعدم القدرة على التنفس لذلك كانت أول خطوة في العلاج هي الاستعانة بجهاز التنفس الإصطناعي. غير أن التقارير الأخيرة كشفت أن الذي يحدث هو أن الفيروس لا يعمل على تعطيل خلايا الرئة وإنما يعمل على التأثير على (الهيموغلوبين) ويمنعه الاستفادة من الأوكسجين وهذا هو السر الذي يجعل المرض يستجيب لعلاج الكلوروكين.
خلاصة ما نطمح إلى قوله هنا، إنه يجب علينا جميعاً مواطنين وخبراء وأطباء السعي إلى الاستفادة من تجارب العلاج البلدي والمنزلي للكرونة، وأن نعمل بعد انقشاع هذه الغمة بعون الله، على إعادة النظر في نظرتنا وسياستنا العلاجية والالتفات إلى الطب البديل والعناية به أكثر فأكثر جنباً إلى جنب علم الصيدلة.
وفي سبيل ذلك نقترح أن تقوم الحكومة بإنشاء مراكز بحوث متخصصة في العلاج البلدي والطبيعي للقيام باجراء التجارب المعملية والميدانية على كل أنواع النباتات والمنتجات الزراعية وتصنيفها تصنيفاً علميا ووضع المقاييس والمواصفات الطبية الصحيحة للتصنيع ورفع التوصيات والتقارير إلى جهات الاختصاص لتقوم باللازم وتصنيع وانتاج هذه الأدوية وكذلك العمل على تشجيع رأس المال المحلي للدخول إلى هذه الصناعة.
انتهى.
abusara21@gmail.com