الجدل الفقهي حول حكم مشاركة المسيحيين الاحتفال بأعيادهم وضرورة الانتقال من الإجمال إلى التفصيل

 


 

 

د. صبري محمد خليل- أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه في جامعه الخرطوم

Sabri.m.khalil@gmail.com

تمهيد : اختلف العلماء في حكم مشاركه المسيحيين الاحتفال بأعيادهم – ومظهرها الاساسى تهنئتهم بأعيادهم – إلى مذهبين:

الأول : مذهب المنع : وهو المذهب الذي يقول بالمنع بدرجاته من كراهة أو تحريم ، ويستند إلى العديد من الادله أهمها:

أولا: أن مشاركه المسيحيين الاحتفال بأعيادهم هو تشبه بهم ، وقد نهت العديد من النصوص عن التشبه بغير المسلمين كقول الرسول (صلى الله عليه
وسلم) (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)

ثانيا:انه حادث في تاريخ الامه فهو بدعه.

ثالثا:انه يشتمل على أمور محرّمة في الغالب.

رابعا:انه إبدال لأعياد المسلمين بأعياد المشركين وهو ما نهت عنه النصوص ، فعن أنس (رضي الله عنه) قال: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ: (مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟) قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الأَضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ) (رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني).

خامسا: إفتاء العديد من علماء أهل السنة بتحريم المشاركة في أعياد المشركين ، ومنهم ابن تيمية” – في كتابه(اقتضاء الصراط المستقيم)،وابن القيم في كتابه(أحكام أهل الذمة (…

الثاني:مذهب الجواز: و هو المذهب الذي يقول بجواز مشاركه المسيحيين الاحتفال بأعيادهم ، استنادا إلى العديد من الادله أقوال علماء مذهب
الجواز:

· يقول الشيخ مصطفى الزرقا(إن تهنئة الشخص المسلم لمعارفه
النصارىبعيد ميلاد السيد المسيح عليه الصلاة والسلام هي في نظري من قبيل المجاملة لهم والمحاسنة في معاشرتهم وأن الإسلام لم ينهانا عن مثل هذه المجاملة أو المحاسنة لهم …) (فتاوى مصطفى الزرقا: ص355- 357( .

· ويقول الشيخ نصر فريد محمد واصل ( ... أنه لا مانع شرعاً في
مجاملة غير المسلمين وتهنئتهم أو مواساتهم في أي مناسبة تحل بهم. وأن هذا هو التطبيق الأمثل للإسلام وليس في ذلك خروجاً عن الدين أو فيه نوع من الحرمة كما يرى بعض المتشددين فالدين يسر لا عسر ولما ورد “لو شاد الدين
أحدكملغلبه) (الفتاوى الإسلامية: ص482- 489 (.

· وأجاز الشيخ محمد رشيد رضا زيارة غير المسلم وتهنئته بالعيد
واستشهد بأن النبى -صلى الله عليه وسلم- عاد غلاما يهوديا، ودعاه للإسلام فأسلم

· ويقول شرف محمود القضاة (يكثر السؤال في هذه الأيام عن حكم تهنئة
المسيحيين بأعيادهم، وللجواب عن ذلك أقول إن الأصل في هذا الإباحة، ولم يرد ما ينهى عن ذلك، وكل ما سمعته أو قرأته لمن يحرمون هذه التهنئة أن في التهنئة إقرارا لهم على دينهم الذي نعتقد أنه محرف، ولكن الصحيح أنه لا يوجد في التهنئة أى إقرار.).

· . وكذلك ذهب الشيخ أحمد الشرباصى إلى مشاركة النصارى في أعياد الميلاد
بشرط أن لا يكون على حساب دينه.

أدله مذهب الجواز: وينقسم هذا المذهب إلى قسمين :

قسم نافى(الرد على مذهب المنع) : يتضمن الرد على أدله المذهب الثاني، ويتضمن:

أولا: أنه لا يشترط أن تكون مشاركه المسيحيين الاحتفال بأعيادهم من باب التشبه بهم او الإقرار بعقائدهم، بل قد يكون من باب إظهار محاسن الإسلام أو الإحسان

ثانيا: أن هذه المشاركة ليست أصل من أصول الدين حتى تعتبر بدعه، إذ البدعة هي أضافه إلى الدين، على مستوى أصوله النصية الثابتة ،وليست فروعه الاجتهادية المتغيرة.

ثالثا:انه لا يشترط أن تشتمل المشاركة على أمور محرّمة.

رابعا:أنه لا يشترط ان تكون هذه المشاركة من باب إبدال لأعياد المسلمين بأعياد المشركين .

خامسا: إن إفتاء بعض علماء أهل السنة بتحريم المشاركة في أعياد غير المسلمين ،باعتبار أن هذه المشاركة من باب التشبه بغير المسلمين في عقائدهم والشعائر ،وبالتالي فان هذا التحريم لا يشمل المشاركة من أبواب أخرى كإظهار محاسن الإسلام والإحسان.. كما سبق ذكره .

قسم مثبت (ادله جواز ألمشاركه): يتضمن أدلته على جواز مشاركه المسيحيين الاحتفال بأعيادهم.
ا/ قال الله تعالى ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ) [لممتحنة :8 (.

ب/ عن أنس (رضي الله عنه ) قال: كان غلام يهودي يخدم النبي (صلى الله عليه وسلم) فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده? فقعد عند رأسه فقال له: أسلم” فنظر إلى أبيه وهو عنده? فقال له: أطع أبا القاسم (صلى الله عليه وسلم)? فأسلم. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: “الحمد لله الذي أنقذه من النار”. قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث جواز استخدام المشرك?وعيادته إذا مرض وفيه حسن العهد… ( فتح الباري بشرح صحيح البخاري:
ج3ص586 ) .و قال الإمام العيني ( وفيه: جواز عيادة أهل الذمة? ولا سيما إذا كان الذمي جاراً له? لأن فيه إظهار محاسن الإسلام وزيادة التآلف بهم ليرغبوا في الإسلام …) . (عمدة القاري شرح صحيح البخاري: ج6 ص242) .

ج/ أن الله -تعالى- أحل الزواج مِن الكتابية كما فى قوله تعالى (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (المائدة:5(.

د/ نُقل عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كثير من المعاملات مع أهل الكتاب
: كالبيع والشراء، والمؤاجرة، وقبول الهدية منهم والإهداء لهم، وعيادة مريضهم، والأكل من طعامهم، ..
مذهب التفصيل :أما المذهب الذي نرجحه فهو مذهب التفصيل الذي لا يضع حكما كليا بالمنع بدرجاته أو الإيجاب بدرجاته ،بل يميز بين كيفيتين أساسيتين لمشاركه المسيحيين الاحتفال بأعيادهم :
الكيفية الأولى: تقوم – على المستوى الاعتقادى – على مشاركه المسيحيين أعيادهم بنيه التشبه بهم ،كما تقوم على المستوى السلوكي على كثير من الأفعال التي وردت النصوص بمنعها كراهة أو تحريما. وهذه الكيفية – طبقا لمستوها الاعتقادى – حكمها المنع ، لكن المنع هنا لا يقتصر على درجه التحريم،فقد يكون على درجه الكراهه، فالمشاركة بنية التشبه بهم ، باعتبار أن هذه الأعياد أمر دنيوي (عرف) حكمها الكراهة ، و المشاركة بنية التشبه بهم ، باعتبار أن هذه الأعياد أمر ديني (اعتقاد او شعيره) حكمها التحريم ، ونستدل على هذا التفصيل لدرجتي المنع بالاتي :
أولا: اختلاف العلماء في درجه منع المشاركة: أن العلماء الذين قالوا بالمنع اختلفوا في درجه منع المشاركة” الكراهة، التحريم “، يقول الشيخ عبد الله بن بيه نقلا عن “الإنصاف” ( أن الإمام أحمد له ثلاث روايات
فيذلك: التحريم والكراهة والجواز).

ثانيا: عله المنع بدرجه التحريم المشابهة في العقائد والشعائر المخالفة
للإسلام: أن عله المنع بدرجه التحريم عند هؤلاء العلماء هي المشابهة في العقائد والشعائر، التي تتناقض مع أصول الدين ، والتي عبر عنها الإمام ابن القيم بتعبير “شعائر الكفر المختصة به” كما فى قوله (وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم
فيقول: عيد مبارك عليك أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر، فهو من المحرمات وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب بل ذلك أعظم إثمًا عند الله وأشد مقتًا من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه، وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع فى ذلك ولا يدرى قبح ما فعل، فمن هنأ عبدًا بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه، وقد كان أهل الورع من أهل العلم يتجنبون تهنئة الظلمة بالولايات وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس والإفتاء، تجنبًا لمقت الله وسقوطهم من عينه، وإن بلى الرجل بذلك فتعاطاه دفعا لشر يتوقعه منهم فمشى إليهم ولم يقل إلا خيرًا ودعا لهم بالتوفيق والتسديد فلا بأس بذلك) (أحكام أهل الذمة(..

ثالثا: تقرير بعض العلماء عدم تكفير من تشبه بكافر ولم يعتقد ان يكون مثله : قرر العديد من العلماء أن من تشبه بكافر ، ولم يعتقد أن يكون مثله لا يكفر يقول الصنعاني(فإذا تشبه بالكافر في زي واعتقد أن يكون بذلك مثله كفر، فإن لم يعتقد ففيه خلاف بين الفقهاء: منهم من قال يكفر، وهو ظاهر الحديث، ومنهم من قال: لا يكفر؛ ولكن يؤدب) (سبل السلام :8/842 ( .كما ان هذه الكيفية – طبقا لمستواها السلوكي – تتضمن ما هو محرم او مكروه.

عدم تكفير من شارك المسيحيين الاحتفال باعيادهم بنيه التشبه بهم: غير ان تقرير منع مشاركه غير المسلمين الاحتفال بأعيادهم بنيه التشبه بهم، لا يترتب عليه تكفير من شاركهم بنيه التشبه بهم ، سواء باعتبار هذه الأعياد أمر دنيوي(عرف) أو أمر ديني (اعتقاد أو شعيره)، وهنا نستأنس بكون بعض العلماء الذين قالوا بتحريم المشاركة، لم يقطعوا بكفر المشارك ، يقول ابن القيم(وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر، فهو من المحرمات …) (أحكام أهل الذمة( .

الكيفية الثانية: لا تقوم – على المستوى الاعتقادى – على نية التشبه بهم، كما تقوم هذه الكيفية -على المستوى السلوكي – على تجنب الأفعال التي وردت النصوص بمنعها كراهة أو تحريما. وهذه الكيفية طبقا لمستواها الاعتقادى حكمها الجواز ، وهنا نستأنس بالتالي:

أولا: عله التحريم التشبه بغير المسلم : ان عله التحريم عند العلماء الذين قالوا به هو التشبه بغير المسلمين الذي وردت النصوص فى النهى عنه، يقول ابن كثير (…فليس للمسلم أن يتشبه بهم لا في أعيادهم ولا مواسمهم ولا في عباداتهم لأن الله – تعالى -شرف هذه الأمة بخاتم الأنبياء الذي شرع له الدين العظيم القويم الشامل الكامل ..)(البداية والنهاية:2/142).ويقول السيوطي(أعياد اليهود أو غيرهم من الكافرين أو الأعاجم والأعراب الضالين لا ينبغي للمسلم أن يتشبه بهم في شيء من ذلك ولا يوافقهم عليه)( الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع:ص145(

ثانيا: تمييز بين ابن تيميه بين التشبه والمشابهه: ميز الامام ابن تيميه بين التشبه القائم على القصد ، والمشابهة وهى بدون قصد (.. فإنّ موافقتهم فيما يفعلون على قسمين: 1- تشبه بهم وهو ما كان للمتشبه فيه قصد التشبه لأي غرض كان وهو المحرم. 2- مشابهة لهم وهي ما تكون بلا قصد لكن يبين لصاحبها وينكر عليه فإن انتهى وإلاّ وقع في التشبه المحرم… (الاقتضاء) .
ثالثا: تقرير بعض العلماء جواز قبول هديتهم: فقد قرر العديد من العلماء جواز قبول هديتهم يوم عيدهم ، ما لم تتضمن الهديه ما هو محرم”كالخمر مثلا ” ولا يكون قبولها من باب إعانتهم على العقائد والشعائر المخالفة للإسلام، وقد استدل هؤلاء العلماء بالعديد من الدله منها:
أولا:أن امرأة سألت عائشة – رضي الله عنها – قالت إن لنا أظآرا من المجوس وإنه يكون لهم العيد فيهدون لنا؟ فقالت عائش: أما ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا ولكن كلوا من أشجارهم( مصنف ابن أبي شيبة : 8/88) ثانيا:أنَّه كان لأبي برزة سكان مجوس فكانوا يهدون له في النيروز والمهرجان؛ فكان يقول
لأهله: ما كان من فاكهة فكلوه وما كان من غير ذلك فردوه(المرجع السابق).يقول ابن تيميه (وأما قبول الهدية منهم يوم عيدهم فقد قدمنا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أتي بهدية النيروز فقبلها … فهذا كله يدل على أنه لا تأثير للعيد في المنع من قبول هديتهم بل حكمها في العيد وغيره سواء، لأنه ليس في ذلك إعانة لهم على شعائر كفرهم)( اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم : 2 / 50(.

من أدله مذهب التفصيل الاجماليه : ويمكن الاستدلال على مذهب التفصيل ، في حكم مشاركه المسيحيين الاحتفال بأعيادهم -على وجه الاجمال – بمذهب الإمام الشافعي في حكم مساهمه المسلم فى بناء للكنائس ، حيث اختلف الفقهاء إلى عده مذاهب أجماليه منها: مذهب التحريم :وهو مذهب المالكية والحنابلة وجمهور الشافعية وهو قول الصاحبين أبي يوسف ومحمد من الحنفية. ومذهب الجواز :وهو مذهب الإمام أبو حنيفة الذى ذهب إلى جواز تعاقد المسلم على بناء الكنيسة أو إجارة الدار لتتخذ كنيسة: جاء في البحر الرائق : ” ولو استأجر أي الذمي المسلم ليبني له بيعة أو كنيسة جاز ويطيب له الأجر”،وفي الفتاوى الهندية: “ولو استأجر الذمي مسلما ليبني له بيعة أو كنيسة جاز ويطيب له الأجر كذا في المحيط.”( البحر الرائق: ج8 ، ص 123 ). أما مذهب الإمام الشافعي، فهو مذهب التفصيل ، حيث فرّق بين الكنيسة التي تتخذ لمصلى النصارى الذين اجتماعهم فيها على الشرك ، وبين تلك التي تُتخذ للضيافة ومأوى المارة . حيث يقول “.. ليس في بنيان الكنيسة معصية إلا أن تتخذ لمصلى النصارى الذين اجتماعهم فيها على الشرك ” (كتاب الأم : ج4 ص
213 .) ويقول في الأم أيضا : “.. ولو أوصى( اى النصراني) أن تبنى كنيسة ينزلها مارُّ الطريق ، أو وَقَفها على قوم يسكتونها ، أو جعل كراءها للنصارى أو للمساكين ؛ جازت الوصية”.

ضوابط مشاركه : وطبقا لهذه الكيفية فان مشاركه المسيحيين الاحتفال بأعيادهم يجب أن تخضع لجمله من الضوابط منها :

ا/ أن لا تكون المشاركة بنيه التشبه بغير المسلمين أو الإقرار بعقائدهم .

ب/أن لا تخالف المشاركة أصل من أصول الدين، التي مصدرها النصوص اليقينية الورود القطعية الدلالة .

ج/ ألا تكون لغير المسلمين المحاربين .

د/ أن لا يكون من باب إبدال لأعياد المسلمين بأعياد المشركين.المشاركة من باب اقرارالاسلام.

اقرار مفهوم المواطنة: فطبقا لهذه الكيفيه فان مشاركه المسيحيين الاحتفال
باعيادهم- ومظهرها الاساسى تهنئتهم بها – لا تكون من باب التشبه بهم فى عقائدهم وشعائرهم او اقرارهم عليها – كما سبق ذكره- بل من ابواب اخرى منها اقرار الإسلام مفهوم المواطنة، الذى يشمل المسلمين وغير المسلمين، وهو ما يتضح- على المستوى العملى التطبيفى – من خلال وثيقة الصحيفة التي كانت بمثابة دستور لدوله المدينة..ففي ظل الصحيفة تكون “شعب” ، تتعدد فيه علاقات الانتماء إلى الدين(لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم)، ولكن يتوحد الناس فيه “مع اختلاف الدين” في علاقة انتماء إلى ارض مشتركه ( وطن)( وأنَّ يهود بني عوف أمَّة مع المؤمنين …) . واتساقا مع ما سبق فان من قال بمنع مشاركه المسيحيين الاحتفال بأعيادهم ، لا يجب ان يرتب على هذا القول إنكار مفهوم المواطنة، الذي قرره وطبقه الإسلام قبل الفلسفات السياسية ألحديثه ،والتي فصلته عن الدين- خلافا للإسلام – كالليبيراليه وغيرها .

لا يجب اتخاذ مذهب المنع كدليل -او ذريعة- للتمييز الديني أو إنكار حقوق الاقليات الدينية : كما انه لا يجب اتخاذ مذهب المنع الذي قال به بعض العلماء ، كدليل على ان الإسلام كدين يكرس للتمييز الدينى ضد غير المسلمين من مواطني الدولة الاسلاميه ،او ينكر حقوق الاقليات الدينيه- كما يقول بعض المستشرقين -او اتخاذه كذريعه لممارسه التمييز الدينى ضد غير المسلمين من مواطنى الدول الاسلاميه – كما تفعل بعض الجماعات المغاليه "المتطرفه"- ونستدل بالتالي :

أولا: التمييز حكم تاريخي مشروط غير مجمع عليه ، وليس قاعدة عامه مطلقه مجمع عليها :ان تمييز غير المسلمين من مواطنى الدوله الاسلاميه” الذميين “عن المسلمين – بصوره عامه – لم يقل به احد من العلماء المتقدمين ، وقال به بعض العلماء في مرحله تاريخية لاحقه، لوقوف بعض الذميين مع التتار ضد المسلمين، فهو ليس قاعدة عامه /مطلقه /مجمع عليها، بل حكم تاريخي/ مشروط بظروف معينه /وليس محل اجماع (عبد العزيز كامل، معامله غير المسلمين ج1، ص199(

اقرار الاسلام حقوق الأقليات الدينية : كما أقرت الشريعة الاسلاميه الحقوق الاساسيه للأقليات الدينية وتتضمن :

حماية الأقليات الدينية: فقد اوجب الإسلام على المسلمين حماية الأقليات الدينية من الاعتداء الخارجي، ينقل الإمام القرافي في كتابه “الفروق” قول الإمام ابن حزم في كتابه “مراتب الإجماع”: “إن من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك، صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله – صلى الله عليه وسلم -، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة”. (الفروق ج 3 ص 14 –
15 – الفرق التاسع عشر والمائة). كما اوجب الإسلام على المسلمين حماية الأقليات الدينية من الاعتداء الداخلي ، يروى عن الرسول (من آذى ذِمِّياً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة)(رواه الخطيب بإسناد حسن).ويروى عنه أيضًا(من آذى ذميًا فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله)(رواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن(

إسناد الأعمال” الوظائف العامة” لغير المسلم من مواطنى الدوله الاسلاميه:
أما فيما يتعلق بإسناد الأعمال” الوظائف العامة” لغير المسلمين ، فإننا إذا كنا نجد في الفقه الاسلامى من يرى المنع المطلق كأغلب المالكية والإمام احمد، فإننا نجد أيضا من يرى الجواز المطلق كابي حنيفة وبعض المالكية، أو الجواز أحيانا والمنع أحيانا وهو رأى اغلب العلماء ، حيث يرى ابن العربي( أن كانت في ذلك فائدة محققه فلا باس به) (ابن العربي:
16،268) ،كما جوز الماوردي وأبو يعلى للرئيس أن يولىه وزاره التنفيذ دون ولاية التفويض وتاريخيا استعان بهم الخلفاء.والذي نراه وجوب التمييز بين غير المسلمين من مواطني الدولة الاسلاميه”الذميين ” ، وغير المسلمين الأجانب” كالمستأمنين مثلا”، حيث يحق لغير المسلمين من مواطني الدولة الاسلاميه إسناد الأعمال” الوظائف العامه” لهم ، مادام شرط الكفائه متوفر فيهم، لأنه جزء من حق المواطنة الذي اقره الإسلام فى وثيقة المدينه، أما غير المسلمين الأجانب فيتوقف إسناد الأعمال لهم على مصلحه الدولة.

الاخذ براى غير الاسلاميين من مواطنى الدوله الاسلاميه الشورى: اما فيما يتعلق بالشورى فانه يجوز الأخذ براى غير المسلمين من مواطني الدولة الاسلاميه في الشورى، لان مجال الشورى هو الفروع لا الأصول، يقول ابن كثير في تفسير الايه اسألوا أهل الذكر( اسألوا أهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف)(3/215) إقرار الإسلام الحريات الدينية :اما فيما يتعلق بالحريات الدينية ، فقد قرر الإسلام الحريات الدينية لغير المسلمين من مواطني ألدوله الاسلاميه ، ومن مظاهرها : إقرار حرية الاعتقاد وحرية العباده وممارسه الشعائر لغير المسلمين وإيجاب حماية معابدهم إقرار حرية الاعتقاد: فقد اقر الإسلام حرية الاعتقاد في الكثير من النصوص كقوله تعالى (لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي)،
(البقرة: 256) يقول ابن كثير في تفسير الآية (أي لا تُكرِهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بَيِّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه(.

إقرار حرية العبادة وحرية ممارسه الشعائر و وإيجاب حماية معابد الأقليات الدينيه : كما اقر الإسلام لغير المسلمين من مواطني الدولة الاسلاميه حرية العبادة وحرية ممارسه الشعائر واوجب حماية معابدهم ،فجعل القرآن من أسباب الإذن في القتال حماية حرية العبادة، وذلك في قوله تعالى: (أُذِن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا، وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا). (الحج:
39 – 40 ) وفي عهد عمر بن الخطاب إلى أهل إيلياء (القدس) نص على حرمة معابدهم وشعائرهم (هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من
الأمان: أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسائر ملَّتها، لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم ولا ينتقص منها، ولا من حيزها، ولا من صليبها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضار أحد منهم. ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود . . ) (تاريخ الطبري ط . دار المعارف بمصر ج 3 ص 609).وفي عهد خالد بن الوليد لأهل عانات(ولهم أن يضربوا نواقيسهم في أي ساعة شاءوا من ليل أو نهار، إلا في أوقات الصلاة، وأن يخرجوا الصلبان في أيام عيدهم)(الخراج لأبي يوسف ص 146(.

نحو فهم صحيح لمفهوم الذمة: اما عن مفهوم أهل الذمة ، فان الذمة لغة العهد والكفالة والضمان والأمان(الفيروز ابادى، القاموس المحيط، 4/115)، أما اصطلاحا فعرفها العلماء بأنها ( التزام تقرير الكفار في ديارنا وحمايتهم ،والذب عنهم ببذل الجزية والاستسلام من جهتهم)( أبو زهره المجتمع الانسانى، ص 194)، فمضمون هذا المفهوم إذا هو تقرير حقوق المواطنة، لغير المسلمين في الدولة الاسلاميه (اليهود أمه مع المؤمنين)، مع احتفاظهم بحريتهم الدينية على المستوى الدستوري ( في ذمه الله ورسوله)، ضمانا لعدم إهدارها بواسطة الاغلبيه المسلمة ،ما داموا قائمين بواجباتها.

نحو فهم صحيح لمفهوم الجزية : أما الجزية فهي حكم من أحكام الحرب ، كبدل لإعفاء غير المسلمين من مواطني الدولة الاسلاميه من الجندية ،ورد في الصلح مع نصارى نجران( ليس على أهل الذمة مباشره قتال وإنما أعطوا الذمة على أن لا يكلفوا ذلك)، لذا لا تؤخذ في حاله أداء غير المسلمين من مواطني الدولة الاسلاميه الخدمة العسكرية كما في الدولة الحديثة، إلي هذا ذهب رشيد رضا ووهبه الزحيلى (أثار الحرب،ص698) وعبد الكريم زيدان ( الفرد
والدولة،ص98) ، وهناك سوابق تاريخية تؤيد ذلك ، ففي صلح حبيب بن مسلم للجراحجه ( أنهم طلبوا الأمان والصلح فصالحوه على أن يكونوا أعوانا للمسلمين وان لا يؤخذوا بالجزية)( البلاذردى، فتوح البلدان،ج1، ص217) ، ومع أهل ارمينه ( أن ينفروا لكل غاره… على أن توضع الجزاء عمن أجاب إلي ذلك)( الطبري، تاريخ الأمم، ج 5، ص257.(.

لا يجب اتخاذ مذهب المنع كدليل على الأصل في العلاقة مع غير المسلين هي
الحرب: كما لا يجب اتخاذ مذهب منع مشاركه غير المسلمين الاحتفال بأعيادهم ، الذي قال به بعض العلماء على النحو السابق بيانه، كدليل على ان الإسلام جعل الأصل في العلاقة مع غير المسلمين هو الحرب وصراع ، لان الإسلام لم يوجب قتال غير المسلمين إلا في حالتين : الحالة الأولى هي إكراه المسلمين على الردة عن دينهم وفتنتهم عنه قال تعالى( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)، والحالة الثانية هي إخراج المسلمين من ديارهم قال تعالى (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) .

مذهب إيجاب قتال غير المسلمين إطلاقاً والرد عليه : اتساقا مع ما سبق نقرر خطا مذهب إيجاب قتال غير المسلمين إطلاقاً ، والذي قال به بعض المعاصرين كسيد قطب - فى مرحلته الفكريه المتاخره التكفيريه –مؤسس حزب
التحرير- استنادا إلى أقوال بعض الفقهاء، و مضمون هذا المذهب أن الإسلام أوجب قتال غير المسلمين إطلاقاً ، وغزو العالم كله لنشر الدعوة . وقد قرر كثير من العلماء أن هؤلاء الفقهاء بنوا موقفهم هذا على أساس أن واقع العالم في زمانهم (واقع الدولة غير ثابتة الحدود ) لم يكن يسمح – إلا
قليلا- بان تكون علاقة المسلمين مع غيرهم هي علاقة سلم ، ما لم تتوافر شروط الجهاد، أو علاقة حرب في حاله توافر شروط الجهاد ، يقول الشيخ محمد أبو زهرة في معرض حديثه عن آراء الفقهاء في عدم جواز الصلح الدائم(…ولقد أثاروا تحت تأثير حكم الواقع الكلام في جواز إيجاد معاهدات لصلح دائم، وإن المعاهدات لا تكون إلا بصلح مؤقت لوجود مقتضيات هذا الصلح، إذ أنهم لم يجدوا إلا حروباً مستمرة مشبوبة موصولة غير مقطوعة إلا بصلح مؤقت) (العلاقات الدولية في الإسلام : الدار القومية،القاهرة ، 1384م، ص78-79) ، ويدل على هذا أن هناك علماء خالفوا ما قرره هؤلاء الفقهاء، حيث نجد ابن تيمية يخالف الرأي القائل بقتال الجميع لمجرد الكفر(وإذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد ، ومقصودة أن يكون الدين كله لله ، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فمن منع هذا قوتل باتفاق المسلمين ، وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة ” كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزمن وغيرهم” فلا يقتل عند جمهور العلماء ، إلا أن يقاتل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يرى إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر إلا النساء والصبيان لكونهم مالاً للمسلمين، والأول هو الصواب) .

الفهم الصحيح لايه السيف: و قد اسند أصحاب هذا المذهب إلى القول بأن آية السيف ناسخة لكل الآيات التي تدعو للسلم ، والمقصود بها الآيات: ( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ...)) التوبة: 5). و(قاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ ...) (التوبة: 29(.غير أن هذه الآيات لا تفيد قتال غير المسلمين إطلاقاً، وبالتالي تنسخ الآيات الداعية للسلم، بل هي مقيدة بالحالات التي أباح الإسلام فيها قتال غير المسلمين (إخراج المسلمين من ديارهم ،أو إكراههم على الردة على دينهم) ، يقول الشيخ محمد الغزالي (يشيع بين بعض المفسرين أن آية السيف نسخت ما جاء قبلها، وعند التحقيق لا يوجد ما يسمى آية السيف، وإنما هناك جملة من الآيات في معاملة خصوم الإسلام أو في مقاتلتهم ،أحياناً لأسباب لا يختلف المشرعون قديماً وحديثاً على وجاهتها ، وعلى أنها لا تنافي الحرية الدينية في أرقى المجتمعات).

..................................

للاطلاع على مقالات أخرى للدكتور صبري محمد خليل يمكن زيارة المواقع التالية:

1/ الموقع الرسمي للدكتور/ صبري محمد خليل خيري | دراسات ومقالات https://drsabrikhalil.wordpress.com
2/ د. صبري محمد خليل Google Sites
https://sites.google.com/site/sabriymkh
////////////////////

 

آراء