الحرب العالميَّة الأولى وتداعياتها في السُّودان: بمناسبة مرور مائة على انتهاء الحرب العالمية الأولى

 


 

 

 


(الحلقة الأولى)

تمهيد:
كان حادث اغتيال ولي عهد النمسا، في 28 يوليو/تموز 1914، الشرارة الأولى لاندلاع الحرب العالمية الأولى، التي ارتكزت أصلاً على مسبِّبات أخرى عديدة، نذكر منها: سباق التسلح الأوروبي لتقوية النفوذ الاستعماري في آسيا وإفريقيا، والصراع التوسعي في إقليم البلقان، والتحالفات السياسية والعسكرية في أوروبا وارتباطاتها بالمصالح الإمبريالية في الخارج. وفي محيط هذه البيئة الحاضنة لبواعث الحرب اتسعت دائرة المواجهات العسكرية داخل أوروبا، ثم تحوَّلت تدريجيّاً إلى صدام عسكري بين دول الحلفاء -أو الوفاق الثلاثي (المملكة المتحدة، وفرنسا، والإمبراطورية الروسية) وقوى المركز (الإمبراطورية الألمانية، والإمبراطورية النمساوية المجرية، والخلافة العثمانية، والمملكة البلغارية). وبموجب هذه التطورات دخلت بريطانيا الحرب العالمية الأولى في 4 أغسطس 1914م، وأعلنت الخلافة العثمانية انضمامها إلى جانب ألمانيا في 2 نوفمبر 1914م. فدخول الخلافة العثمانية الحرب إلى جانب دول المحور عقَّد المشهد السياسي بالنسبة للحلفاء؛ لأنه أعطى الحرب بُعداً دينيّاً خفيّاً، ارتبط بمشاعر المسلمين تجاه الخلافة العثمانية، علماً بأن معظم الدول ذات الوجود الإسلامي كان يخضع سياسيّاً لسيطرة بريطانيا وحلفائها. ولذلك أعلنت بريطانيا الحماية على مصر عام 1914م، وعزلت الخديوي عباس حلمي باشا بعد إعلان انضمامه للدولة العثمانية، ثم عيَّنت الأمير حسين كامل باشا، سلطاناً على مصر. وكسْباً لتأييد الشعوب الخاضعة لنفوذ الدولة العثمانية، وعدت بريطانيا وفرنسا بمنح تلك الشعوب حقَّ تقرير مصيرها بعد انتهاء الحرب. وكان لهذه التطورات والوعود مجتمعةً انعكاساتها السياسية على السُّودان الإنجليزي-المصري (1898 -1956م)، الذي كان ينتمي صوريّاً إلى الخلافة العثمانية عن طريق مصر.

يحاول هذا البحث أن يقدم مقاربة تحليلية عن تداعيات الحرب العالمية الأولى في السُّودان، ومدى استجابة الزعماء السُّودانيين لإفرازاتها السياسية على المستويين المحلي والإقليمي، محليّاً في ضوء علاقتهم بالسُّلطة المركزية في الخرطوم؛ وإقليميّاً حسب انتماءاتهم للخلافة العثمانية من طرف، والكينونات العربية المتطلعة لتكوين خلافة ثانية من طرفٍ آخر. في ضوء هذا المشهد السياسي المزدوج تسعى هذه الدراسة إلى إبراز دور القوى الطائفية (الختمية والأنصار)، والقَبَلِية المسانِدة لحكومة السُّودان في الحرب (يقصد بها حكومة الاحتلال الإنجليزي-المصري في السُّودان)، كما أنها تهدف إلى تحليل الدور الذي قام به السُّلطان على دينار في دارفور، عندما أعلن مؤازرته للخلافة العثمانية، متحالفاً مع الشريف أحمد السنوسي في ليبيا. ونمهد لهذه المقاربات بتوطين للسودان بشقَّيْه (السُّودان الإنجليزي-المصري ودارفور) داخل منظومة الصراعات الاستعمارية الأوروبية في إفريقيا عشيَّة اندلاع الحرب العالمية الأولى وأثناءها.

السُّودان في خارطة الدول الاستعمارية
تمثِّل حادثة فشودة 1898م ذروة التنافس الاستعماري الأوروبي في السُّودان، التي كادت تُفضي إلى نشوب حرب بين بريطانيا وفرنسا؛ لأن كلًّا منهما كانت تطمع في إحكام سيطرتها على بلاد السُّودان والساحل في إطار استراتيجيتها الرامية لأحكام سيطرتها على القارة السمراء. لكن هذا الصراع حُسم دبلوماسيّاً بين لندن وباريس، وأضحى السُّودان في قبضة الحكم الإنجليزي-المصري، الذي استمد حقه القانوني والتاريخي من احتلال مصر للسودان عام 1821. بَيْدَ أن السُّودان عاد مرة أخرى إلى واجهة التنافس الاستعماري؛ عشية اندلاع الحرب العالمية الأولى، حينما برز في الأفق مشروع الإمبراطورية الألمانية، الذي كان يهدف إلى توسيع المستعمرات الألمانية في وسط إفريقيا على حساب المستعمرات الإنجليزية والفرنسية والبلجيكية، ثم ربطها بشرق إفريقيا. وكانت لهذه النظرة الألمانية أبعاد سياسية وتجارية، تتمثل في ربط ألمانيا بجنوب إفريقيا وأستراليا والهند، وتمكينها من تحجيم النفوذ البريطاني في المنطقة. ولتحقيق طرفٍ من هذه الاستراتيجية الاستعمارية، كما سنرى لاحقاً، حاولت ألمانيا أن توظِّف التعاطف الإسلامي في السُّودان عن طريق الخلافة العثمانية؛ لزعزعة الوجود البريطاني في شرق إفريقيا، والفرنسي في غربها. وفي الوقت ذاته تنامت الأطماع الإيطالية في السُّودان بعد اتفاقية لندن لعام 1915م، والتي وعدت إيطاليا بامتيازات معينة في أوروبا، والبحر المتوسط وإفريقيا؛ وبموجب تلك الاتفاقية وطَّدت إيطاليا نفوذها في ليبيا وإريتريا والصومال، وأضحت تتطلع إلى التوسع في شرق إفريقيا على حساب ألمانيا، وتسعى لضم جوبا في جنوب السُّودان، وكسلا والتاكا في شرقه إلى دائرة نفوذها الاستعماري.
وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، حاولت ألمانيا أن تبث بعض الأخبار المناهضة لدول الحلفاء في السُّودان عن طريق مستعمراتها في شرق إفريقيا، ونوثِّق لذلك بالرسالة التي بعثها الحاكم البريطاني في أوغندا إلى الحاكم العام في السُّودان، مُعلِماً إيَّاه "أنَّ المسلمين الموجودين في الأراضي الألمانية قد أرسلوا رسائل إلى السُّودانيين، يعدونهم بتكوين إمبراطورية إسلامية في شرق إفريقيا تحت الرعاية الألمانية". وإلى جانب خطر الدعاية الألمانية كان هناك التحدي العثماني الذي تجسَّد في فكرة الدعوة للجامعة الإسلامية وإعلان الجهاد ضد "الكفرة" وأعداء الإسلام. وقد وجدت هذا الدعاية طريقها إلى الأراضي السُّودانية، وأسهمت في تحريض السُّلطان علي دينار لإعلان الجهاد ضد حكومة السُّودان وأنصارها. وبهذه الكيفية أثَّرت المطامع الاستعمارية في تشكيل المواقف السياسية في السُّودان أثناء فترة الحرب العالمية الأولى، كما تركت أيضاً بصماتها على الرأي العام، المناصر للحلفاء والمعارض لهم. ويقودنا هذا الموضوع إلى طرح حزمة من الأسئلة الجوهرية التي سنجيب عنها في مواقع مختلفة من هذا البحث: كيف تعاملت حكومة السُّودان مع القيادات السياسية والدينية في ظل التناقضات التي شهدتها فترة الحرب العالمية الأولى؟ وكيف وظَّفت التناقضات السياسية المحلية لتعزز وحدة الجبهة الداخلية، لمواجهة أطماع دول المحور في السُّودان؟

حكومة السُّودانية الثنائية والزعماء الدينيون والقبليون
بعد أن أعلنت بريطانيا انضمامها للحرب، قطع السير ونجت باشا، حاكم عام السُّودان (1899-1916م)، زيارته إلى بريطانيا وعاد إلى السُّودان في التاسع من سبتمبر 1914م. وفور عودته أصدر منشوراً لتنظيم إجراءات العقود التجارية والمعاملات المالية داخل السُّودان، ومنشوراً آخر يُوجِّهُ "جميع رعايا ألمانيا والنمسا والمجر المقيمين في السُّودان أن يبادروا لتقييد أسمائهم بأكملها، وأماكن إقامتهم وصناعتهم، أو أشغالهم، ورتبهم، أو أوصافهم في ديوان المديرية المقيمين فيها، أو التي يتفق وجودهم فيها". وفي 20 ديسمبر 1914م دعا ونجت باشا كبار ضباط الجيش المصريين والسُّودانيين وأعيان الخرطوم إلى اجتماع بسرايا الحاكم العام؛ حيث قرأ عليهم نصَّ تعليمات الحماية البريطانية على مصر، ومرسوم عزل الخديوي عباس حلمي الثاني، وتعيين حسين كامل سلطاناً على مصر. وأعقب ذلك بجولة تنويرية لعدد من مديريات السُّودان، شملت النيل الأزرق، والنيل الأبيض، وكسلا؛ للتأكد من ولاء الزعماء الدينيين والقبليين للحكومة، كما شرح لهم السبب الذي دفع بريطانيا لدخول الحرب، وموقفها من الإسلام والمسلمين. وفي نوفمبر 1914م دعا ونجت باشا علماء الدين البارزين، وزعماء الطرق الصوفية، ووجهاء المجتمع إلى اجتماع بسرايا الحاكم العام، وأوضح لهم أن الحرب لم تكن ضد الإسلام والمسلمين، بل ضد ألمانيا وحلفائها الأتراك الذين يسعون في الأرض فساداً. وفي ذلك الاجتماع، أعلن الزعماء السُّودانيون ولاءهم للحكومة البريطانية: "نحن مع الحكومة الحالية قلباً وقالباً، ولا شأن لنا بتركيا التي تبعت مشورة ألمانيا، وأعلنت الحرب بالارتباط معها". وطُبع ذلك الإعلان في منشور، أضحى يُعرف بـ "سِفْر الولاء". وإلى جانب ذلك الإعلان انهالت التبرعات النقدية على جمعية الصليب الأحمر (8400 جنيه)، ولصندوق أمير الغال (1500 جنيه)، وأرسل بعض أصحاب الإبل (الجمال) ومُلاكها 1175 جملاً لمساعدة الحملات العسكرية في نقل المؤن والعتاد. وأبدى الزعماء الدينيون والقبليون تأييدهم للحكومة والإمبراطورية البريطانية في حربها ضد الخلافة العثمانية وألمانيا، ثم وقَّعوا على سِفْر الولاء الذي نشرته جريدة السُّودان تايمز في 4 أغسطس/آب 1915، تحت رعاية الحاكم العام والسكرتير الإداري، والشيخ مصطفى المراغي (قاضي القضاة)، والشيخ الطيب هاشم (مفتي السُّودان)، والشيخ أبو القاسم أحمد هاشم (رئيس لجنة العلماء)، والسيِّد علي الميرغني، والشريف يوسف الهندي. وسِفْر الولاء هو عبارة عن مجموعة من العرائض والتلغرافات والرسائل التي بعثها نفر من الزعماء الدينيين ورجال الإدارة الأهلية، وعلماء السُّودان إلى مكتب الحاكم العام بالخرطوم، معربين عن ولائهم لحكومة السُّودان وتأييدهم للإمبراطورية البريطانية في حربها ضد الدولة العثمانية وألمانيا. وجاء في مقدمة هذا السِّفْر التلغراف الذي بعثه السيِّد علي الميرغني من كسلا، والذي يُقرأ نصه هكذا:

"كسلا في 12 نوفمبر 1914... عطوفة الحاكم العام... إن الحزن والأسف لَمِلْء أفئدتنا لدخول تركيا في حرب ضد بريطانيا العظمى؛ الأمر الذي حصل بلا شك رغم وضد إرادة ورغبة السُّلطان وعقلاء دولته، والذي تكدَّر منه المسلمون في أربع جهات الأرض. ولا ريب أن العالم الإسلامي كله يصبُّ مقته وسخطه الشديد على الدولة الألمانية الباغية المسبِّبة لكل هذه الشرور والمصائب، والمنقادين إليها من رجال حكومة تركيا. إنَّ عطف المسلمين على الدولة التركية لا لأنها تركيا، بل لاعتبارات أخرى معروفة، أمَّا وقد ألحقت الحكومة التركية نفسها بالدولة الألمانية واتَّحدت بها حتى صارت كإحدى حكومات الاتحاد الجرماني، فلا ريب أنها فاقدة ذاك العطف الثمين الذي لا يُقدَّر، وتلك خسارة عظمى عليها لا تقوم ولا تُعوَّض.. هذا وإننا نرفع خالص ولائنا وإخلاصنا العظيميْن جدّاً عنَّا، وعن الشعب السُّوداني كلّه لدولة بريطانيا العظمى، تلك الدولة العادلة التي تحترم ديننا، وتهتم بمصالحنا، والتي عمَّرت بلادنا بنعم العدل والعمران، والتي يُظلِّل عدلها نحو التسعين مليوناً من إخوتنا المسلمين بأنحاء الأرض، والتي هي المُحِبَّة حقّاً للمسلمين والصديقة الحميمة لهم... علي ميرغني".

ووصف ل. ب. جرديني، محرِّر جريدة السُّودان تايمز، الرسائل والتلغرافات الواردة في سِفْر الولاء بأنها "دليل قاطع على سيادة المبادئ الأساسية للحكم البريطاني... رغم أنَّ السُّودان أحد أكثر المستعمرات البريطانية حداثة إلا أنه أثبت... من بين الدول القليلة المخلِصة والمتفانية في سبيل خدمة أغراض الإمبراطورية".
ظهرت شريحة من المتعلِّمين السُّودانيين بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، مساندةً لمطالب الثورة المصرية التي كانت تنادي باستقلال وادي النيل من قبضة الاستعمار البريطاني. ويبدو أن موقف هذه الشريحة قد تأثَّر بالمظاهرات التي قادها بعض العاملين المصريين في بورتسودان وعطبرة والخرطوم منددين بالاستعمار البريطاني، ومطالبة باستقلال مصر والسُّودان. وفي الخرطوم وقَّع عدد من الضباط المصريين على مذكرة لتأييد استقلال مصر، ثم وزَّعوا منشوراً بعنوان "نداء لأهالي السُّودان"، مطالبين فيه باستقلال وادي النيل من الاستعمار البريطاني. واستجابة لهذه المظاهرات والنداءات ظهر بعض الآراء السُّودانية المناهضة للاستعمار البريطاني، ونذكر منها موقف محمد الأمين هديب، أحد الضبَّاط السُّودانيين المتقاعدين بالمعاش، الذي ألقى خطبةً في مسجد أم درمان، مطالباً جميع السُّودانيين بالاتحاد مع المصريين لإجلاء البريطانيين؛ إلا أنَّ السُّلطات الأمنية ألقت القبض عليه، ثم قدَّمته إلى محاكمة إيجازية، حكمت عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات. ويبدو أن حكومة الخرطوم قد أحست بموقف المتعلِّمين السُّودانيين المتعاطف مع الثورة المصرية؛ لذلك لم ترشح أي منهم في الوفد الذي سافر إلى لندن لتهنئة الملك جورج الخامس والحلفاء بالانتصار في الحرب. كما فرضت حكومة الخرطوم رقابة لصيقة على المصريين الموجودين في السُّودان أثناء فترة الحرب، وحظرت دخول الصحف والمجلات الداعمة لخط الثورة المصرية، أو المروِّجة للدعاية التركية وأنشطة دول المحور.

الحلقة الثانية (يتبع: السيد علي الميرغني والخلافة والهاشمية في الحجاز).

ahmedabushouk62@hotmail.com

 

آراء