الحركة الاسلاميه … مسيرة التنظيم والحكم … تقرير: خالد البلوله ازيرق

 


 

 

ستون عاما على تجربتها

  

ستون عاماً انقضت من عمر الحركة الاسلاميه في السودان، ويتزامن ذلك مع عشرون عاماً تنقضي ايضاً على تجربتها في الحكم عبر انقلاب "يونيو 1989" وما بين نشأتها وانقسامها التى عبرت من تحتها وفوق جسرها كثير من المياه..لم يتبقي من تلك التجربة فقط إلا أمنيات تظهر بين الفنية في شكل مبادرات عبارة عن محاولات خجولة تمضي مرهقة لتوحيد وجمع صف قادتها بعد طلاق "القصر والمنشية" في العام 1999م، الذي شكل علامة فارقة في كتابة بداية النهاية لتاريخها السياسي والفكري.

 

والحركة التى شغلت السودانيين منذ نشأتها في خمسينات القرن المنصرم، وشغلت معهم العالم بعيد استلامها السلطة عبر انقلاب "30 يونيو 1989م" ومازالت، كانت نشأتها عبارة عن تحالف روافد متعدده من التيارات الاسلاميه في الساحة السياسيه، سواء كان هؤلاء ينتمون لفكر معين خاصة فكر الإخوان المسلمين في ذلك الحين مثل صادق عبد الله الماجد وغيره، أو مجموعة من الشباب المتدين الرافض لهيمنة الفكر الشيوعي على المدارس والجامعات السودانية وكان من أبرز هؤلاء المفكر عبد الله كرار.

 

ولكن تعدد التيارات هذا بحسب مراقبين شكل عائقاً أمام ظهورها في كيان واحد، قبل ان تحسم هذه التيارات موقفها من فكرة التنظيم وكذلك العلاقة مع الاخوان المسلمين، وذلك من خلال "مؤتمر العيد" الذي عقد في العام "1954" وتم خلاله تسمية الحركة رسمياً باسم الاخوان المسلمين، ونشطت منذ ذلك الحين في هدفها الرئيسي وهو اعلان الاستقلال عن مصر في البداية، ثم سرعان ما لبثت ان سعت للاستقلال التنظيمي عن الكيان الأم في مصر. ويرى الدكتور عبد الوهاب الأفندي في حديث سابق له أن "كثرة هذه القنوات وتداخلها هو الذي ساهم بصورة غير مباشرة في تأخر بروز الحركة، وما اعترى نشأتها من مشاكل. فقد نشأت كنتيجة لهذه الجهود تشكيلات عدة تدعي الانتماء إلى الإخوان، وكان هذا الانتماء ذا طابع فردي على غرار الانتماء للحركات الصوفية، حيث كان هناك الكثيرون ممن أعلنوا ولاءهم للحركة وإمامها دون أن يروا في ذلك تعارضا مع عضويتهم في حركات سياسية أخرى مثل "حزب الأشقاء". وقد شكل مؤتمر العيد "1954" بداية الانطلاق لتنظيم بشكله الرسمي وذلك عندما قررت هذه التيارات حسم خيارها التنظيمي وموقفها من جماعة الإخوان المسلمين، وقرروا فيه تسمية الحركة رسميا باسم الإخوان المسلمين، وانتخبت لها قيادة جديدة على رأسها أمين عام، واختير محمد خير عبد القادر -26 سنة آنذاك- لولاية هذا المنصب.

 

وبعد ميلادها في مؤتمر العيد برزت تحت مسميات مختلفه في الساحة السودانية، فمن اسم الاخوان المسلمين، اسمت نفسها "الجبهة الاسلامية للدستور "1955-1958" وجبهة الميثاق الاسلامي "1965-1969" والجبهة الاسلامية القومية "1985-1989" وظلت تعرف داخلياً بإسم "الحركة الاسلامية" وفي الجامعات بإسم "الاتجاه الاسلامي" واستمرت كذلك حتى استلمت السلطه السياسيه في البلاد "يونيو 1989م" تحت استراتيجية التمكين، إلا أنها لم تبرز لها شهادة متفق عليها بعد ذلك، حيث أن الجماعة الحاكمه إختارت اسم "المؤتمر الوطني" كوعاء جامع كما اسمته، وتمايزت بكيان آخر تحت مسمي "الكيان الخاص" الذي اعتمدته ككيان يمثل الاستمرارية التاريخية للحركة الاسلامية. كما أسس د.حسن الترابي الذي كان الامين العام للحركة الاسلامية في مختلف تجلياتها في الفترة "1965-1998م" بعد المفاصله المؤتمر الشعبي بإعتباره وعاء للحركة الاسلاميه التى تمثل حسب رؤيته ورؤية جماعته الاستمراريه التاريخية للحركة الاسلاميه بعد انشقاقه من جماعة الحكم.

 

وتمحور عمل نشاط الحركة الاسلامية منذ نشأتها في الجانب التربوي والاجتماعي فيما احتل الجانب السياسي حيزاً كبيراً في اطارها الفكري والحركي، حيث تبلورت مطالبها بعد الاستقلال في تبني فكرة الدستور الإسلامي للبلاد، لكن جاء انقلاب عبود عام 1958 ليطيح بهذه الفكرة، وبرزت وسط الحركة أفكار جديدة تمثلت في كيفية التخلص من حكم نوفمبر، وبحسب محللين في هذه الفترة ظهرت للمرة الأولى في الحركة فكرة السعي للإطاحة بالنظام بالقوة، وقد أثارت جدلاً واسعاً بين تيارين داخلها، الأول يقوده المرشد العام في حينها الرشيد الطاهر بكر، الذي يؤيد فكرة الانقلاب بالقوة، والثاني يقوده حسن الترابي الذي عارض الفكره، وكانت النتيجة أن قام الطاهر بمحاولة انقلاب فاشلة ترتب عليها اعتقاله، ونجاح الترابي في استصدار قرار بإقصائه من منصب مرشد الحركة.

 

ولكن الزعيم التاريخي والروحي د.حسن الترابي بعيد اعتلائه منصب المرشد العام للحركة الاسلاميه منتصف الستينات بدأ في ممارساته مقنتعاً بإفكار الرشيد الطاهر التى عارضها سابقاً، حيث لعب دوراً كبيراً في انتفاضة اكتوبر التى اطاحت بحكومة عبود، كما أسهم بشكل كبير في مقاومة نظام مايو من خلال تشكيل الجبهة الوطنية التى ضمت قوي المعارضة التى أنشأت لها معسكرات بالجماهيرية الليبية حتى وصلت للخرطوم 1976م قبل ان ينقض عليها النميري ويوأد خططها.

 

 ويرجع مراقبون لمسيرتها، أن الحركة الاسلامية السودانية تأثرت في مدخلها على الاصلاح بأفكار وطرائق وممارسات حركة الاخوان المسلمين بمصر، مشيرين الى فرق نوعى بينهما في طبيعة المنشأ، فالحركة الاسلاميه في مصر التى اسسها الشيخ حسن البنا كانت وحدتها التنظيميه هي القريه، بينما الحركة الاسلامية السودانية وحدتها التنظيميه المدرسة، وأدى ذلك الى فرق نوعي بين الحركتين، حيث ظل مزاج الحركة الاسلامية المصريه شعبياً، بينما الحركة الاسلامية السودانية إتصفت بالصفوية أو النخبوية، وسعت من خلال النخبة وبالتوظيف السياسي للدين لإيجاد قاعدة شعبية تلتف حولها. فيما ارجع بروفيسر حسن مكى المحلل السياسي في ورقته المقدمه لورشة عمل "قضايا واشكاليات الدولة الاسلامية المعاصر" التى كانت بعنوان "الحركة الاسلامية المفاهيم وشهادة الميلاد" ارجع فيها تعمق فكرة الاصلاح عن طريق القانون لأن معظم رواد الحركة الاسلاميه والذين إنتبهوا لأمرها في السودان كانوا من خريجي كلية القانون، لذلك فقد إنعقدت ثقافتهم على الاصلاح القانونى واللائحي والدستوري، فكان منهم المرحوم بابكر كرار، محمد يوسف محمد، صادق عبد الله عبد الماجد، حسن الترابي، الرشيد الطاهر بكر، محمد صالح عمر.

 

وقد نشطت الحركة الاسلاميه منذ تأسيسها بشكل فعال على الصعيد الطلابي باعتبارها حركة استنارة، فلم يكن لها أن تجد قبولا في ذلك الوقت في غير بيئات الوعي حيث كانت تسيطر على المجتمع الأحزاب الطائفيه المنضوية تحت عبائتي "الانصار والختمية"، ولذا نشطت وسط الطلاب الذين كانوا أحد روافدها، وذلك لاستحكام الطائفية في كافة منافذ المجتمع، وعلى الرغم من المسحة الصفوية التي اكتست ملامح الحركة، إلا أنها اكتسبت حينها الطابع المحلي تحت مسمى "حركة التحرير الإسلامية السودانية"، وقد كانت قيادات هذه المجموعات الطلابية من النافذين بين أقرانهم.

 

ونتيجة لخط الدكتور حسن الترابي الذي اختاره لمواجهة خصومه وبناء صراعاته السياسيه في حقبتي الستينات والسبعينات، اثار ذلك الخط حفيظة التيار السلمي في الجماعة وقتها والذي يتمسك بثوابت الأخوان في عملية تداول السلطه، ونتيجة لذلك خرجت مجموعة الشيخ صادق عبد الله عبد الماجد وشكلت تنظيماً خاصاً بالاخوان المسلمين عام "1977" ليصبح بذلك هناك تياران اساسيان في السودان هما الاخوان المسلمين والحركة الاسلامية. ومنذ ذلك الحين هيمن الترابي على الحركة الاسلاميه، وسيطرت عليه فكرة الوصول إلى الحكم، فتم ذلك عبر الانقلاب على الحكومة الديمقراطية التي كان يرأسها الصادق المهدي عام 1989 لتبدأ مرحلة جديده في تاريخ الحركة الاسلامية والسياسة السودانية بإسم "الانقاذ الوطنى".

 

ولكن بالرغم من حالة "الزواج الكاثوليكي" التى وصمت العلاقة بين القيادة الفكرية والروحية للحركة الاسلامية مع القيادة السياسيه في جهاز الدولة بداية الانقاذ، إلا ان الطموحات السياسيه لقادتها عجل بالمواجهة بين تيارين مما قاد للإنفصال الشهير الذي عرف بأسم "القصر، المنشية" والذي خرج على ضوءه الترابي ومجموعته من السلطه، وتشكيله لتنظيم ثالث للحركة خاص به، لتصبح هناك مجموعة "المؤتمر الوطنى"، ومجموعة "الترابي" فضلا عن "الإخوان المسلمين".

 

ويرجع بروفيسر حسن مكى حالة الفشل في ادارة الدولة والذي ادي للانقسام الاخير في صفوف الحركة الاسلامية في ورقته "الميلاد والمفاهيم" الى ان الحركة الاسلامية لم تبرز نتيجة لفهم عميق لمجريات التاريخ الاسلامي، ولم يكن هناك قرارات أصوليه عميقة أو فلسفية، أن مثقفي السودان لم يتميزوا بهذا النوع من التعمق الفكري والروحي بإستثناء بعض قادة التصوف في السودان، وظلت الثقافة الاسلامية السياسيه ثقافة سطحية تميل الى التعبئة، والشعار والخطاب السطحي الذي لا يخاطب أمهات القضايا لأن أهل السودان عموماً أصحاب ثقافة شفاهية مالت الى تقديس الرموز والنظر الى التاريخ الاسلامي نظرة مثاليه، والحركة الاسلامية لم تكن استثناءاً في وسط هذا التبسيط، لأن الفقه الاسلامي الموروث لم يتعرض ابداً لهذه القضايا"

 

وفيما يرجع مراقبون ضعف اداء الحركة الاسلامية منذ انقلاب "يونيو 1989م" الذي شكل بداية النهاية لها، الى أنه بعد الانقلاب سيطرة الحكومة على نشاط الحركة بحيث صارت تابعة لها، لدرجة دفعت البعض الى انتقادها ووصفها بأنها أصبحت حكومية و"متواطئة"، أي أن الحركة صارت تابعة لنظام الإنقاذ وليس العكس، ومن ثم فإن دورها يكاد يقتصر على تقديم الدعم له، وليس صناعة توجهاته وسياساته كما عهد فيها سابقاً في رسمها للخط السياسي.

 

وقد مرت الحركة الاسلاميه من خلال مسيرتها الممتده منذ الخمسينات بمحطات تاريخيه شكلت منطلقات حقيقة لتوجهها ورسم طريقها، فكانت انتفاضة اكتوبر نقطة التحول الكبير في تاريخ الحركة الاسلاميه حينما أسهمت في الاطاحة بحكومة الفريق ابراهيم عبود من خلال اسهامات الدكتور حسن الترابي الذي اسهم بشكل فاعل في تفجير شرارتها، وفي حقبة مايو اشتركت الحركة الاسلاميه في تجمع احزاب المعارضه وتكوين الجبهة الوطنية "1976" التى غزت الخرطوم، وبعد فشل تلك المحاولة من القوي المعارضة وبعد مضي عدة اشهر فقط، عقدت الحركة مصالحه مع نظام مايو بناءاً على رؤية الترابي الذي كان يري لابد من الدخول في اجهزة الدولة لأن الحركة في حاجة لعملية بناء لأنها لاتزال في طور النشأة، وقد استطاعت نتيجة لذلك أعادت بناء نفسها بعد أن تجاوزت مرحلة إلتقاط أنفاسها، واستطاعت مواصلة العمل السياسي والحزبي بقوة مكنتها من الوصول إلى السلطة عقب ذلك بسنوات.

 

وعلى الرغم من أن الجبهة الإسلامية القومية قد حققت نجاحات في انتخابات 1986 التي أعقبت الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بالرئيس الراحل جعفر محمد نميري وحصلت على "51" مقعدا في البرلمان، وأنها كان يمكن أن تحصل على مقاعد أكثر أو أغلبية برلمانية إن هي ارتضت اللعبة الديمقراطية وقبلت شروطها، ولكنها فضلت المغامرة العسكرية، وبذلك تكون الحركة الإسلامية قد عادت إلى فكرة مرشدها القديم الرشيد الطاهر بكر القائلة بأن الوصول إلى السلطة يتم عبر دبابة عسكرية، وليس صناديق الاقتراع.

 

لكن الوصول للسلطه بغرض اقامة المشروع الاسلامي كانت كلفته عاليه للحركة الاسلاميه التى يشير كثير من مفكريها وناقديها الى انها دفعت ثمن ذلك غالياً، وذلك حينما قاد تلاميذ الترابي الانقسام ضده فيما يعرف بواقعة "مذكرة العشرة" التى شكلت علامة الانقسام القادم، حيث وقع عشرة من أتباعه مذكرة انتقصوا فيها من صلاحيات الامين العام، وبها دخلت الحركة الإسلامية الانقسام الرابع عبر بوابة عزل الرجل الأول، وذلك حينما أشار خصوم الترابي في السلطه إلى أنه أحدث ازدواجية في اتخاذ القرارات داخل أروقة الحزب لتضارب الصلاحيات بين منصب رئيس الحزب الذي يشغله الرئيس عمر البشير ومنصب الأمين العام الذي كان يشغله دكتور حسن الترابي.

 

ويعد مراقبون الانقسام الرابع الذي شهدته الحركة الاسلاميه في العام "1999م" بأنه الأكثر خطورة، لأن الانقسامات الثلاثة السابقة كانت هادئة، وقادتها إما انتقلوا إلى رحمة مولاهم أو انزووا، ولم تكن لهم فاعلية على مستوى العمل العام، كما أن الحركة في حالة الانقسامات الثلاثة الأولى كانت في مرحلة النشأة والتكوين، ولذلك كان استيعابها لعملية الانقسامات ممكنا، أما الانقسام الأخير فهو الأضخم والأكثر أثرا، نسبة لأن الحركة كانت قد قويت وتماسك بناؤها مما جعل عملية شرخ البناء أشبه بهدمه، ثانيا: كانت الصراعات السابقة حول فكرة، أما الصراع الأخير الذي قاد إلى الانقسام الرابع فكان حول السلطة، ومعلوم أن صراعات السلطة أشد ضراوة مما عداها.

 

منذ وقوع الانقسام الرابع وخروج منظر الحركة الإسلامية والقائد التاريخي الدكتور حسن الترابي من الحكومة، بدأ الإسلاميون يتمعنون في أوراقهم التى انقضي عهدها بكل ما تحمله من أحداث والإنجازات، بعد أن انقسم صفهم وأصبح يعادي بعضه بعضاً، وتراجع تطبيق مشروعهم الحضاري في الدوله، في وقت أصبح المجتمع يمر بتغيرات كبيره.

 وفي هذا الاطار خرجت للعلن مراجعات فكرية جاده أحدثت الكثير من الجدل حول تجربة الاسلاميين في التنظيم والحكم، إتسمت تلك المراجعات التي قادها مفكروا ومنظرو الحركة الاسلاميه بين الهدوء الذي يسعي لإصلاحات تحقق المقاربات الممكنه، المراجعات الحاده التى تستهدف اكتشاف اصل العلة. وقد كانت تلك المساجلات تدور حول العلاقة بين الحكومة والحركة، وأثر الدولة على الحركة وأثر الحركة على الدولة، ودوائر اتخاذ القرار، وترتيبها التنظيمي، ولماذا لم تتمكن الحركة الإسلامية في العمل التنظيمي التوفيق بين القيادة السياسية للدولة، والقيادة الفكرية والتنظيمية للحركة. وكذلك في المقارنة بين التجربة الإسلامية في الحكم، وقضايا الإصلاح السياسي الراهنة، ومكانتها في التجربة مثل الحكم الراشد والشفافية وحقوق الإنسان، ووضعها في القوانين السودانية. فيما خلص جميع المنتقدين لتجربتها في السلطه الى أنها أفقدت الثقة فيها وتحتاج لأطروحات جديده كى تعيد تلك الثقة وسط المجمتع ولتعود لمكانتها.      

 

آراء