الجيش في السياسة: لزوم ما لا يلزم!
بسم الله الرحمن الرحيم
umsalsadig@gmail.com
مشاعر الرهبة والاعجاب الآخاذ التي تأخذ بألبابنا متى ما التقينا المهنيين من جند الوطن غير مستغربة، ذلك أن عمل تلك الفئة من المواطنين هو حماية أوطانهم ومواطنيهم من الاعتداءات ومن المخاطر وبالتالي بذل أرواحهم رخيصة فدى الأوطان و لخدمة ذلكم الهدف النبيل ..
خاصة ونحن قوم نقدر الشجاعة والفروسية
ففينا رماة الحدق وفينا الكنداكات و فينا (مهيرة بت عبود الطردت حملة الباشا مع الغازين وفينا المهدي الكبر حرارة ودين وفينا اسد العرين عبدالله ود تور شين وفينا عثمان سواكن وود النجومي القبرو في توشكين وفينا الرقدوا في وش المكن التقول نايمين) وبطولات كل عهد الاحتلال الثنائي حتى الاستقلال ومواجهة ثلاث دكتاتوريات ببطولات عسكرية ومدنية .. وفي بلدنا (جراتق دم قدام وجداد) تجلت عيانا بيانا في ديسمبر ٢٠١٨ المجيدة.
أداء الجند لمهام الدفاع عن الاوطان بنجاح ووفق المطلوب يتطلب أن يكون من يؤديها قوي البنيان ويتوفر له كامل العتاد والسلاح ولكي يضمن توجيه تلك المقدرات ضد المعتدين والأعداء فقط ونضمن عدم استغلالها انتصارا للذات أولقمع الآخرين والاستقواء عليهم لابد من اعداد دقيق محدد لتلك الفئة من المواطنيين وفق حزمة من التوجيهات والتربية العسكرية المجدية.
في السياق نعلم أن هناك تعريفات متعددة للتنشئة الاجتماعية لكن أغلب تلك التعريفات ترتكز حول الهدف الأساسي من التنشئة الاجتماعية والذي يتمثل في صياغة الانسان- الكائن البيولوجي وتحويله الى كائن اجتماعي للحصول على فرد لديه القدرة على التفاعل الاجتماعي وادماج القيم الاجتماعية في شخصية الطفل وتبنيها للامتناع عن ممارسة اللامقبول وتعلم الدور الاجتماعي الخ..
أما إعادة التنشئة الاجتماعية أو إعادة التكييف الاجتماعي للكبار فتلزم العديد من الفئات المجتمعية مثل المرضى والمساجين وأيضا الجنود لكي يستطيع الفرد من هؤلاء ممارسة حياة جديدة تختلف تماما عن حياته السابقة..
ويهمنا هنا تعريف إعادة التكييف الاجتماعي للجنود فهي بصورة عامة :( العملية التي يخضع لها الجنود قبل انتظامهم في سلك الجندية بحيث تتم إعادة هندسة جميع ما يؤمن به المجند من قيم اجتماعية،ومعتقدات، وما ألفه من عادات قبل الانخراط في المؤسسة العسكرية أي أن على المجند نسيان كل ما سبق له تعلمه استعدادا لغرس أسس جديدة تلائم المؤسسة العسكرية وتحقق أهدافها).
بالنظر لخصوصية وأهمية المهمة التي يؤديها العسكري وبسبب الامكانات الضخمة رهن بنانه يُبذل جهد ضخم كي يحول دون استخدام تلك القوة لقهر الآخر محولا الجندي لمصدر خطر بدلا عن أن يكون مصدرا لبث الطمأنينة.
بمجرد الانتماء للمؤسسة العسكرية يصبح المجند جزءً منها ويخضع لاعادة تنشئة اجتماعية ولسلطات مؤسسته لتنفيذ الأهداف بحسب برنامج دقيق يتدخل في السلوك ويهدف الى غرس قيم جديدة أو تجديد قيم وسلوكيات سابقة واكتساب مقدرات ومؤهلات تمكن الشخص من تبني مطلوبات المؤسسة العسكرية بإلغاء الشخصية المدنية أو تنحيتها تماما و زجر الجسد عن الاستجابة لردود الفعل الطبيعية بالفرار من مصادر الخطرمثلا ، أو اظهار الألم والمشاعر ويعمل التدريب بوسائله على كسر نفس المجند حتى يسلم بالتوجيهات والأوامر و الانضباط التام و دقة المواعيد والالتزام بالضبط والربط. كما يعمل التدريب على خلق شخصية المحارب والتركيز على مهمة القتال و تضحية المجند بمحض ارادته عن رغباته الخاصة لصالح المؤسسة التي ينتمي لها ولصالح وطنه.
الانتماء الى مؤسسة واحدة مكتوب على لافتة في مدخلها(مصنع الرجال)،مثلما هو موجود عندنا في السودان يشعر الجنود بالفخر والرضا بما يؤدونه من عمل اضافة للتوجيه المعنوي الذي يغذي روح الاعتزاز بالمهمة السامية واستصغار صعاب التدريب ومشاقه.
علينا تذكر أن أهم مهمة للجيش هي القتال الذي تضبطه كل الأديان والقوانين الانسانية العالمية بضوابط محددة ومحرمات لا يجب تعديها مثلا: لا يمكن قتل العزل ولا الأطفال ولا المستضعفين ولا استخدام الأسلحة المحرمة وعلة القتال نفسها في كل الشرائع هي الدفاع عن النفس ورد العدوان فلا عدوان على الآخرين والتدريب على المهام القتالية يستصحب بمباديء خلقية وانسانية كلها تجعل من العسكرية مفخرة وطنية ..
لكي تنجح مهمة التدريب لتخريج عسكري يصلح لحماية ارض الوطن والذود عن شعبه
يجب ابعاد العساكر عن ممارسة السياسة تماما فولوجهم خضمها يكون خوضا في مجال يجهلونه ولم يتدربوا عليه مما يفسد الممارسة السياسية ويخرب المهنة العسكرية التي تحتاج التدريب المستمر وتستوجب الضبط والربط.
لذلك نرى أن الدولة الحديثة قام استقرارها على التداول السلمي للسلطة وعلى خضوع المؤسسة العسكرية للمؤسسة السياسية بالكامل وابتعاد العسكر تماما عن الحكم .
فصارت مسلمات عصرنا مثلما ورد في كتاب الديمقراطية راجحة وعائدة هي :
أن المجتمعات التي حققت الاستقرار والتنمية وبناء الوطن من الغرب والشرق هي مجتمعات تقودها قياات سياسية مدنية.
القوات المسلحة ذات الكفاءة القتالية العالية وذات الانضباط في العالم كله هي البعيدة كل البعد عن ممارسة الحكم وشؤون السياسة.
التقدير الذي يحس به الفرد منا تجاه حماة الوطن والذي وضعته في صدر هذا المقال منوط بتادية القوات المسلحة لدورها في حماية الوطن. لذلك غياب هذا الشرط يحول التقدير الى احتقار والاعزاز والحب الى كراهية بعد ان تتحول رصاصة الجيش لصدور مواطنيهم عوضا عن الاعداء.
لا شك ان مقولة ثوماس هاردي عن انه اذا كان هناك من طريق للاصلاح لابد له ان ياخذ علما محيطا بالاسوأ و تصح هذه المقولة في واقع الجيش السوداني. وهذا السوء بدون شك كان
بسبب حشر الجيش في السياسة السودانية بانقلابات ثلاثة نجحت في الوصول لسدة الحكم مع فشلها التام في ادارة الدولة بل التسبب في نتائج كارثية تماما ومع ان المبادرة بالثلاثة انقلابات كانت من السياسين لكن هذا لا يبريء العسكر من انقلابات عديدة فاشلة بين ذلك لدرجة ان الوصول للحكم صار حلما لكثير من الضباط مثلما افاد محجوب برير.
تفكير القوات المسلحة باستلام الحكم والسلطة عن طريق الانقلاب يعني الفشل في تطبيق برنامج إعادة التنشئة الاجتماعية والتدريب وسط القوات المسلحة السودانية ويعني التقصير في المهام المرجوة من الجيش.
وفي الديمقراطية الثالثة مثلا برغم الجهد الذي بذل في توفير السلاح من مصادر ذاتية ومن دعم الاشقاء ما بلغ قيمته ٤٥٠ مليون دولار في العام الواحد الا ان اداء القوات المسلحة السودانية كان شديد الاخفاق..
ثم زادت نكبات الجيش بعدما اقترفته الحركة الاسلامية من أدلجة كاملة للجيش حتى فقد قوميته وصار مشاركا في قتال ابناء الوطن ثم استفحل الأمر باعتماد نظام الانقاذ مليشيا قبلية لحماية النظام ..
برغم سوداوية الصورة لكن انحياز القوات المسلحة لجميع الثورات المقاومة للدكتاتوريات من لدن عبود ونميري وحتى البشير (رغم اللكنات ) يعني أن بذرة الخير في الجيش لم تمت تماما ..
من هذه البذرة الخيرة ننطلق ونضع فيها املنا اخضرا ونتطلع لقادة القوات المسلحة القيام بمبادرة تعدل الحال المايل..
لا نحتاج لتاكيد ان نقدنا ينطلق من التقدير الكبير لأهمية القوات المسلحة والدور الكبير الذي يمكن ان تلعبه في استقرار السودان ولحماية الديمقراطية اذا صح عزمها وانعدلت سيرتها...
صحيح ان الامر يتطلب عملا جادا وعبقريا واعترافا بواقع الضعف واين التقصير ويتطلب ارادة غلابة وتضحيات كبرى للاصلاح بتقديم رؤية يمكن بها تجاوز هذا الوضع الشائه ويمكن بها إعادة التنشئة لقوات الشعب المسلحة.والتركيز على التدريب الفاعل والالتزام بالتراتبية العسكرية وانتهاج النهج القومي وتوجيه العقيدة العسكرية تماما لقتال الأعداء وحماية حدود الوطن والالتزام باداب القتال وحقوق الانسان.. ومع ذلك فالصعب للصعب..
فهل لدى القادة العسكريين مثل هذه الارادة ..
ندعو أن يكون ذلك كذلك!
وسلمتم