التنمية الرقمية في أفريقيا

 


 

 

يختلف مفهوم أومصطلح "الرقمنة" بحسب السياق الذي يستخدم فيه، وعادةً ما يُنْظَرُإلى الرقمنة على أنها "عملية تحويل مصادر المعلومات المختلفة إلى صورة مقروءة بواسطة تقنيات الحاسبة الآلية".كما تُعْتَبَرُ الرقمنة منهجاً يسمح بتحويل البيانات والمعلومات من النظام التناظري إلى النظام الرقمي.وينصب تركيز الرقمنة بشكل أكبر على إستخدام التكنولوجيا والبيانات والتعاملات والاتصالات الرقمية وغيرها، بهدف تحقيق الإيرادات أو تحسين إجراءات العمل. أما التحول الرقمي فيمثل عملية أوسع نطاقاً، إذ أنه يغطي كافة جوانب الأعمال، حيث تستخدم فيه العمليات والتقنيات الرقمية لإنشاء تطبيقات وإستخدامات جديدة في الأعمال لتقديم الخدمات، أو حتى إنتاج السلع.وللتحول الرقمي فوائد مختلفة لكافة الأطراف، سواءً أكانت مقدمةً للخدمة أو مستفيدةً منها، حيث يوفر الكثير من الجهد والمال، كما يحقق مميزات كبيرة في تحسين كفاءة العمل والتشغيل، ويساعد على تحسين الجودة وتبسيط الإجراءات للحصول على الخدمات المقدمة للمستفيدين. كما يقدم التحول الرقمي فرصاً عظيمة للقطاعين العام والخاص، لإحداث تحول سريع في التوسع والانتشار بين المستخدمين الراغبين في الحصول على الخدمات، عن طريق حلول مبتكرة وبسيطة بعيداً عن الروتين.
وتكون التقنيات الرقمية دوماً في مقدمة عمليات التنمية، حيث أنها هي التي تُنشئ التواصل بين الناس والشركات وحتى الحكومات. كما تطرح التقنيات الرقمية حلولاً مبتكرة للتحديات الإنمائية المعقدة ومساعدة البلدان على تجاوز المراحل التقليدية للتنمية مثل الخدمات المالية والخدمات المصرفية الرقمية وصولاً إلى الخدمات الطبية عن بعد. كما تستفيد الحكومات من الممارسات العالمية للتنمية الرقمية لإغراض إرساء أسس قوية لازدهار الاقتصاد الرقمي، عبر حفز الطلب على التطبيقات والمهارات والمنصات الرقمية لمساندة الحكومات والأعمال والأفراد على المشاركة بشكل أكمل في الاقتصاد الرقمي، مما يساعد في إيجاد أو توفِّرفرص فريدة للبلدان لتسريع وتيرة النمو الاقتصادي وربط المواطنين بالخدمات وفرص العمل، بما في ذلك إتاحة وصول جميع السكان بصورة شاملة إلى الإنترنت السريع المنتظم والمأمون والميسور التكلفة. غير أن كثيراً من الدول الأفريقية لا يعوزها فقط الاتصال بشبكة الإنترنت، هناك أساسيات أخرىغير متوفرة مثل الطاقة الكهربائية ومعرفة الكتابة والقراءة،والشمول المالي (الذي يعني إدخال أو دمج الفئات التي تُعد مهمّشة مالياً، أو من ذوي الدخل المالي المنخفض التي لا يسمح لها بالانخراط في عمليات النظام المصرفي، بالتعامل مع الجهاز المصرفي من خلال منظومة العمل الرقمية باستخدام الهواتف المحمولة) وكثير من القواعد التنظيمية الأخرى.ولذلك فإن هناك الكثير من السكان ليس لديهم المعرفة بإستخدام الحلول التكنولوجية المتاحة، وأن كانت محدودة، هذا بخلاف المشاكل الجوهرية الأخرى مثل انعدام الأمن الغذائي، والصراعات الداخلية،وغياب الشمول المالي.
وتتطلب المشاركة الكاملة في الاقتصاد الرقمي العالمي أن تقوم البلدان ببناء قاعدة للتنمية الرقمية كي تستفيد من منافع التقدم التكنولوجي العالمي.لذلك قام الإتحاد الافريقي بصياغة إستراتيجة قارية بإسم مشروع إستراتيجية التحول الرقمي لإفريقيا (2020-2030)أساسها هو جعل التنمية الإجتماعية والاقتصادية ذات أولوية عالية في التحول الرقمي،وتدفع لتحقيق نمو مبتكر وشامل ومستدام، عبرالابتكارات المختلفة، وبدء العمل بمنصات النقود، والتوسع في مجال الأعمال التجارية، والذكاء الاصطناعي، وتوفير فرص عمل، تيسيراً لتحقيق أجندة 2030م للتنمية المستدامة للأمم المتحدة. ومعلوم أن القارة الافريقية تعتبر المكان الأمثل للفرص الاقتصادية في كافة القطاعات التنموية، حيث تتوافر فيها القواعد الاساسية للتنمية، مثل البنية السكانية التي يغلب عليها شريحة الشباب مما يجعلها مؤهلة للتحول الرقمي. كما يعمل التحول الرقمي على توفير فرص عمل ومعالجة الفقر والحد من عدم المساواة وتيسير توصيل السلع والخدمات والمساهمة في تحقيق أجندة2063م وأهداف التنمية المستدامة للقارة الأفريقية.
ووفقاً لتقرير نشره مركز التجارة الدولية في 20 أبريل 2022م مثلت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات نسبة تتراوح بين6 إلى 10٪ من إجمالي صادرات الخدمات في عينات أخذت من إحدى عشر اقتصاداً أفريقياً. وهذا مما من شأنه أن يؤكد أن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات أدت بالفعل أدواراً مهمة في تلك البلدان، مما يدفع السباق العالمي الحالي المنظمات إلى تسريع تبني الابتكارات الرقمية في كل من القطاعين الخاص والعام. وهناك دلائل متزايدة على أن وتيرة التحول الرقمي تتسارع في إفريقيا أيضاً؛إلا أنه على الرغم من هذه كل تلك الإمكانات الواعدة،لا تزال القارة الأفريقية تواجه العديد من التحديات التي تعيقها عن الاستفادة الكاملة من إمكانات التحول الرقمي، التي تتمثل في عدم وصول شبكات الاتصال إلى كثير من مناطق توافر شبكات الإنترنت، وعدم وجود إتصال موثوق ومنخفض التكلفة يسهم في الدفع بالإنتاجية والابتكار والنمو. كما تعاني القطاعات التقليدية من بطء دمج وسائل التسويق الالكترونية في أعمالها. كذلك تعد فجوة المهارات الرقمية كبيرة لدرجة أنها تمنع استيعاب التقنيات الجديدة ونماذج الأعمال المبتكرة.ومن جانب آخر تعد اللوائح والسياسات عائقاً جوهرياً يساهم في ابطاء عمليات الاقتصاد الرقمي، إذ أن كثير من الدول الافريقية لم تجز بعد قوانين للتعاملات الالكترونية كالتوقيع الالكتروني مثلاً.
غير أن الجهود المبذولة من الاتحاد الافريقي دفعت الحكومات لإحداث تغييرات وتدابير تدعم الرقمنة. ومثال هو ذلك الأثر الذي أحدثته اتفاقية منطقة التجارة الحرة القارية، التي تضمن أسواقاً جديدة محتملة للأعمال الإلكترونية والشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا بإجمالي ناتج محلي إجمالي يقدر بأكثر من 600 مليار دولار وفقاً لبنك التنمية الأفريقي.
وكان قد كشفت جائحة كوفيد -19(الكورونا) عن مدى القصور التقني الذي تعيشه القارة الافريقية، حيث إفتقدت كثير من البلدان الافريقية التوثيق الالكتروني لحجم المخاطر الصحية في تلك الأزمة. كذلك على المستوى الاقتصادي، لا يوجد الكثير من التوثيق لقيام القطاعين العام والخاص في القارة بقياس حجم ممارستها الرقمية في مجال النشاط الاقتصادي أوحتى قياس مدى سهولة وسرعة ممارساتهما الرقمية على ضوء القيود المرتبطة بجائحة كوفيد -19.ووفقاً لتقرير "ديناميكية التنمية الإفريقية" الصادر بشراكة بين مفوضية الاتحاد الإفريقي ومركز التنمية التابع لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية(في نسخته الصادرة عام 2021م)، تم طرح عدد من المبادئ التوجيهة لمساعدة الحكومات على إعادة توجيه وتقوية إستراتيجياتها المتعلقة بالرقمنة؛ كان من أهمها إعداد القوى العاملة في إفريقيا لتبني التحوُّل الرقمي و مراعاة الجوانب الاجتماعية في الانتقال للتنمية الرقمية، إذ أن ظهور أشكال جديدة من العمل في الاقتصاد الرقمي سوف تكون هي المحرك لغالبية عمليات التنمية، مما يستوجب إطاراً تنظيمياً قوياً، وبرامج للحماية الاجتماعية للجميع، خاصة بالنسبة للعاملين لحسابهم الخاص، والذين يعتمدون على ترتيبات تعاقدية غير مستقرة مع المنصات الإلكترونية.
ويعد بطء انتشار تكنولوجيا الإنترنت في القارة الافريقية عاملاً يضع أمام التنمية المستدامة مصاعب عديدة يصعب تخطيها،ويستوجب على الحكومات مساعدة الشركات الناشئة، والشركات الصغيرة ومتوسطة الجحم لتبني الأدوات الرقمية الأكثر فاعلية من أجل المنافسة والابتكار في العصر الرقمي. وقد تم رصد ما يقارب 31% فقط من الشركات ضمن القطاع الرسمي الإفريقي التي لديها مواقع على الإنترنت، مقارنة بنسبة 39% في آسيا.كما تُعد مساهمة صُنّاع السياسات الترويج عنصراً فعالاً في نشر الابتكار الرقمي للجميع، وليس فقط لأولئك الذين يعيشون في مدن كبيرة، حيث أنه من المرجح أن نسبة 73% من الإفارقة سوف يعيشون في مدن وسيطة ومناطق ريفية بحلول سنة 2040م،مقابل نسبة مايقارب 25% فقط من سكان المناطق الريفية في القارة الذين لديهم القدرة على الوصول للإنترنت، وذلك وفقاً لما جاء في ذلك التقرير. كما يسهم التنسيق بين المستويات الإقليمية والقارية عاملاً فارقاً في انتشار التنمية الرقمية، حيث أن التعاون مطلوب بين الدول في مجالات عديدة بما فيها الضرائب الرقمية وآمن البيانات ومستويات الخصوصية وتدفق البيانات عبر الحدود، حيث تتوافر تشريعات لحماية البيانات الشخصية في ثمانية وعشرون دولة إفريقية، من بينها إحدى عشر دولة فقط تبنَّت قوانين تتعلق بالجرائم الإلكترونية. لذلك يجب التوافق على تبادل الخبرات والدروس المستفادة من تلك الدول مع بقية دول القارة حتى تندمج جميع الدول ضمن الاستراتيجية القارية الافريقية؛ حيث ذكر التقريرأن ثمانية عشر دولة إفريقية فقط لديها إستراتيجيات تتعلق بالرقمنة وسياسات واضحة من أجل إدخال الحلول الرقمية للاقتصاد غير الرقمي.
وتواجه أفريقيا تحديات مستمرة وناشئة تعوق تعزيز السلام الدائم والتنمية المستدامة؛ حيث أنه لازال هناك مناطق تعاني من عدم الاستقرار والنزاعات والحروب الاهلية، مما جعل الكثير من الدول تتخلف عن ركب التطور والتنمية ،ويأتي هنا دور التحول نحو الاقتصاد الرقمي بحسبانه محركاً جديداً للنمو عبر إرساء الركائز التي تتمثل في البنية التحتية الرقمية، والتعليم والمهارات، والخدمات المالية، والبرامج، وريادة الأعمال والابتكار في مجال التكنولوجيا الرقمية. وبالفعل شرعت كثير من الدول الافريقية في البدء في مسيرة الاقتصاد الرقمي. وكمثال على ذلك تُعد كينيا رائدةً في صناعة خدمات المعاملات المالية باستخدام الهاتف المحمول، وأصبحث نموذجاً تسعى كثير من الدول الإفريقية لتطبيقه. كذلك وضعت السنغال هدفا يتمثل في حصد 10% من إجمالي الناتج المحلي من الاقتصاد الرقمي بحلول عام 2025م. بينما أطلقت رواندا الجيل الرابع لمشروع الربط بالألياف لتوفير خدمات الحكومة الإلكترونية وغيرها في مختلف أنحاء البلاد.
وعلى الرغم من تعدد الفوائد العظيمة للتحول الرقمي، إلا أن إسهاماته في المجالات الاستراتيجية مثل مجال الزراعة في أفريقيا سيعد– بصورة خاصة – طفرةً كبيرة في إحداث ثورة زراعية للقارة الافريقية التي تمتاز بالموارد الطبيعية غير المستغلة. ففي دراسة جديدة أعدّتها منظمة الأغذية والزراعة بالاشتراك مع الاتحاد الدولي للاتصالات، وصدرت في مارس 2022م عن المنافع التي يمكن تحصيلها عند استخدام التكنولوجيات الرقمية في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى،وُجد أن الثورة الرقمية الحالية في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى تجلب إمكانات هائلة للنموّ الاقتصادي والإنتاجية الزراعية، ويمكن بسهولة تعزيز تلك الانتاجية عن طريق تكنولوجيات رقمية جديدة مثل التجارة الإلكترونية، وأجهزة الاستشعار عن بُعد، والطائرات المسيّرة، وتحسين التنبؤات الجوية.كما وتساعد الرقمنة على تعظيم الفوائد التي يمكن أن تتأتى من التكنولوجيات الرقمية في تحويل المجتمعات، وتحسين سبل العيش من خلال تحقيق عدة منافع توفر سبل حياة أفضل.وذكرت تلك الدراسة أيضاً أن المعيقات دائما ما تكون في مشاريع التنمية في أفريقيا.ورغم وجود بعض التجارب الناجحة، إلا أنه ما زالت هناك مساحات شاسعة من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى غير متصلة بشبكة الانترنت، مع إنعدام مؤشرات الرقمنة الاساسية والأطر التنظيمية لها، مثل الحصول على الكهرباء، وامتلاك الأجهزة المحمولة، والعديد من التطبيقات المتاحة باللغة الوطنية.كذلك ما تزال الفجوة بين الجنسين فيما يتعلق باستخدام الانترنت واضحة وكبيرة.لذلك على واضعي السياسات الاستفادة من هذه الإمكانات غير المستغلة بدمجها في استراتيجيات شاملة للزراعة الرقمية من أجل النهوض بالتحول الزراعي في أفريقيا، وتهيئة بيئة ملائمة للمستثمرين للنهوض بالأعمال التجارية، وتوطيد التعاون في ما بين البلدان والمنظمات الدولية والقطاع الخاص، من أجل إنشاء مجموعة شاملة من السلع العامة الرقمية في مجال الزراعة تكون مستدامة وقابلة للتطوير(وفقاً لتقرير منظمة الاغذية الزراعية للأمم المتحدة).
نخلص إلى أن الدول الافريقية في حاجة إلى تقييم الفجوة الرقمية في بلدانها، وتغيير فكرة أن مجرد حصول المواطنين على خدمة الإنترنت فقط يندرج في مفهموم الرقمنة. ولكن يجب التركيز على المنفعة التي تعود على مستخدم الإنترنت،كذلك ينبغي أن لا يقتصر الهدف من الرقمنة على زيادة استهلاكها فحسب؛ حيث أنه لم يعد التحول الرقمي رفاهية يمكن الاستغناء عنها في الوقت الحالي، خاصة بالنسبة للمؤسسات والهيئات التي تتعامل مباشرة مع الجمهور، والتي تسعى إلى التطوير وتحسين خدماتها وتسهيل وصولها للمواطنين. ويجب تحويل مفهوم التحول الرقمي لاستخدام التطبيقات التكنولوجية إلى منهج وأسلوب للعمل يجمع المؤسسات الحكومية في قناه واحدة لجعل تقديم الخدمات أسهل وأسرع، وتحقيقاً لمفهوم الضبط المؤسسي والحوكمة في مؤسسات الدولة؛ مما يساعد على الحد من الفساد والرشوة، عبرربط معاملات الدولة إلكترونياً وتسهيل إجراءات المعاملات، بحيث يساهم في حفز وجذب الاستثمارات للدولة ، خاصة الاستثمارات الخارجية. وأيضاً سيساهم التحول الرقمي في حصر السيطرة على ممتلكات الدولة وإعادة توجيه إستخدامها لخدمة التحول للحياة الرقمية التي تعزز صلابة المجتمعات المدنية، التي تحتاج فقط إطاراً تنظيمياً واضحاً وسكاناً متعلمين. لذلك ينبغي ومن أجل توليد النمو الذي يحقق التحول الرقمي، عدم ترك الرقمنة في أيدي المجتمع المدني والقطاع الخاص بصفة أساسية، فدائماً ما تفضي الفجوة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات إلى كبر حجم الفجوة الرقمية.لذا ينبغي على صُناع السياسات إعادة بناءة هياكلها التنظيمة الرقمية للمشاركة في التحول الرقمي.

nazikelhashmi@hotmail.com
/////////////////////////

 

آراء