الحب المفقود بين السودان ومواطنيه: لغو نتجاهله أم خطر نحذره؟

 


 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

أسال أي سوداني قادم من السودان حديثا, لايهم لونه أو قبيلته أو جهته, معدما أو ثريا منتفخ الجيب يتسكع في شوارع الخرطوم, أويحمل اكياسا ملاي بالهدايا والثياب الحريرية الفاخرة قي شوارع لندن أو دبي أو القاهرة, يأتيك الجواب قاطعا متوقعا أن الحالة في منتهي السوء وأن سودان النحس اما ميت ينتظر من يواريه التراب أو محتضر لاسبيل لشفائه. واذا امتد حبل الحديث حدثك عن المصائب والكوارث التي تحيق بالسودان وتاحذ بخناقه. يقول لك ذلك لاغاضبا ولامنزعجا بل فرحا مستبشرا كأنما ينقل اليك خبرا سارا. وتبادله ابتسامة بابتسامة فهذا ماكنت تتوقعه وقد تضيف اليه من عندك كلمتين أو ثلاثا تؤكد ماذهب اليه.
ليس هذا سلوكا فرديا بل ظاهرة عامة ينفرد بها السودانيون دون غيرهم من خلق الله حتي بالنسبة للمتجنسين في بلاد العالم الاخري الذين اكتسبوا جنسيتهم بالقانون لابالميلاد. وأكتسبوا معها ولاء مطلقا لبلدهم الجديد يفدونه بالمهج والارواح بلا رابط عرقي أو لغوي أو ديني كما نلمس ذلك عند مواطني الولايات المتحدة وكندا واستراليا ونيوزيلاندا, أحيانا برغم الظلم والتمييز العنصري.
والسودانيون لايطيقون الغربة طويلا. وحتي عندما يطغي عليهم الحنين يعتذرون عن ذلك بأنهم انما يزورونا الاهل ولولا  "الناس" ما وطئت اقدامهم أرض السودان النحس.
وقد لاتبدو هذه الظاهرة المقيتة واضحة للسودانيين الذين تعودوا عليها فلا يرون فيها غرابة أو شذوذا وقد تصدر عنهم دون وعي ولكنها ملاحظة عند الاجانب طالما أثارت استغرابهم وستنكارهم أحيانا. وتبدو هذه الظاهرة أكثر وضوحا اذا قارنتها بسلوك أقرب الناس لنا في مصر الشقيقة, الذين يقرب الحب لمصر عندهم مبلغ التدليل والغزل, فينساب غناؤهم عنها ولها عذبا يذيب القلب: صوت السيدة أم كلثوم حين ارتفع فوق مياه التايمز ذلك المساء في لندن عندما استجابة لدعوة بريطانية لزيارة لندن:
علي بلدي المحبوب وديني
زاد وجدي والحب كاويني
وقول شوقي بلسان مصر:
أنا ان قدر الاله مماتي
لا تر الشرق يرفع الراس بعدي
وكلمات الشاعر الغنائي أحمد رامي:
مصر التي في خاطري وفي دمي
أحبها من كل روحي ودمي
ياليت كل مؤمن بها يحبها حبي أنا
الي وصف الشاعر الشعبي:
اللي بني مصر كان في الاصل حلواني
وعلشان كده ياأولاد مصر حلوة الحلوات
وهذا لسان غريب لا ينطلق من حنجرة سودانية. كل الذي يجري علي لساننا هتافات مظاهرات لا تنبع من وجدان عاطفي:
أنا سوداني أنا افريقي
أو
وطن الجدود نفديك بالارواح نجود                                                  
أو
سوداني الجوه وجداني بريده
لآ شى ينبع من القلب الا بضع كلمات قالها صلاح احمد محمد صالح ولعلها من نبع حبه وتاثره بمصر التي اختارها ملاذاي يلتجي اليه اخر عمره اطاله الله:        نحن في السودان نهوي اوطانا     وان رحلنا بعيد نطري خلانا
حتي السودانيين عندما يتغنون بمصر تتقمصهم تلك الروح الشفافه وذلك الوجد العاطفي: خذ شاعرنا الفحل محمد سعيد العباسي وهو يغني لمصر:
اسفري بين بهجة ورشاقة          وأرينا يامصر تلك الطلاقة
ودعي الصب يجتلي الحسنا         الذي طالما  أثار  اشتياقه
كلنا ذاك المشوق وهل في           الناس من لم يكن جمالك شاقه
أنت للفلب مستزاد وللعين           جمال يغري  وللشم  طاقة
أو حين يقول:
مصر: وما مصر سوي الشمس      التي بهرت بثاقب نورها كل الوري
وحين يعبر عن حنينه لمصر:
أهلوكان لي بساط من الر       يح  اوافيه أو قوادم  نسر
فأطيرن نحو مصر اشتياقا       انها للاديب  احسن  مصر
فيك يامصر لذتي وسروري     وسميري وقت الشباب ووكري
مقارنا شعوره نحو بلده  ونحو مصر:
صيرت عن كره قري          السودان لي مخيما
ولي   بمصر  شجن            أجري الدموع عندما
فارقت مصر ذاكرا             أرجاءها  والهرما
ربوع خير طالما                اسدت الي أنعما
ولا يقف تعبير المصريين عن حبهم لمصر عند الغناء والنشيد, ومناسبات التعبئة والحماس. بل تمثل جزء من حياتهم وصفة ملازمة لطبيعتهم, مهما اختلفة شخصياتهم وخلفياتهم بصورة يحسها كل من لازمهم أو عرفهم. وبرغم ان  غالبية المصريين الذين هاجروا الي بريطانيا وعاشرناهم في لندن في الستينات لم يكونوا راضين عن حكم عبد الناصر, ولحق الغبن بكثير منهم فلم يكن من بينهم من يخلط بين ولائه لمصر التي لايقبل الشك واعتراضه علي النظام الحاكم كما فعل ولايزال يفعل المهاجرون السودانيون من الذين فقدوا وظائفهم للصالح العام في اطار سياسة التمكين التي مارسها نظام الانقاذ في مستهل حكمه.
واذكر في هذا الشان مناقشة حادة في جو متوتر جرت في نادي القسم العربي باذاعة لندن بين صديق مصري لم يكن من مناصري النظام وناشط فلسطيني بعد حرب حزيران مباشرة وأعلان مصر قبول وقف اطلاق النار وكان الناشط الفلسطيني غاضبا اشد الغضب وأخرجه الغضب عن طوره اذ راح يهاجم الجيش المصري ويتهمه بالجبن وأن افراده يجرون مذعورين أمام الجيش الاسرائيلي. ولم يكن ذلك غريبا فقد كان المواطن المصري نفسه لايكف عن انتقاد القيادة المصرية ويتهمها بالفساد والضلوع في المخدرات ولكن لم يهن عليه أن يسئ الناشط الفلسطيني جيش بلاده فتملكه الغضب وصاح فيه:  " ياأخي مش عاوزين نحارب. ونحارب ليه؟ نحن عملنا معكم كنتراتو علشان نطلع الاسرائليين من بلادكم ؟ " وضحك الجميع بمن فيهم الناشط الفلسطيني الذي اندفع يعانق محاوره معترفا بما لمصر من أيادي علي الفلسطنيين والعرب .
وفي دعوة عشاء دعا لها ثري خليجي , قال المضيف  في معرض حديث عام أن مصر دولة فقيرة وتحتاج كما يحتاج شعبها الي دعم فغضب ضيف من مصر فتصدي له في الحال سائلا : ليه استلفوا منك حاجه؟ وأعتذر المضيف الخليجي بأدب قائلا أنه لم يقصد الاساءة لمصر التي يعتبرها وطنه الثاني.
ولعل الفراء يذكرون أنني رويت لهم قصة جولتي في حي الزمالك في القاهرة في معية صديق مصري وقفت بنا سيارته أمام كورنيش النيل. وأعترف أن المنظر كان رائعا أخاذا, ولكني لاحظت أكواما من القاذورات فقلت لصديقي وأنا أقصد الخير: لماذا لاتعينون عمال نظافة للكورنيش وهو ملتقي السياح وعندكم عطالة بالكوم ؟ ولم يجب مرافقي حينها ولكنه سألني بعد فترة طويلة وهو يودعني أمام شقتي : " قل لي أنتم عندكم كورنيش في السودان؟ وفهمت وضحكت.
وهناك روايات كثيرة لايتسع المجال لها تكشف عن هذا الحب الاسطوري الذي يكنه المصريون لبلدهم : هبة النيل وأم الدنيا وقاهرة الغزاة . وجرب أنت ! هاجم السودان في أي مجتمع فلن تجد سودانيا واحدا يعترضك فليس للسودان وجيع ولن يستيقظ أهله من سباتهم الا حين تواجه مدنهم مصير أبوكرشولا وأم روابه .
وليس كل اسأءة تنال من السودان وسمعته بريئة من لغو الحديث ولكنها ألغام مزروعة لاضعاف الولاء للوطن مما يمهد لغزو جحافل القبلية والجهوية و اشعال نيران الفتنة والفوضي . وفي ذلك يتواصل الحديث.



mohammed shoush [mi_shoush@hotmail.com]

 

آراء