كلما سمعت طرفاً من أغنية ( الحالم سبانا) من أشعار "محمد عوض الكريم القرشي" وألحانه ،إلا وتسللت إلى نفسي دفء أيام ثانوية المؤتمر أواخر ستينات القرن العشرين. وعادت موجة الذكرى لتنبهنا أن شعبنا السوداني عاطفياً بطبعه. فبعد حادث عام 1967، الذي بترت على أثره يد المطرب " عثمان الشفيع "، انشغل كثيرون بأغاني " عثمان الشفيع " من جديد، وهي من كلمات وألحان" ود القرشي"، رغم قول عثمان الشفيع أنه ملحن معظم أغاني "ود القرشي" ، ولكنه لا ينفي عن " ود القرشي" أنه كان فناناً مكتملاً، ملحناً وشاعراً ومغنياً.
*
تلك أيام صبانا الباكر، ومجد شبابنا. كانت الحياة تسير بتمهل شديد. كان المعلمون آية من النبل والمعرفة، يرتدون قمصان نصف الكم، من قماش أبيضاً بنقوشه لا تلحظها أنت بيسر، والبنطال المصنوع من الصوف الإنكليزي، والحذاء الجلدي، تمييز ملبس الأساتذة في ذلك الزمان مثال للطباع التي تتمناها.
من المعلمين في الثانوية: شيخ الجعيلي للغة العربية وشيخ العقلي للدين والهادي آدم ومحي الدين فارس للغة العربية وآدابها و معلم الرياضيات المصري الأستاذ قطر وأستاذ العلوم الطاهر وأساتذة الفنون مبارك بلال ومحمد علي جناح ....، صورة تكاد لا تنسى من تذكارات باطنها المودة ويغمرها النبل والهيبة ويشهد عليها علومنا التي اكتسبناها.
(2)
الحالم سبانا أحب طرفو الكحيل
أكرم لي هوانا يعيش محيو الجميل
كان " ود القرشي " وسيم الطلعة، ضخم الجثمان .يكثر الرمز في تعبيراته الشعرية، ويمكنك تصور الأسماء تتداخل في معانيها مع أسماء الشخوص، فتحسب أن " محيو" هو " محي الدين "، وتتقوقع في معانيك مُحققاً أحد مميزات مقولة " موت المؤلف"، ويشهد الخلق جراها ويختصم. وأن القارئ يشارك الشاعر في نزاعه مع معاني الكلمات، وتضيع الحقائق وسط الأسطر. لم يزل الشاعر " ود القرشي " يترجم مشاعر أصدقائه بصدق، وتلك طبيعة يمتاز بها الشاعر. من قبله ترجم الشاعر "ود الرضي" أشواق "محمد أحمد سرور" فكتب من ( الأسكلا وحلّ)، ولاحقاً قام "هاشم صديق" في ترجمة مشاعر صديقه" مكي سنادة" في أغنية ( ودع حبيب).
لم تزل غرفة الشاعر " محمد عوض الكريم القرشي "، مُتحفاً إلى اليوم، تجد فيها مسبحته وسجادته، قابعة في مكانها تنظر إلى صفحات تاريخ الشاعر والملحن والمغني.
ما أنضر بهاهو زي الفلّ تفتح
يا ورد الخميل
وين بنشوف نظيرو يمرح في شروقو
يصدح في الأصيل
ما أحلاها بسمة وما أسماها رسمة
تفرح لي الحزانى تحمل لي منانا
وترمز عن كثير
*
تأمل فيهو مرة، شوف دلّ العذارى
تشوف الصورة تحلف يوسف في إطارا
اللألاء عيونو ،والبيضاء سنونو
كم يغريك ثغرو ،كم يسبيك سحرو
هالكنا الأمير
*
أما جسيمو ناعم، الفم فيهو خاتم
الحاجب قمر
الجيد فيهو بانو ،مخلوق من جنانو
رب الكون أمر
ما بتقدر تعاين، لما تراهو باين
لابس الحر قلادة، وخاتّي النور وسادة
مكسي من الحرير
(3)
يجمع بين الوصف الحسي والمعنوي. تجده يصف العيون والأسنان والشفاه، وتجده يفرح الحزانى. يجيد الشاعر الوصف الدقيق، والتشبيهات المميزة، تنزلق منه كعقود بلور تضيء رغم بساطتها والصور الناصعة. فتحسب أنه شاعر غنائي مجيد، كاد أن يتبنى المطرب " أحمد المصطفى " في أربعينات القرن العشرين، فقد تغني لشاعرنا" يلاك يا عصفور". لمجلس "محمد عوض الكريم القرشي" طعم خاص والانتماء لذلك المجلس هبة إلاهية، تأتي في العمر مثل لمحة شهاب. تسمع الغناء من فم صاحبه الشجي الجهور الفخيم. فتحسب أنك قد وصلت دروب رفعة الهوى، وعرجت إلى مصاف غير التي تعرف. أو لسماع أغانيه ذات الربوبية، رمز الفن ، ورمز الجمال. فتسحرك خطرات شياطين الإبداع.
أغانيه متنوعة الأوصاف والتطريب، منها:
الذكريات، الهاجر، الشاغل الأفكار، والقطار المرّ، والبان جديد، ولوحة، وعيد الكواكب، وملامة، والشباب، وخداري الما بخيلي، رمز الجمال، رمز الفن، الفارقت ما لقيتا.
*
ليس كرم صاحب المجلس وحده سر الجاذبية، بل للطف المؤانسة ورفقتها، وإبداع أصحابها. يختلف المجتمعين في ضروب الحياة، ولكن يجمعهم خيط الهوى وهو رفيق دروب المتوافقين. كان الشاعر "محمد عوض الكريم القرشي " مغن مطرب، بصوته العميق الصادر من أعماق الصدر.
(4)
هذا بعض ما أورده "الأستاذ معاوية حسن ياسين" في كتابه الثالث من تاريخ الغناء والموسيقى السودانية:
ذكر المطرب " عثمان الشفيع "أنه عام 1946، ذهب مع "ود القرشي " إلى مدرسة حنتوب ، تلبية لدعوة " مستر براون " وكان ناظراً للمدرسة، لحضور افتتاح المدرسة، وجاءتنا دعوة من " نصر الدين السيد"، وكان حين ذاك ضابطاً للشرطة في ود مدني. كان "نصرالدين " يأمل أن تكون الزيارة فرصة مواتية لتقديم عملاً فنياً جديداً. وبينما كنت جالساً في بيت " نصر الدين " بدأت أترنم مع العود في أغنية ( الليل ما نومو ) وهي من أشعار" عبد الرحمن الريّح" و أغنيات "إبراهيم الكاشف": ( بس لي فيهُ ذكرى .. وماخد عني فكرة)، فأوحت تلك البادرة للشاعر " محمد عوض الكريم القرشي " بكلمات أغنية " حنتوب الجميلة" التي أهديناها لصديقنا المطرب " الخير عثمان".
عبدالله الشقليني
8 مايو 2019
alshiglini@gmail.com