التغيير الجذري: سلكت أنت طريق طويل وغيرك يُشرِّك ويُحاحِّي (2-2)

 


 

 

(نحن محاصرون بالأعداء من كل الجهات، وينبغي علينا أن نسير ونحن عرضة لنيرانهم. لقد اتحدنا بملء إرادتنا، اتحدنا لأجل النضال ضد العدو، وليس للوقوع في المستنقع المجاور، الذي لامنا سكانه، منذ البدء، لأننا اتحدنا في جماعة منفصلة واخترنا طريق النضال عوض طريق المهادنة. والآن بدأ بعض منا في الصياح: "دعونا نذهب إلى المستنقع!" وعندما نقول لهم: ألا تخجلون، يعترضون قائلين: "يا لكم من متخلفين! ألا تستحون من أن تنكروا علينا حرية دعوتكم للسير في طرق أفضل!"، نعم، صحيح أيها السادة! إنكم أحرار ليس فقط في أن تدعونا، بل أيضا في أن تذهبوا إلى المكان الذي يطيب لكم، حتى إلى المستنقع إن شئتم، بل إننا في الواقع نرى أن المستنقع هو مكانكم الصحيح، ونحن على استعداد لإعطائكم كل مساعدة ممكنة للذهاب إليه. لكن رجاءنا اتركوا أيدينا ولا تتعلقوا بأذيالنا ولا تلطخوا كلمة الحرية العظمى، لأننا نحن أيضا "أحرار" في السير إلى حيث نريد، أحرار في النضال لا ضد المستنقع وحسب، بل أيضا ضد الذين يعرجون عليه!)
ف.إ. لينين (ما العمل، نسخة دار التقدم)

(6)
والآن قيادة قحت تحاول أن تجعل من تحالفها هذا تنظيم سياسي مكتمل الأركان، وهو تحالف منذ ما بعد ١١ أبريل صار همه الأساسي هو الوصول للسلطة والتمسك بها فقط، دون النظر لطبيعة البرامج التى يدير بها البلد، ودون وضع أي إعتبار لتعقيدات الواقع السوداني، وصار في سبيل ذلك أداة طيعة في يد المجتمع الدولي، ولعل فكرة الوصول للسلطة عبر التحالفات الهشة هذه ظلت تحديداً هي قوام الفكرة الرئيسية لحزب الأمة في التحالفات، فتحت دعاوى الهيكلة، كان كل هم حزب الأمة القومي هو عمل قيادة تنظيمية للتحالفات، دون النظر لطبيعتها في أنها هي تحالفات تنسيقية، ولا يشترط فيها أن تكن تحالفات موحدة سياسياً وفكرياً وتنظيمياً، وبالطبع فإن حزب الأمة كان يريد بهذه الطريقة السيطرة على التحالفات ليمضي بها نحو تحقيق ما يريده هو، ويتخذها كمطية لذلك، وبنظرة سريعة لتحالفات القوى السياسية التي كان حزب الأمة طرفاً فيها جميعها وخرج منها جميعها تحت دعاوى رفض رأيه في هيكلة التحالف، أو القيادة المركزية، نتثبث من هذه الفرضية.
ولو إستبعدنا موقف حزب البعث المتناقض الآن حيال الوضع في البلاد بعد ١١ أبريل، فإننا نجد أن ذات الصراع كان يدور منذ ٢٠١٤، وأن قوى في قحت الآن وتحديداً قوى نداء السودان ما قبلت بالوحدة إلا في اللحظات الآخيرة للثورة، ولأنها كانت تقرأ مزاج الجماهير في تلك اللحظة، الذي كان ثورياً ومتحفزاً لدك حصون النظام. وهذا يؤكد ما قلناه سابقاً في أن المهم الآن ومستقبلاً ليس وحدة القوى السياسية لإسقاط النظم المستبدة، بل الضمان الحقيقي هو وحدة القوى السياسية والإجتماعية الشعبية، صاحبة المصلحة الأساسية في التغيير وإكتماله نحو تصفية القديم وقيام الجديد، وهذه هي الأجدى والأنفع.
في الحقيقة أن قحت لم تكن بمستوى الحكم في فترتي حكمها عقب تقاسمها الشراكة مع اللجنة الأمنية لنظام البشير، بل هي كانت حقاً ترى أن ليس بالإمكان أفضل مما كان، وأن هذا التغيير على محدوديته، كثيرٌ على (أم الفضل) ورضوا من الغنيمة بالإياب، وأن ما يحركهم نحو التغيير الذي - كانوا يستبعدوه ختى على مبعدة أيام قلائل من حدوثه - هو رغبتهم في تسنم كراسي السلطة، دون الإستعداد الجيد لها، وساعدهم في ذلك رغبتهم الدفينة في التخلي عن ميثاق التحالف الذي وقعوه وقبلوا به على مضض، والحقيقة الساطعة أن
ميثاق قوى الحرية والتغيير مزقته قيادة قحت الحالية، وداست عليه، ولم ترّ فيه سوى سلم تصعد به نحو ما تريد، وللعجب فهي الآن تريد من قوى التغيير الجِذري أن تأتي للوحدة معها على أرضية ذات الميثاق الذى تنكروا له!.
ولعلنا لا نجانب الحقيقة إن قلنا أن هجوم قحت على مشروع التغيير الجِذري، ليس مقصوداً به في الوقت الحالي طبيعة البرنامج نفسه، أو خلاف حول وسائله وأدواته، إنما هو هجوم مقصود الهدف منه هو إخلاء الساحة السياسية من أي مشروع خلاف مشروع التسوية السياسية، والذي بالرغم من محاولات قحت إخفاؤه، إلا أن الناظر بنظرة بسيطة يلمس ذلك، وحقاً أيضاً فإن قحت من جانب آخر تريد بهجومها على مشروع التغيير الثوري الجِذري، كسب ود المجتمع الدولي الذي هو نفسه يناصب هذا المشروع العداء، ويسعي لإجتثاثه من واقع الحياة في السودان، ليس اليوم، إنما قبل أن تؤسس أحزاب سياسية هي اليوم تتصدر مشهد الإنبطاح للمجتمع الدولي، وهي في قيادة مركزي قحت.
(7)
حيلة أخرى يلجأ لها المعادون لموقف الحزب الآن وهي الخوف على الحزب من العزلة، وللأمانة فقد كان هناك تيار تأريخي ينطلق من هذه القضية في نقده للحزب الشيوعي ومواقفه، أحياناً، يتسع هذا التيار ليضم محسوبين على الحزب وحركة التقدم، وبالطبع فهناك أشخاص وطنيون وديمقراطيون قلبهم على الحزب الشيوعي، وحادبون على مصلحة الشعب، فهولاء يقولون أنهم يخافون على الحزب حسب رأئهم من العزلة، وفي الواقع فإن آخر من يخاف العزلة أو يخشاها في السياسة السودانية هم الشيوعيون، لكون أن مشروع الحزب السياسي لا يقوم على كبر كوم، إنما يقوم على نصاعة الموقف والخط السياسي وبيان الحجة، وفوقهم جميعاً إلتزام جانب الجماهير، وهي نفسها الجماهير التي قال عنها أحد قادة قحت أنها ( وبالتالي فإن مسألة السعي نحو السلطة التى يتخذ الآخرون في سبيلها التحشيد وتكبير الكيمان وتقديم التنازلات وتجاوز المبادئ والقيم المعلنة، سبيلاً، لا تعنى الحزب الشيوعي في شئ، طالما هي سلطة لا تخدم القضايا الأساسية للجماهير وليست لديها أفق لحلها، بل هي تُفاقم من معاناة الجماهير، وتشوه شعارات الثورة، وتهزم الآمال العريضة في التغيير السياسي المرتبط بتغيير إقتصادي وإجتماعي، إرتباط لا فكاك منه أبداً، وكلٌ لا يتجزأ، وهذه قضايا مترابطة بحيث لا يجدى معها، التقديم والتأخير.
والثابت يقيناً أن هولاء جميعاً وبصور مختلفة، يدركون حقيقة أن أي مشروع سياسي في السودان الآن بدون الحزب الشيوعي والحركات المسلحة خارج إتفاق جوبا و لجان المقاومة، سيرفضه الشعب السوداني، لذلك كل همهم الآن هو جر هذه القوى نحو مشروع التسوية، حتى يجد قبولاً شعبياً، ولولا ذلك لكانوا قد إنخرطوا فيه منذ نوفمبر ٢٠٢١م.
(8)
مجمل خطة المجتمع الدولي الآن هي الحفاظ على جوهر الوحدة الملساء والخالية من أي مضمون ثوري، وهي وحدة جوفاء لا تخدم إلا أجندة محددة، إرتبطت تاريخياً بأنها في وادى غير ذى زرع لشعب أضناه المسير الطويل من أجل حياة سعيدة، وبهذه الوحدة المخاتلة، يمكن للمجتمع الدولي أن يمضي في تنفيذ أجندة مشروعه الهادف لتسوية القضايا السودانية بحلول شكلية، وبراقة، لكنها خادعة ومسمومة، وهذا هو الهبوط الناعم عينه، وليس أدل على ذلك من أن مسودة دستور اللجنة التسيرية للمحامين والتي ترفضها فصائل واسعة من الحركة السياسية الثورية فإن فولكر يعتبرها، مدخل جيد لبدء عملية سياسية، والبناء عليها لقيام حكومة مدنية (!) على الرغم من حالة الرفض الشعبي لها، وهذا يوضح منهج العجلة والكلفتة الذي يتعامل به المجتمع الدولي من أجل الإسراع في تنفيذ التسوية، ليستمر في تحقيق أهدافه واحداً تلو الآخر. ولعل عملية (الكلفتة) تنبئ عن أن الغرب والخليج ومصر يريدون عملية سياسية سريعة، كيفما إتفق، حتى يقطعوا الطريق أمام، المخططات الروسية والصينية في السودان.
وبالطبع فإنه ولكون أن هناك فصيل أو فصائل بالحركة السياسية السودانية تُدرك أبعاد هذا المخطط وخطورته الآنية والمستقبلية على شعب السودان فإن، هذا ينسف جهود نجاح المشروع، ومن هنا تبدأ المشكلة الأساسية المتعلقة بضرورة عزل أي قوى سياسية يفشل داعمو المخطط في جرها إلى ساحة القوى المدافعة عنه.
والتغيير الجذري إذ يرفض الوحدة هذه، بالشكل الذى يسمح للأجنبي التدخل في الشأن السوداني ويستنكف على الوطني أن يقول رأيه، فهذه وحدة (مصنوعة) وهي غاية ما تريده قحت، وتظهره حالة هجومها الذي يهوي حتى درك (الصُراخ) الآن، عن تطرف التغيير الجذري وحرقه للمراحل، وإن التغيير هو عملية طويلة، ولكي يصبح ثورياً فهو بحوجة لعمل سياسي، يبنى على تسوية سياسية، تعيد إنتاج ذات الظروف التي أوصلتنا لما نحن فيه الآن. فإن المرء ليحار في قوى سياسية راشدة، تسعى بحتفها لظلفها وتلدغ من ذات الجحر الذى لُدغت منه مرة أخرى، وتزول الحيرة إن عرفنا حقيقة أنها هي قوى مُسيرة وليست مُخيرة ولا تملك قرارها. وبالطبع فإن التغيير عملية طويلة، لكن بما نبدأ هذه العملية هذا هو أساس الصراع، والإختلاف الكبير، قحت ترى أن المدخل هو تسوية سياسية، تنهي الإنقلاب، وهذا وصف مفخخ، والمركز الموحد يرى أن المدخل هو أولاً، إسقاط هذا الإنقلاب، وهذان طريقان شتى، وما أختاره الجِذريون هو طريق طويل، ومن الطبيعي فإن فمن يختار سلوك طريقاً طويلاً كهذا، لا يستعجل، وكما يسير المثل الدراجي فإن (السايقة واصلة).
(9)
بما لدينا الآن من مهام يجب أن تُستكمل حتي تصبح إنتفاضة ديسمبر ثورة، فإن هناك قضايا هامة تتعلق بهيكل القوى صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير، وهي مثلاً : العمال، المزارعون، هاتين الفئتين، تم تغييب صوتهم بعد ثورة ديسمبر، وأكثر من ذلك وحتى لا يضطلعون بمهاهم فقد تم فرض نقابات ولجان تسيير، عكس رغبة أصحاب المصلحة، وزورت إرادتهم، وهذا ما يستدعي الآن، وكمدخل لأي تغيير جِذري في حياتهم هو تأسيس نقاباتهم وإتحادتهم، كأسلحة أساسية ومهمة في معركتهم لنيل حقوقهم، وللحقيقة فإن صراع مزدوج سينشأ هنا، شقيه هما : صراع العمال من أجل إنتزاع الحقوق الأساسية ومن ضمنها النقابات، والصراع ضد العناصر الإنتهازية والعقلية التي غيبتهم إبان الفترة الإنتقالية التي تنشط الآن من أجل قيام نقابات بتصورها هي، ولخدمة أهداف التسوية السياسية، منطلقة من الشعارات الثورية لإنتفاضة ديسمبر، فالوضوح النظري والعملي، وبث الوعى الثوري، وتعرية المواقف الملتبسة وأنصاف الحلول، هي من أوجب واجبات المركز الموحد الآن. كما أن قضايا العمال في القطاع الخاص هي أكثر تعقيداً مما هي عليه في القطاع الحكومي، ولعلَّ ما يزيدها تعقيداً هو حرمانهم من حق تكوين النقابة، فهذه أيضاً من مهام المركز. والمزارعون الآن في كل القطاعات حالهم يغني عن السؤال، فهم محرومون من التمويل ويعانون من الضرائب الباهظة، والحرب ضدهم لنزع أراضيهم، وتصفية وجود أي مظهر للعمال الزراعيين الذين لن يجدوا أرضاً يعملوا فيها ولا أن يسكنوا فيها، لذلك فإن جهد كبير في هذا القطاع الهام يجب أن يبدأ الآن وبقوة، ومدخله هو تنظيم المزارعون والعمال الزراعيين، وتكوين النقابات والإتحادات والنضال من عليها.
وهناك الآن الإضرابات العمالية والمهنية التي قامت والتي سوف تقوم طالما الإستغلال الطبقي لهذه الفئات مستمر، والأجور لا تفئ، فإن مهمة ربط هذه المطالب، بقضية غياب الديمقراطية وإسقاط الإنقلاب كمدخل لنيل الحقوق هو واجب مقدم أيضاً. هذه القوى الإجتماعية العريضة، والتي يتم تغييبها من قبل النخب الكمبرادورية عمداً، آن لها أن تتقدم لتستكمل مهام الثورة التي قامت بها ولها، عبر المركز الموحد للتغيير الجِذري. ولأن المهام هذه كبيرة ومرحل جلها من أزمان سحيقة فإن منهج المتصدون لها هو الدأب والإصرار وطول النَفسّ، والآخرين مع اللجوء للهجوم والصراخ والعويل، فإن منهجهم هو الشفقة وإستعجال النتائج، وهذا طبعهم، فالطبع يغلِبُ على التطبع.
(10)
وضوح الرؤية الآن يتطلب بذلاً نظرياً وجهداً حقيقياً، فكرياً وسياسياً وتنظيمياً لتثبيت أركان التحالف الجِذري، بإنطلاق من الدراسة الحقيقية والعميقة للواقع السوداني والتغييرات التي طرأت والتي أيضاً سوف تطرأ، وعلى وجه التحديد فإن أكثر الفئات حاجة لبرنامج التغيير الجذري بجانب العمال والمهنيين؛ هم جماهير القطاع المطري التقليدي وضمنهم (النازحون) وضحايا الحروب الذين يعانون معاناة مضاعفة، والقطاع غير المنظم وأحزمة الفقر في المدن، والملاحظ أنه ومنذ نهاية ٢٠١٨ بدأ يظهر نهوض جماهيري في مناطق القطاع المطري التقليدي، وهذا القطاع على أهميته ظل غائباً عن دائرة النشاط السياسي الإجتماعي، ومغيباً عمداً في الصراعات طيلة المدة الطويلة، وتحديداً في فترات الإنتفاضات الشعبية، و بالنسبة لقوى التغيير الجِذري، يظل هذا القطاع مهماً جداً، ومركزي في أجندة التغيير الثوري الجذري، وهذا كان تاريخياً هو محور إهتمامها، والمهم الآن أن هذا القطاع يمور بحركة واسعة ونشاط قوى مبني على وعي متكامل بالحقوق، وهو الآن شامة في خد الحراك الثوري السلمي. ويرفع شعارات جذرية تخاطب الواقع بدقة، وهو أكثر تحفزاً لإستقبال شعارات وبرامج التغيير الثوري، والحوجة الماسة، هي الدخول مباشرة في علاقة نضالية مع هذا القطاع، و ربطه بمجري النضال الثوري العام ، وتسيس هباته العفوية، وربطها بالقضية الوطنية والنضال ضد الدكتاتورية وفي نفس الوقت شكل الحكم المدني الديمقراطي، المقترح، وكيف ينظر له جماهير القطاع المطري التقليدي، والحلول الجِذرية لمشاكله لأن الجزء الأكبر من مستقبل السودان يكمن في هذا القطاع.

osamaha132@gmail.com

 

آراء