الجبهة الإسلامية القومية: من عرس الشهيد الى الوحدة الجاذبة!! بقلم: إبراهيم الكرسني

 


 

 


أشرنا فى مقالنا السابق بعنوان، "مثلث الخروج من النفق المظلم"، الى أن إهتمام الجبهة المبرمج بمشكلة جنوب الوطن قد بدأ يأخذ مضمونا فكريا و سياسيا واضحا منذ أيام "المصالحة الوطنية" على عهد النظام المايوي. لم يكن لدي الجبهة موقف مميز، لا فكريا و لا سياسيا، تجاه قضية الجنوب يختلف كثيرا عن بقية أحزاب ما أسمته ب "أهل القبلة"، بل لقد ظلت تظن بأن أقصي ما يستحقه الإخوة من جنوب الوطن هو تمثيلهم بعضو واحد فى مجلس رأس الدولة الصوري، بالإضافة الى وزارة الثروة الحيوانية، على المستوي المركزي، مع منحهم بعض المواقع الإدارية الهامشية، حتى داخل حدود الإقليم الجنوبي نفسه.
إن هذا الموقف لم يأت من فراغ، بل كان مبنيا على موقف عنصري غير معلن يمكن وصفه بالإستعلاء العرقي. أكثر ما ميز معظم قياداتنا السياسية فى الشمال هو توهمهم بأنهم عرب خلص، لا ينحدرون فقط من جزيرة العرب، بل يزعم بعضهم بالإنتماء الى العباس، عم الرسول(ص)، مباشرة. بمعني آخر أنهم لا يقبلون حتى بالإنتماء لغير الصفوة، قبيلة قريش، من بين القبائل العربية جميعها...فتأمل!! لذلك ظلت أحزاب "أهل القبلة" تتعامل مع القيادات الجنوبية بإعتبارها قاصرة و تحتاج دوما الى من يبصرها بتشخيص مشاكلها، ووضع الحلول الناجعة لها. أساس هذه النظرة القاصرة هما بلوتي الإستعلاء العرقي و ما أسميته فى مقالات سابقة ب"القفص الآيديلوجي"، ممثلا فى شعارهم الفارغ، " الإسلام هو الحل"، الذي أصموا به آذاننا ، من دون أن يكلفوا أنفسهم حتي عناء توضيح طبيعة المشكل التى يعتقدون بأن الإسلام هو حل لها. و هذا بطبيعة الحال لا يخرج عن إطار "الإستهبال" الآيديلوجي و السياسي، الذي ظلوا يمارسونه على الشعب السوداني ، منذ دخولهم حلبة الصراع السياسي، و حتي وقتنا الراهن.
لكن موقف الجبهة إزاء قضية الجنوب قد بدأ يتغير شيئا فشيئا منذ تحالفهم مع النظام المايوي، بموجب المصالحة الوطنية التى تم إبرامها مع بعض قيادات الجبهة الوطنية المعارضة فى العام 1977، و مشاركتهم فى الحكومة، على جميع المستويات، المركزية منها و الإقليمية، على إثر ذلك. أخذ موقف الجبهة من "مشكلة" الجنوب يأخذ بعدا آيديلوجيا و سياسيا مميزا منذ ذلك الحين. لقد رأت الجبهة حينها أن النظام المايوي البغيض هو أكثر الأنظمة تأهيلا لبدء تطبيق مشروعها الفكري و السياسي لحكم الشعب السوداني، فى الشمال و الجنوب فى ذات الوقت. بدأت الجبهة إستعدادها لتطبيق مشروعها "الإسلامي" لحكم البلاد بإقناع الدكتاتور المايوي بأهمية تبني ذلك المشروع، بل و تطبيقه لحل مشاكل السودان،و إمعانا فى إستهبالها السياسي ظلت ترفع شعارها الفارغ من أي مضمون بأن "الإسلام هو الحل".
وجدت هذه الدعوة هوي عند الدكتاتور المايوي ظنا منه بأنه عند تبنيها سوف يتمكن، بقدرة قادر، من الخروج من الأزمة السياسية الطاحنة التى كانت تقبض برقاب نظامه فى ذلك الوقت، وبالأخص حينما أوهمه ثعالب الجبهة بأن المولى قد بعثه الى الشعب السوداني إماما لتجديد الدين. بدأ النظام المايوي فى تطبيق مشروع الجبهة الإسلامية بسن و تطبيق قوانين سبتمبر الغبراء، سيئة الصيت، فى العام 1983، و التى أسمتها الآلة الإعلامية "السنينة" للجبهة بقوانين الشريعة الإسلامية، وهي تعلم تمام العلم بأن الشريعة الإسلامية الغراء بريئة منها براءة الذئب من دم إبن يعقوب، لكنه الإفتراء على رب العباد لإرهاب عباده، حتى من المسلمين الذين لا ينتمون الى طائفتهم المضللة.
كانت الجبهة تهدف من وراء إطلاقها لهذا المشروع الى ضرب عصفورين بحجر واحد. الأول هو المزايدة على بقية الأحزاب التى تزعم بانها تتبني الشريعة الإسلامية، و بالأخص حزبي الأمة و الإتحادي، و ممارسة أقصي درجات الإرهاب الفكري على قياداتها لتأييد تلك القوانين الجائرة،و قد نجحت فى ذلك الى حد كبير، و الدليل أن تلك هي القوانين السائدة فى البلاد حتى وقتنا الراهن، أو معارضتها الصريحة لها، و بالتالى وصفها بأنها أحزاب لا تتوفر لدي قياداتها الغيرة المفترضة فيها نحو الإسلام، وهي بذلك تعتبر عاجزة عن الزود عن حياضه. أما الثاني فهو خلق أقصي درجة من الإستقطاب بين القوى السياسية، و بالأخص الجنوبية منها، وذلك من خلال رفضها "المضمون" لقوانين سبتمبر الغبراء، و بالتالي تقسيم الخارطة السياسية الى "كومين": الأول يتمثل فيما أسمته ب"اهل القبلة"، وهو ما كانت تعتقد بأنه سيضم كل من يؤيد قيام دولة دينية فى السودان من أحزاب و أفراد. أما "الكوم" الثاني فيتمثل فى كل القوى التي سوف تعارض تلك القوانين الشائهة، و بالتالي يمكن وصفها بالفئة الخارجة عن ملة الإسلام.
لقد نجحت الجبهة الإسلامية القومية، ومنذ ذلك الأمد البعيد، فى تقسيم السودان الى "فسطاطين": "فسطاط" الإسلام، و "فسطاط" المشركين. يشكل شمال السودان بحدوده المعروفة فى العام 1956، عام إستقلال البلاد، "فسطاط" المسلمين. أما "فسطاط" المشركين فيتمثل فى إقليم جنوب السودان، بحدوده المعروفة كذلك عند إستقلال البلاد. هذا هو الأساس الذي قامت عليه إستراتيجية الجبهة السياسية. فصل "فسطاط" المشركين تماما حتي يتسني لها الإستفراد بالحكم المطلق ل"فسطاط" الإسلام، و إقامة دولتها "الإسلامية" على أراضيه.
لقد سنحت الفرصة المواتية للجبهة لتنزيل إستراتيجيتها غير المعلنة حتى ذلك الوقت، و التى تمت دراستها بعناية فائقة، الى أرض الواقع فى الثلاثين من يونيو عام 1989 ، حينما قامت بسرقة السلطة السياسية، فى ليل بهيم، بواسطة إنقلابها المشؤوم، و الذى أدخل البلاد فى النفق المظلم منذ ذلك الحين، و الذى لم تتمكن من الخروج منه حتى الآن. أجهرت الجبهة بتلك الإسترايتجية حينما دانت لها أمور البلاد تحت دكتاتوريتها العسكرية المطلقة، و أصبحت جميع موارد السودان، الطبيعية و المالية و البشرية، تحت إمرتها تتصرف فيها كيفما شاءت، دون حسيب أو رقيب، و فى غياب تام لأي معارضة حقيقة على أرض الواقع، حيث دخلت أحزاب المعارضة فى غيبوبة سياسية لم تفق منها حتي الآن.
 رات الجبهة الإسلامية القومية أن هذا هو الوقت المناسب لتطبيق كل ما كانت تنادي به من شعارات بداءا من تأسيس دولة "التوجه الحضاري"، مرورا بإعادة صياغة الإنسان السوداني، و إنتهاءا بفصل جنوب الوطن، "فسطاط" المشركين. لذلك فقد رفعت شعار " الجهاد" لمحاربة المشركين فى الجنوب و حولت الحرب فى ذلك الجزء من الوطن من حرب لرفع المظالم و رد الحقوق المسلوبة الى أهلها، الى حرب دينية قذرة راح ضحيتها خيرة أبناء الوطن من الجانبين. أفردت الجبهة فى غمار خوضها لتلك الحرب القذرة أمضى أسلحتها الآيدلوجية التى أفضت الى العديد من الصور المأساوية و العبثية. كان أفضل تجسيد لتلك الصور ما أسماه قادتها الماكرين ب"عرس الشهيد"، حيث أرسلوا خيرة أبنا البسطاء من أبناء و بنات الشعب السوداني ليلاقوا حتفهم فى أحراش الجنوب، ثم يقومون بإرسال أبنائهم ليدرسوا فى أفضل الجامعات فى أراضي "المشركين" من الدول الغربية، و حينما سئل كبيرهم، الذى علمهم السحر، عن طبيعة هذا الفصام الآيديولوجي، أجاب بأن الله سبحانه و تعالى لم يكتب الشهادة لأبنائه...فتأمل!! إنه الإستهبال السياسي و الإستغفال الآيديولوجي فى أبهى صوره و تجلياته.
شنت الجبهة تلك الحرب اللعينة لما يزيد على الخمسة عشر عاما من الزمان، و لم تنجح فى فصل الجنوب من خلالها، أو إخضاعه ليدفع سكانه الجزية وهم صاغرون، بإعتبارهم "مشركين"، و بالتالى مواطنون من الدرجة الثانية يقيمون ليس فى وطنهم، ليتمتعوا بكامل حقوقهم، و إنما يقيمون كرعايا فى "فسطاط" الإسلام...فتأمل!! و حينما أيقنت الجبهة بعدم قدرتها فى  تحقيق هدفعا، وهو فصل الجنوب، من خلال الحرب  لجأت الى حيلة أخري للوصول الى نفس الهدف، و هو منح شعوب الجنوب حق تقرير مصير السودان، و ليس الجنوب وحده، كما يعتقد على نطاق واسع، و الذى تضمنته إتفاقية نيفاشا، الموقعة بينها و بين الحركة الشعبية فى عام 2005، فى تغييب لقادة أحزاب المعارضة، مقصود ومتفق عليه بين الشريكين، و من خلف ظهر الشعب السوداني، و الذى سيجرى تنفيذه فى التاسع من يناير من عام 2011.
حينما تأكد للجبهة الإسلامية القومية بأن هدفها الإستراتيجي، المتمثل فى فصل "فسطاط" المشركين، سيتحقق قريبا، بدأت تلتفت الى حقيقة أخري ستعتبر بمثابة جرعة مرة ستتجرعها يوما ما، طعمها سيكون بطعم النظل، و ربما قادت الى موتها البطئ، إن هى تجرعتها وحدها، و هى حقيقة أن هنالك مسؤولية تاريخية، و سياسية، و أخلاقية، ستترتب على هذا الإنفصال. و قد وعت كذلك الى أهمية إشراك بقية القوى السياسية فى الشمال فى "بلع" تلك الجرعة معها، إن هي أرادت تفادي الموت السياسي البطئ الذى سوف ينتج عن تجرعها لها بمفردها. لذلك بدأت الجبهة فى عزف "أسطوانة" الوحدة الجاذبة"، ك"طعم" يمكن من خلاله إصطياد قوى المعارضة، و إدخالها فى شباكها لكيما تتحمل معها نتائج كل الموبقات و الجرائم التى إرتكبتها فى حق الشعب و الوطن،منذ قيام إنقلابها و حتى وقتنا الراهن، و التى يأتى فى طليعتها فصل جنوب السودان.
جندت الجبهة لتحقيق هذا الهدف كل آلياتها و أسلحتها المجربة، و بالأخص آلتي الأمن و الإعلام. لقد رجعت الجبهة الى مربع "الإنقاذ" الأول، من الناحية الأمنية، لإرهاب كل القوى السياسية و "جرها" الى شرك تحمل هذا الوزر، تارة من خلال إستعمال القوة الناعمة ، كالدعوة  للتشاور مع قيادات أحزاب المعارضة ، و تارة أخري من خلال اللجوء الى القوة الخشنة، كما حدث لقياداتها و صحفها، و محرريها و كتابها من إعتقال، و تعذيب ، بل و إغلاق الصحف بالضبة و المفتاح، إن إقتضت الضرورة ذلك. أما من الناحية الإعلامية فقد بدأت أجهزة إعلامها المقروء و المسموع و المشاهد فى تكثيف برامجها حول وحدة السودان بدءا من الأناشيد، مرورا بالبرامج السياسية و إنتهاءا بالبرامج الدينية. بل إن خطباء مساجدها، الذين هم جزء لا يتجزء من قيادتها السياسية، قد وظفوا منابر مساجدهم للتبصير بأهمية وحدة التراب الوطني. من يرى أو يسمع أو يقرأ ما تبثه تلك الأجهزة من مواد حول الوحدة الجاذبة يصاب بالدوار، إن لم نقل بالغثيان.
كيف يعقل لمن سعى بكل ما أوتي من قوة لفصل جنوب الوطن، "فسطاط" المشركين غير المعلن، أن يأتي لإقناعنا بأهمية وجود ذلك " الفسطاط" كجزء من أرض المسلمين؟ وكيف يعقل لمن أباد الآلاف المؤلفة من أبناء الشعب السوداني لفصل جنوب السودان، فى حرب لعينة إستمرت لسنين عددا، أن يأتي ليحثنا على العمل بكل ما أوتينا من قوة لجعل الوحدة جاذبة فيما تبقى من مدة زمنية لا تتجاوز الخمسة أشهر؟ إن هذه المسرحية السمجة التى تعج بها أجهزة الإعلام الجبهوي فى هذه الأيام لا تعدو أن تكون جزءا من إستراتجية إستهبال و إستغفال الشعب السوداني التى ظلت منهجا ثابتا للجبهة الإسلامية طيلة تاريخها الملطخ بالدماء الطاهرة لأبناء و بنات الشعب السوداني البطل.
إن المأساة الحقيقية لا تكمن فى هذا الإستغفال و الإستهبال، أو حتى فى إنفصال الجنوب، و إنما المأساة تكمن فى خضوع قيادات أحزاب المعارضة الشمالية لإرهاب و إبتزاز قادة الجبهة، و الإنجرار خلف شعاراتهم الماكرة و الخادعة، التى يرون الماء متدفقا من خلالها حينما "يسوقونها" لهم، ليكتشفوا بأنها ليست سوى سراب فى نهاية الأمر، حينما يستفيقوا مؤقتا من غيبوبتهم السياسية. إن المأساة ستكون حقيقة ماثلة على أرض الواقع بالنسبة لقيادات أحزاب المعارضة حينما يروا قيام دولتين جديدتين على أرض ما كان يعرف بجمهورية السودان، و أن الجبهة الإسلامية قد إنفردت بحكم الدولة الوليدة فى الشمال. حينها سيرى قادة أحزاب المعارضة إستراتيجية الجبهة لحكم "دولتها الإسلامية" الوليدة فى شمال البلاد ماثلة أمام ناظريهم، و ربما أفاقوا، ولو مؤقتا، من غيبوبتهم السياسية تلك،حينما تقوم أجهزتها المختلفة بإرهابهم،و إذلالهم، و التنكيل بهم، و إذاقتهم الأمرين!!
18/8/2010
ملحوظة أخيرة: نطلق مسمى "الجبهة القومية الإسلامية" على الحركة الإسلامية بمختلف مسمياتها عبر مختلف الحقب السياسية.
 

 

آراء