الجعلي: سيدي (C.D) الجيل الوسيط .. عــرض : د.صديــــق أمبــــده
د. صديق أمبده
6 April, 2012
6 April, 2012
sumbadda@gmail.com
رحيل النوار...خلسة – علي المك وجيله...................الدكتور/ محمد عثمان الجعلي
الناشر: دار عزة للنشر 2003
• هذا كتاب في الإمتاع والمؤانسة. وكما قال أحد الأصدقاء أنه باب فريد في الكتابة لم يحاوله أحد من قبل. يمكن القول بأنه إبداع النوستالجيا، من عين راصدة وذاكرة حافظة ويَراع متمكِّن. وفي اعتقادي سعيدٌ هذا الجيل الذي وجد في الدكتور/ محمد عثمان الجعلي من يرصد إنابةً عنه أحداث سنوات العمر الجميل في الخمسينات والستينات وحتى السبعينات ويُعيد صياغتها بلغة شفافة وشاعرية وبشواهد لا حصر لها.
• المتعة الأولى في الشاعرية عناوين الفصول والأبواب. في " أسفار التكوين" تجد أم درمان من منظور عين السمكة، لو بالصد أبيتيني، الحكَّامات والشكَّارات، والسُرّاي الجافو النوم وعقدوا الراي. " في تحولات الكركدن" ، تجد شيء من حديث عيسى بن هشام في شأن جكسا الحريف وماجد الهمام، وحركات الجيش بين النصر لنا وفي دي معاليك أنا غلطان. في " أسفار التجوّل في أقاليم الظفر والإنكسار"، تجد الحقبة اللولبية وكَتلة حزيران وعلي المك شاهداً على عصر عبد العزيز داؤود. وفي " تحولات صقر الجديان"، تجد العِبر في ديوان المبتدأ والخبر وبعض صور الأذية في قصص كليلة ودمنة السودانية وتقاسيم من مقامات عبد المعين، في " الفصول والغايات في مسائل التيه والشتات". أخيراً في "أسفار الخروج" تلتقي بأولي الفضل في راي سيدي الجعلي.
• في أهل أم درمان يقول الجعلي أنهم المبتدعون لألوان السخرية وأشكال الدعابة. أهدوا السودان موسى ود نفَّاش في زمان مضى.....وأهدوا الأجيال اللاحقة كمال سينا. يقولون للكذَّاب (الجاك) وللفتاة المليحة (سنة)، (شطة)، (موس). هم سادة لعب الورق. والحبل السري الذي يربط أم درمان ببنيها متين لا ينفصم إلاّ عند أحمد شرفي أو حمد النيل.
• يصف الجعلي الموكب الكبير في حوليه سيدي الحسن، والطبول والمديح بصوت الخليفة محمد الحسن كانكيج فكأنك تشاهد فيلماً سينمائياً. يقول الجعلي (إنشاد كانكيج عند الذاكرين وأهل الوجد تجربة تقصر دونها تجارب الغناء الأوبرالي كما عند بافاروتي. أهل الوجد "يترجمون" (أي يصبحون في حالة تتوحَّد عندها الحواس. يصبح الإدراك عندهم مطلقاً لا تقعد به محدودية وظائف الحواس كما يعرفها غيرهم). انظر إلى هذه اللغة الفارهة.
• عندما كنَّا صغاراً كنًَّا ننشد المولد ونحن أبناء أنصار (كان ذلك زمن التسامح الكبير) وننشد:
مرحباً بالمصطفى يا مسهلا في مسهلا في مرحبا في مسهلا
عينه ترمي الغزال ، ترمي الغزال، ويح قلبي من سهام نبلا
تفله " خمر حلا خمر" حلا.............
علَّ شربي منه شربا عاجلا
بعد قراءتي للأبيات عند الجعلي أدركتُ لأول مرة أن الصحيح هو أن البيت الأخير " خمر حلا " وليس " خمر حلال" كما كنَّا ننشد حينها.
• في " تحولات الكركدن" تعيش جو الانتخابات وتنشِّط الذاكرة بصورة بهتت ( الدايرة لمين، لنصر الدين، أو نوري هِيل سيدي مسجِّلا من جريفا ولا بركلا). أما في حديث عيسى بن هشام عن الكورة فانظر إلى هذا التعليق المدهش على مباراة بين الهلال والشاطئ من سيد المعلقين الرياضيين طه حمدتو (رحمة الله) الذي ترك الكثيرون متابعة الكورة بعده ومنهم الدكتور/ عبد الله حمدنا الله الذي أيقظ فيه انتصار الهلال على الأهلي الشهر الماضي بعض الأشواق القديمة- يورد الجعلي قوله- ولا أدري من أين نكته- (لولا عناية الله وصمود دفاع الفريق ورعونة التهديف لمني الشاطيء بهزيمة نكراء). أتدري كم كانت النتيجة؟ (الهلال ثمانية- الشاطيء صفر).
• في الحقبة اللولبية ينشِّط الجعلي فينا الذاكرة بالأسماء والأحداث التي انزوت في ركن قصي في الطبقات السفلى من الذاكرة فتسمع ديان بيان فو ومذبحة شاربفيل واغتيال أبو بكر تفاوابليوا ولوممبا وداج همرشولد وموت آيرنست همنغواي وسومرست موم وكلارك جبيل ووالت ديزني. ثم يعود بنا إلى ليالي بحري وشمبات مع علي المك وأبو داؤود بوصف على الورق تسمع من خلاله الفيل يدندن (الطابق البوخة...قام ندا يهتف نام من الدوخة...ولي معالق الجوف موسو مجلوخة). هل سمع الجيل الجديد بالديوم التي وصفها الجعلي بأنها رئات تتنفس بها المدينة- (الرديف، سكر شتَّت، خور جهنم، خور فطيس، ارفع سدرك، أطلع بره، زندية......الخ).
• في تحوّلات صقر الجديان وبعد تعريضه بالسياسة والسياسيين الذي يقول في بعضهم (هذا النفر لم يطلع أبداً على نهج البلاغة ولم يعلم أن الدنيا إذا أقبلت على المرء أعارته محاسن الآخرين فإن أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه) ، يعود فيفرد للغناء صفحات وشواهد بالعشرات من فسيفساء الغناء السوداني الحضري وتطوّره من التُم تُم إلى الحقيبة، يختمها بتقديره للخليل ودوره فيقول عنه أنه (ترس بحر التُم تُم بخيرسان المعاني واللغة الجديدة). فانظر إلى هذا التجويد في الوصف والشاعرية في اللغة.
• أما في " أولي الفضل" فيذكر بالعرفان (إنابة عنّا جميعاً) البروفيسور التجاني الماحي (الشيخ الرئيس) والطيب صالح (عشا البايتات القوي) وعبد الله الطيب (جوهر صدر المحافل العلمية)، وود الريح (العالم المشوطن) ومحمد عمر بشير (هبهان الثقافة السودانية) والطيب محمد الطيب (التراث رجلا).
• وما ورد بالكتاب من أحداث وأسماء وأشعار (بالعربي والدارجي) لشعراء من الوطن العربي منذ أمرئ القيس إلى عالم عباس وما ورد به من شواهد (أشعار وأقوال مأثورة وشعارات انتخابات وأغاني بنات ومناكفات كورة)، هو شيء لا تملك حياله إلا الإعجاب والتواضع من أنك لا تدري إلا القليل، ومن الاعتراف بأن الجعلي هو ذاكرة أو (سي دي C.D) الجيل الوسيط . هذا الشعور بالإعجاب انتابني مرة منذ سنوات طويلة في المرحلة الثانوية عند قراءتي لمقدمة كولن ولسون لكتابه اللامنتي. كانت المقدمة في نحو ثلاثين صفحة أو أقل قليلاً إن لم تخني الذاكرة وكانت تزخر بالمعارف (في غير استعراض) تقرأها فكأنك تتصفح انسايكلوبيديا في المعرفة والثقافة.
• لشد ما أغراني بعض هذه الشواهد بذكره ولكنها كُثر كُثر. ورغم ذلك لكَم وودتُ أن يذكر الجعلي في عرفانه بفضل الروائي الفذ الطيب صالح شيئاً عن إضافته النوعية للغة في الرواية وللمأثور في الكلام الروائي.استشهد الجعلي بنصوص من مريود وضو البيت، ولكنه لم يذكر بعضاً مما قاله في الموسم (سيدة الروايات العربية) أنظر إلى قوله " نزل ظلام كامل مستتب احتل الكون بأقطابه الأربعة وأضاع مني الحزن والحياء الذي في عينيها" أو قوله (فراشي كان قطعة من الجحيم. أمسكها فكأنني أمسك شهاباً كأنني أضاجع سحاباً، كأنني أمتطي صهوة نشيد عسكري بروسي).لله درُّك. حب الناس (في الطيب صالح) مذاهب ولكنني كنتُ سأضيف أنه قال في إحدى قصصه القصيرة وأظنها (هكذا يا سادتي)- "هذه المرأة إما هزمتني وإما نجوت" وأشير الى " رسالة إلى إيلين" أكثر قصصه القصيرة شاعرية.
• أنا أعترف بأن هذا ربما ليس استعراضاً لكتاب الدكتور الجلي- الأستاذ السابق بكلية العلوم الإدارية بجامعة الخرطوم والذي نشر أجزاء منه في شكل مقالات في صحيفة الخرطوم قبل عدَّة سنوات (في القاهرة)، بقدر ما هو تعبير عن طرب حقيقي لعزف طالما افتقدنا أمثاله. وفي جميع الأحوال أعتقد أن الكتاب غير قابل للاستعراض بالشكل المتعارف عليه.
• "رحيل النوار" رصد لحقبة من سنوات العمر الجميل للجيل الوسيط قبل إنفلات التضخم وسعر الصرف في أوقات مضت، وقبل إنفلات أعداد الوزراء والولاة في أوقات أتت، وقبل حقبة انعقاد مجالس شورى القرى والقبائل.
• في اعتقادي أن أدب النوستالجيا هذا مهم. ليس من باب (نحن أحسن ناس وأرجل ناس) ولكن حتى يدرك الجيل الجديد أننا لسنا بذلك السوء الذي جعلوهم يعتقدون. بل ربما نحن كما قال الشاعر صلاح أحمد إبراهيم في رائعته (نحن والرَّدى) " نترك الدنيا وفي ذاكرة الدنيا لنا ذكر ذكرى.. من فعال وخُلق، ولنا إرث من الحكمة والحلم وحب الآخرين.... وولاء حينما يكذب أهليه الآمنين... ولنا في خدمة الشعب عرق".
• سيدي الجعلي (سي دي) الجيل الوسيط... شرَّفت هذا الجيل وحقّيت الحُب والريدة.
صديـــق أمبـــده
يونيو 2004
\\\\\\\\\\\\\\\\