الثـورات الكـذوب
5 June, 2009
مؤيد شريف
يقال أن حزم المبادئ والمفاهيم الحديثة والمتمحورة حول الدولة الوطنية ومجموع الافكار المستجلبة من الغرب والمتصلة بموضوعات الحريات العامة والخاصة والمساواة والتي حملها الينا المثقفون المتغربون أو رياح الفضاء المفتوح ، يقال أن مجموع ما سبق ايغظ المجتمعات العربية من ثباتها العميق وازاح القناع عن الجذور الايدولوجية للاستبداد التاريخي المتطبع في المنطقة العربية وأن هذه المفاهيم المستحدثة للعلمانيين والليبراليين وقوى المجتمعات الحية الاخرى استطاعت أن تهز الأرض تحت اقدام الطبقة الاستبدادية التاريخية المتسعة وتضعف من قوتها وتُعريها أمام شعوبها وتقلص من مساحات الشرعية التاريخية المعيبة والتي طويلا ما استندت عليها الانظمة المسيطرة والقابضة ،،، ويمكن أن يكون ما تقدم صحيحا لو أننا نعالج واقعا خاضعا للطبعيات وفيه شيء من نظام راسخ ، واقع فيه سلطة شرعية ومستمدة من شعوبها ، واقع فيه مجتمع تسنده تجارب التاريخ، وبالنظر الي الواقع العربي ،بتعميم غير مخل ، فاننا نصطدم بواقع السلطة الثورية الفاقدة للشرعية ومجتمعات تُقعدها السلطة قسرا عن القيام بادوارها الحقيقة ومقعدة ذاتيا بتمسكها بعلاقات الاليغارشية القبلية والعشائرية ونظمها المجتمعية القديمة والمضطربة . والتغيير الاجتماعي تحدثه ،قصرا ، السلطة السياسية بثوراتها الفجائية وتدخلاتها الحادة وايدولوجياتها الاحادية ، وما تصنعه من تغيير يظل دائما سطحيا وغير راسخ ، فالتغيير الحقيقي في عالم اليوم المتعدد لا تصنعه قيادة ما وتنزله الي شعوبها ، بل علي العكس من ذلك بان توجده القاعدة وتتبناه لحاجات ملحة لديها وتعمل به ومن خلاله علي ايجاد القيادة من بين صفوفها وهذه هي الحالة الحقيقية لما يمكن أن نسميه بالثورة .
وكثير مما اصطلحنا علي تسميتها بالثورات العربية لم تكن ثورات حقيقية بطبيعتها وممارستها ومالاتها بقدر ما عبرت عن حالات تغير وتبدل في مواقع السلطة من مجموعة عسكرية لصالح مجموعة اخرى أو من طبقة مسيطرة لصالح طبقة موازية ومشابهة ولا اختلافات ذات دلالة بينها ، وهذا لا يعمينا عن بعض نماذج الثورات القاعدية والتي أسهمت في اشعالها قوى المجتمع الحية والفاعلة من فلاحين وعمال لاسباب موضوعية ومسائل وطنية ملحة تتصل بحالة السيطرة الاجنبية والرغبة في التحرر ؛ وهذا النوع الاخير وعلي الرغم من نجاحه في انهاء حالة السيطرة الاجنبية الا أنه جعل من السلطة محور اهتمامه ولم يعمل للانتقال من حالة الثورية منقوصة الشرعية الي شرعية التفويض الوطني ، وسريعا ما تتحول الثورة المحررة وبفضل زهو الثوار بما يشاهدوه من حشود مؤيدة لهم الي حكاما مستبدين وقمعيين يصنعون لانفسهم طبقة واسعة ومتسعة من العسكريين والمتعلمين ورجال الاعمال والمال لتتكرس حالة من السيطرة الكاملة لهم .
وكلمة "ثورة" والتي كثيرا ما نستخدمها في قاموسنا السياسي العربي هي في غالبيتها كانت حركات وعصيانات مسلحة متلفحة بالايدولوجيا الكاذبة ، وكان أن وجدت لنفسها واقعا مأزوما ومناخات اجتماعية وسياسية متضعضعة تُغري بالوثوب علي السلطة ولا تنطبق عليها ، باي حال من الاحوال، الدلالة اللفظية لكلمة "ثورة". وبسبب الاستخدام الايدولوجي والسياسي المغرض للكلمة ضاعت معانيها الحقيقية ودلالاتها المقصودة وغامت وسط ضباب كثيف من خطابات السياسة المسطحة والموجهة .
الثورة التي أعني يمكن ان تتمثل في التحولات التدريجية الواعية في النظام الاساس لشرعية الدولة ونظامها الاجتماعي بدفعٍ من مجتمعات هاضمة وساعية بالتجربة والتاريخ ؛ وعندها فقط يكون الاثر الايجابي للتغير راسخ وجيد التثبت في الواقع الاجتماعي ، فما كان من تغيير لم يكن فجائيا أو حادا أو عنيفا وانما بادرت بايجاده قوى من خارج دائرة الحكم المصلحية ؛ ومما سبق لا يمكن ان تكون الثورة فعلا عسكريا أو أمنيا مرصعا ببريق الايدولوجيا المضل والمفرط في خطابات الحماسة والتحشيد ووعود التغيير دون امتلاك لادوات التغيير ، وانما يكون التغيير فعلا واعيا ومتدرجا منبته القاعدة وتستوعبه الجماهير لمصلحة مباشرة ومكاسب متوفرة . أما ما درجنا علي تسميتها بالثورات فهي لم تكن في حقيقتها العميقة سوى حركات للسلطة والسيطرة وجدت في الايدولوجيا رئة تمكنها من زفر حرى رغباتها السلطوية وبعد ان تطاولت بها السنون في السلطة وامتدت ببعضها لفترات طويلة تصل الي نصف قرن واكثر من ذلك وأنها استهلكت خطابها الايدولوجي واستنزفت قدراتها الخطابية التسكينية ولم تعد الاوضاع كما كانت بتغير معطيات الساحة السياسية الداخلية والخارجية أضطرت لتغيير ادواتها ووسائلها فتخلت عن الايدولوجيا ولجات للقبضة الامنية والبوليسية معلنة القطيعة مع "مبادئها" الاولى والتي ادعت تفجرها دفاعا عنها لتنحرف كثير من "الثورات" الي مشاريع للسلطة الطبقية والقبلية والطائفية لا تكبحها حتى ايدولوجيتها المصطنعة ، وبعضها رفع شعارات اليسار ورددها ليل نهار وسمح في ذات الوقت بالاحتكار الاقتصادي واستغلال الطبقة العاملة لمصلحة قططه السمان ،، ومنها من أدعى مشروعا اخلاقيا حضاريا فعرفت مجتمعاتهم في عهدهم تفسخا اخلاقيا كما لم تعرفه في عهد من قبلهم ..
وخلاصة القول أن ما اصطلحنا علي تسميتها بـ " الثورات؛ مجيدة كانت او ظافرة او مباركة " ما هى الا "خوازيق " تاريخية جثمت علي صدورنا زمنا طويلا كرست فيه لسلطتها المطلقة وعلقت ثوارنا الحقيقيين وأصحاب الفكر علي المشانق حقيقية كانت أو معنوية واستزرعت الجهل بالتعليم والجهل الاستغبائي والمصلحية الجشعة وأعادت ولازالت تعيد عقارب الساعة الي الوراء بعيدا ....
أجراس الحرية