التهديد الديمغرافي والأوطان الطاردة وقرى الأشباح، من سيبقى في وطن لا يجد فيه سريرا في مستشفى أو عملا يحفظ به كرامته ؟

 


 

 

بــهدوووء_
لا ترصد المؤسسات السودانية الرسمية عن قصد حجم الأعداد البشرية الحقيقية التي تغادر المنطقة بشكل نهائي كل سنة في واحدة من أخطر الكوارث السكانية والاجتماعية والاقتصادية التي تهدد البلاد. لكن حتى إذا صدرت دراسات علمية رسمية عن بعض المنظمات مثل جامعة الدول العربية أو بعض الدراسات الإقليمية فإنها تواجَه بلا مبالاة من قبل الأنظمة التي لا ترى في هذه الكارثة تهديدا لوجودها في السلطة.
عربيا الأمر الأخطر في هذه الكارثة أنها تضاعفت واشتدت بعد الثورات المضادة الأخيرة على موجات الربيع العربي وما أعقباها من حروب وفوضى. فحسب موقع صندوق الأمم المتحدة للسكان عرفت المنطقة العربية هجرة حوالي 40 مليون مهاجر سنة 2019 منهم 9,3 من اللاجئين وهم يشكلون حوالي 10 في المائة من مجموع عدد سكان البلاد العربية. يمثل هذا المؤشر الرقمي أخطر المؤشرات عن التحولات التي ستعرفها المجتمعات العربية في المستقبل على كل المستويات وخاصة منها الاجتماعي والاقتصادي بما هما العصب المحركّ للأمة وشعوبه.
كيف تحولت بلاد العرب إلى جحيم لا يطاق؟ وهو جحيم تتساوى فيه الدول الغنية بالدول الفقيرة بل هو جحيم أشدّ في حال السلم منه في حال الحرب. ففي السودان يهرب الناس لاجئين من جحيم الحياة والقتل الذي تمارسه سلطات الانقلاب ومليشيات الجنجويد لكنهم هل من عودة إلى قراهم ومدنهم يوم تنتهي هذه الكوارث؟
الحرب والبطالة والاستبداد وغياب الحريات وانتشار الفساد وانسداد الأفق والظلم المنتشر في كل مكان.. حوّل بلادناإلى جحيم لا يطاق. لم يعد الأمر مقتصرا على الشباب العاطل وعلى أصحاب الرأي والفكر بل طال الوباء كل طبقات المجتمع بما فيها الطبقات الميسورة التي تسارع بإرسال أبنائها إلى الخارج لأنها تعلم أنّ الطوفان قادم في الطريق وأن مسألة الهروب الكبير مسألة وقت فحسب.
فالتاجر والطبيب والمهندس والجامعي والقاضي.. صاروا جميعا يبحثون عن ملاذ خارج الوطن لهم وخاصة لأبنائهم بعد أن أتت عصابات الفساد والنهب على كل شيء. أنظر إلى السودان ولبنان وتونس وليبيا ومصر والجزائر وسوريا والعراق واليمن.. كلها صارت أرضا يستحيل فيها العيش بحرية وكرامة وأمن.
ليس الأمن ذاك المفهوم المدلّس الذي تصوّره السلطة السياسية وتروّج له أبواقها الإعلامية من انتشار للشرطة والحرس والجيش وقوات القمع في كل زاوية ومكان بل الأمن شعور فردي وجماعي بالرضى والأمان. وهو شرط العمران المسرع عن العدل وعن سلطة القانون الذي لا يكون ممكنا في ظل الاستبداد وسلطة الفرد الواحد الحاكم بأمره. بل الأدهى اليوم هو أنّ مفهوم الأمن بمفهومه الاستبدادي صار منعدما مع انفجار معدلات الجريمة والسطو والسرقة وانتشار الرشوة والمخدرات وكل أشكال الانحراف الاجتماعي تحت حراسة قوت الأمن نفسها.
لم يعد ممكنا في كثير من الدول العربية تصوّر مستقبل آمن بعد أن صارت المجتمعات غابات للوحوش يأكل فيها القويّ الضعيف فيصادر رزقه ويمنع قوته ويغتال كل أحلامه. صارت السلطة في قبضة عصابة من كبار اللصوص كما هو الحال في السودان.. حيث تملك عائلات وطبقة بعينها كل ثروات الوطن مستعينة في ذلك بحفنة من الاقطاعيين ولصوص المال العام. وهي العصابات التي تدرك جيدا أنها لن تعمّر طويلا لذا تراها أول من يرسل أبناءها خارج الوطن ليلتحقوا بالثروات المنهوبة التي تنتظرهم هناك.
نتيجة لمثل هذه الممارسات غير الأنسانية تداولت أما بالنسبة للطبقات الوسطى والفقيرة فقد انهارت كل المصاعد الاجتماعية بعد دمار التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية وهو الأمر الذي دفع بالكثيرين إلى الهروب من الوطن بحثا عن أرض آمنة تضمن لهم ولأبنائهم حياة كريمة لا يموت فيها البشر أمام أبواب المصحات الخاصة. قد لا نبالغ في القول إنّ قرى بكاملها فقدت خيرة شبابها خاصة في المناطق البعيدة عن المدن وعن المراكز الحضرية الكبرى. ففي السودان مثلا تكاد مدن الغرب والوسط والشرق تفرغ من سكانها بعد موجات الهجرة المتعاقبة التي طالت خاصة القوى العاملة النشطة من الشباب ومن الكفاءات العلمية والحرفية. كانت هذه الموجات مقتصرة في البداية على الهجرة الداخلية نحو العاصمة(الخرطوم) مثلا أو الحواضر الكبرى(ودمدني) للبحث عن العمل أو للدراسة لكنها تحولت خلال العقود الثلاثة الأخيرة إلى هجرة خارجية نحو أوروبا تحديدا سواء كانت هجرة منظمة للدراسة أو العمل أو عبر موجات الهجرة غير النظامية في قوارب الموت مثلا .. وظهرت على السطح مجموعات من المغتربين السودانيين المتواجدة بدول الخليج تنشط في خداع شباب السودان وتزين لهم الأحلام وتبيعهم الأوهام مقابل الفيز والزيارات (المغشوشة) وغير القانونية أو قد تكون سليمة لكن المفاجأة التي تكون بإنتظارهم هي أنه لا عمل ولا وظيفة ( لا شيء على الإطلاق غير الوهم والسراب) ويبدأ مشروع البحث عن أي وظيفة وبأي راتب وتحت أي ظروف خشية الرجوع من حيث جاء بعد أن يكون قد باع ( اللي قدامه واللي وراه ) ليدفع لسماسرة وبائعي الوهم بالسودان وبالدولة الخليجية التي يصلها . بالله عليكم هل هؤلاء بشر مثل بقية الناس ؟ وكيف يستحلون هذه المبالغ المدفوعة لهم من قبل الشباب ويدخلونها في حساباتهم الشخصية ؟ كيف؟؟ ما الذي غير صفاتنا كسودانيين بالمهجر والغربة ؟ لقد وصل الأمر ببعض من تم خداعهم في عاصمة خليجية إلي التسول في الشوارع أمام السيارات مرتديا الزي السوداني المميز ( الجلباب والعمامة ) ، مشهد لا تستطيع أن تتحمله كما لا تستطيع وصفه ولا يشبهنا كسودانيين تميزنا عزه النفس والكرامة والشهامة. ترك أمثال هذا المسكين الذي تم خداعه ترك مدينته أو قريته وفارق أهله حاله حال كثيرون هربوا بجلدهم بهدف تحسين أوضاعهم وتحقيق أحلامهم .
مدن طاردة وقرى تسكنها الأشباح ..
يلمس الزائر لهذه المدن والقرى خلال فصل الشتاء خاصة أن عدد السكان في تناقص مستمرّ وأن الشباب الذي كان يملأ المقاهي و المدارس والحواري قد تناقص بشكل لافت بل إنّ أرباب العمل وملاك المصانع والمزارعين صاروا يشتكون من ندرة اليد العاملة واختفائها. في بعض القرى البعيدة تطلب الأمر إلى إغلاق فصول دراسية بسبب غياب التلاميذ لأن نسبة السكان قد انخفضت فلا تكاد تجد أسرة واحدة تحتفظ بكل أبنائها الذين هاجروا وغادروا قراهم ومدنهم ولا يعودون إلا صيفا لزيارة الأهل ولم يبق منهم إلا من لم يستطع إلى الهجرة سبيلا.
المشهد مخيف ومرعب لأنّ تداعياته المستقبلية ستكون كارثية على الجميع لأن بعض المدن والقرى أُفرغت من شبابها ومن قواها العاملة المبدعة دون حرب ودون إطلاق رصاصة واحدة وهو ما يرتقي بهذا الظاهرة إلى مصاف جريمة ضد الإنسانية وضد الأمم والشعوب.وبنفس الاعداد المغادرة هذه يحدث احلال وهجرات لأعداد كبيرة ربما أكبر من اعداد المغادرين لجنسيات من غرب افريقيا تدخل إلي السودان من تشاد والنيجر ...ألخ دون رقابة أو متابعة وتستقر هذه المجموعات بالسودان وهذا خطر كبير يجب تداركه بسرعة ويجب التعامل معه قبل أن يقع الفاس في الرأس.
لكن في المقابل لا تكاد الأنظمة الاستبدادية الرسمية والأبواق الإعلامية المرتبطة بها والنخب الناطقة باسمها تولي الأمر أية أهمية وذلك لثلاثة أسباب رئيسية : أما السبب الأّول فيتمثل في أنّ هذه الظاهرة رغم خطورتها لا تشكل خطرا على بقاء النظام في الحكم وهو الأمر الوحيد الذي يشغل بال السلطة. ثانيا ستتخلص الدولة من عبء مسؤولية تشغيل هذه الأعداد الكبيرة من العاطلين عن العمل وهو ما سيخفف عنها عبء المسؤولية الاجتماعية. أما السبب الثالث فيتمثل في تحوّل هذه الأعداد المهاجرة إلى مصدر هام للعملة الصعبة لأنها ستقوم بإرسال مبالغ كبيرة إلى أهلهم في الوطن.
من سيبقى في وطن لا يجد فيه سريرا في مستشفى أو عملا يحفظ به كرامته ؟ من سيبقى في وطن لا يستطيع فيه التعبير عن رأيه بحرية ؟ من سيبقى في وطن كالسجن إن لم يكن أسوأ من أبشع السجن؟
الجديد اليوم في الحالة السودانية هو أنّ الجميع تقريبا يعرف الحلول لكنّه يقف عاجزا عن تنفيذها. أصل الداء في الحالة السودانية هو الفساد المستشري في البلاد الذي فرّخ كل الظواهر المرضيّة بما فيها ظاهرة الهجرة الجماعية الكثيفة لذا فإنه لا يمكن تصوّر إمكانية حلول للظاهرة دون تجاوز مرحلة الفساد في رأس السلطة الحاكمة للبلاد بالقوة الآن.

إذا تواصلت حالة الانسداد السياسي وتمادت مظاهر القمع ومصادرة الحريات بما هي الحارس الرسمي للفساد ولدولة العصابات فإن النزيف لن يتوقف بل سيتضاعف أضعافا. لا يوجد اليوم حلّ لكل مظاهر اختلال التوازن السوداني إلا برحيل نظام الاستبداد باعتباره مقدّمة ضرورية لوضع أسس دولة المؤسسات والقانون وكرامة الإنسان. عاش المجتمع السوداني طيلة عقود ضحية كل أنواع التخريب الناجم عن سياسات وخيارات الأنظمة الدكتاتورية الحاكمة لكنها كانت مرحلة قابلة لإصلاح أمّا اليوم فإن حالة النزيف البشري القويّ سترحل بأجزاء الجسم الاجتماعي كلّه مما يجعل من كل مشاريع الإصلاح أفعالا لاغية.
إن التهديد الديمغرافي هو اليوم تهديد وجودي للمجتمع السوداني نفسه خاصة في طبقاته السفلى وروافده الصغيرة التي تغذي النهر الكبير فهجرة الأدمغة قابلة للتعويض على المدى القريب لأنها طبقات علوية للجسم الاجتماعي أمّا هجرة النخاع الشوكي للمجتمع الذين هم شبابه وقواته العاملة فهو أمر غير قابل للتعويض إلا على المدي البعيد.
دون الوصول إلى حالة من الاستقرار السياسي التي يسبقها حتما إحلال سلطة سياسية راشدة ودون معالجة جذور الهروب الجماعي من بلاد صارت طاردة لأبنائها فإن المسألة الديمغرافية ستكون أكبر المخاطر التي سيواجهها السودان في المستقبل.

mido34067@gmail.com
////////////////////////

 

آراء