الحركة الشعبية بين الطوفان وإنتهاكات حقوق الإنسان
شهدت ولاية جنوب كردفان الأسبوع المنصرم جملة من الأحداث المأساوية والإعتداءات الفظيعة ، قامت بها الحركة الشعبية قطاع الشمال على مجموعات من الرعاة والمواطنين العزل بمناطق الحجيرات وأم داجو بالقرب من كادوقلى ، بالإضافة الى منطقة البجعاية والعباسية تقلى حيث أدت الى إستشهاد عشرة من الرعاة من بينهم أطفال وجرح عدد منهم ، الى جانب نهب وسرقة أكثر من (1300) رأس من الماشية ، رغم نفى الحركة الشعبية والإتهامات المتبادلة بينها وبين الحكومة ، إلا أن كل الدلائل والقرائن تشير بأن قيادات الحركة متورطة فى هذه الجريمة ، وقبل الإسترسال فى هذا المقال أسمحوا لى بأن نعزى أنفسنا وأهل الضحايا ونترحم على أرواحهم ونسأل الله أن يتغمدهم برحمته ويجعل مثواهم الجنة ، ونتمنى عاجل الشفاء للجرحى ، كما ندين بشدة هذا المسلك المشين فى قتل وإستهداف المدنيين الأبرياء والمواطنين العزل وخاصة الأطفال.
لأن هذه الأحداث خلفت موجة من السخط والغضب العارم وسط مواطنى جنوب كردفان الذى يريد السلام والإستقرار ، إلا أن تعنت قادة الحركة (الثلاثى) حال دون التوقيع على إتفاق سلام يجنب المنطقة الإقتتال ومزيداً من الدمار ، حيث درجت الحركة الشعبية فى الفترة الأخيرة على ثقافة دخيلة على مجتمعنا تستهدف فيه المواطنين العزل إستهدافاً ممنهجاً ، ونهب ممتلكاتهم وتجنيد الأطفال القصر ، وقد تكرر هذا السلوك فى عدد من المحليات مثل محلية هبيلا والرشاد وأبوكرشولا وتلودى والدلنج وأم دورين ، بهدف خلق حالة من البلبة ومحاولة ضرب النسيج الإجتماعى وزعزعة التعايش السلمى لمواطنى جنوب كردفان.
ولكن سرعان ما نفت الحركة فى بيان مزيل (بقيادة الحركة الشعبية) عن نفسها هذه الجريمة ، وقالت أن علاقتها بالحوازمة والمسيرية وبقية قبائل المنطقة هى علاقة الدم والمصير المشترك والتهميش الذى يطال الجميع ، وأعلنت عن تشكيل لجنة للتحقيق فى الواقعة دون إعطاء أى تفاصيل ، وأشارت إلى إتهام مليشيات الحكومة ، إلا أن عبد الجليل الباشا رئيس هيئة شورى قبيلة الحوازمة بجنوب كردفان إتهم الحركة الشعبية بالمسؤولية عن الهجوم الذى أدى الى مقتل ثمانية من أفراد قبيلته وأسر إثنين تم إطلاق سراحهما لاحقاً ، وطالب (الحركة الشعبية) بكف أيديها عن العزل ، وأضاف .. إذا كانت الحركة الشعبية تعمل على خرق وقف إطلاق النار فعليها مواجهة القوات النظامية دون أن توجه سلاحها نحو المدنيين العزل ، فهى تهاجم مناطق الحوازمة وتنهب مواشيهم للأسبوع الثالث على التوالى .. وكشف عن تكوين لجان أهلية وقانونية للتواصل مع المجتمع الدولى والإقليمى عبر البعثات الدبلوماسية فى الخرطوم .. ومن خلال هذا السرد نؤكد للسادة القراء بأن الحركة فقدت بذلك الزخم الثورى الذى كان طابع المرحلة الأولى ، فلم يحقق المقاتلون أهدافهم الكلية .. مما جعل الأمل يخبو فى نفوسهم ، والخلافات بدأت تدب فى أوساط صفوف قادة الحركة وجنودها.
ولكى نكون أكثر دقة وموضوعية نستشهد بما أفادت به مصادر موثوقة حول التفاصيل الجديدة لإعتداءات الحركة الشعبية قطاع الشمال ، وأكدت فيها بأن أعمال القتل والنهب التى جرت هى عملية عسكرية نفذها الجيش الشعبى بتعليمات مباشرة من قيادته التى كلف بها كل من العميد (كوكو إدريس الإزيرق وإبراهيم الملفا) الى مناطق كرونقو وأبو سنون ، وعقد إجتماعات هناك لإمتصاص ردة الفعل المتوقعة من أهالى المنطقة ضد الحركة بعد كشف تفاصيل هوية الجناة ، وأكدت نفس المصادر أن العملية نفذها التيجانى مرقص الذى نفذ أعمال القتل والسرقة بواسطة على إبراهيم وأخنوك تية حيث تحرك الأول من جبل كلدونق القريب من كيقا الخيل بينما تحرك تية أخنوك من جبل صقلى ليبدأ تنفيذ العملية بأفراد مسلحين ببنادق كلاشنكوف ومدافع رشاشة (قرنوف) وعدد من مدافع الأربجى ، وبعد الهجوم على الحجيرات تحركت نحو منطقة كرنقو عبدالله ، حيث تم توزيع الأبقار على بعض القادة الميدانيين كما تم تخصيص عدد (300) رأس لرئاسة محور غرب كادوقلى بكرونقو وتوزيع بقية الأبقار على المحاور الأخرى ، لأن الحركة الشعبية كانت تسعى لترتيب عمليات إمداد عاجل لقواتها التى تعانى نقصاً حاداً فى الغذاء بكل المعسكرات الى جانب أن الخطة كانت ترتكز على (جر) قوات الحكومة لشن هجوم على مواقع الحركة لنسف وقف اطلاق النار.
والسؤوال الذى يفرض نفسه .. لماذا ظل بعض منسوبى الحركة ينفون .. ودعاة حقوق الإنسان والمجتمع الدولى صامتاً ولم يحرك ساكناً إزاء الإنتهاكات المتكررة لقوات الحركة الشعبية قطاع الشمال فى حق المواطنين الأبرياء؟! .. فالمجتمع الدولى الذى ظل شاهداً لجرائم الحركة الشعبية بين الطوفان وسجلها الأسود فى إنتهاكات حقوق الإنسان لن يجد هذه المرة غطاءاً لهذا العمل اللا إنسانى ، ومن جانب آخر إن الذين يتعاطفون مع الحركة الشعبية أو يعتقدون أنها منقذتهم أو هى مستقبل أهل الهامش والضعفاء ، عليهم أن يعيدوا قراءة جرائم الحركة والإستراتيجية التى يتعاملون بها ، لأن إستراتيجيتهم تقوم على القتل والنهب والإستهداف ولا يحملون قضية موضوعية جديرة بالإحترام ، نتيجة للغواء الفكرى لتعنت قادتها ، فلذلك أين المنظمات الحقوقية ؟!.. وأين دعاة الإنسانية ؟! .. ، وما هو موقف حلفاء الحركة الشعبية فى الداخل والخارج تجاه ما يحدث ..؟! وماذا تقول المعارضة السودانية عن ما يحدث ؟ والى متى تظل الحكومة صامتة ولماذا توارت مؤسساتها عن الأنظار؟!.
عموماً فإن مثل هذه التفلتات تؤكد بأن قوات الحركة الشعبية قد وصلت لمرحلة اليأس وتمر بأسوأ حالاتها من التفلت والنهب والسلب ، وتمر بأزمة حقيقية تبحث عما تسد به رمق الجوع ، وفى هذه الحالة كان على قيادتها الإعتراف بما حدث ، وأن تقول بأن من قاموا بذلك قوات متفلتة !!.. وأنها سوف تقوم بملاحقتهم ومحاسبتهم ، لكن ما حدث يؤكد بأن (قطاع الشمال) ظل يختلق الأزمات لإشعال الحرب وغير جاد فى العملية السلمية ولن يقابل وقف اطلاق النار الذى أعلنه رئيس الجمهورية وجدده ثانياً ، إلا بالمزيد من الإنتهاكات وزرع الفتن ، لذلك نقول لياسر عرمان الأمين العام للحركة الشعبية ، والذى يعتبر من جنرلات وتجار الحرب بأنه لا يمتلك أى معلومات حول الواقعة ، وأنه يسعى لتنفيذ مخطط الشيوعيين فى جنوب كردفان ، فالمشكلة لا تكمن فى عجز قيادة الحركة إزاء ما يحدث ، وإنما تكمن فى قصور رؤيتها للمعطيات المحيطة ، وللوضع المأساوى الذى ساهم قادتها فى وصول الولاية إليه ، حرصاً منها على بقاؤها فى السلطة ، ودفاعاً عن خياراتها الخاطئة ، والعيش على أوهامها ومراهناتها الخاسرة.
نعم هنالك مرارات ومظالم تعرض لها أهلنا النوبة ، والآن يتعرض لها أهلنا الحوازمة فى المنطقة نتيجة لأخطاء بعض قيادات الحركة الشعبية إستخدموا فيها النوبة كأدوات دون وعى منهم ، لذلك فإن الحركة بصورتها الحالية لا تمثل النوبة ، بل تمثل بقايا اليسار والشيوعيين وأصحاب المصالح تسعى لتأجيج الصراع وتنفيذ مخططاتهم ، ولكن يجب أن لا نأخذ الغالبية من النوبة بجريرة أفعال وأخطاء الآخرين من فلول ومتفلتى الحركة الشعبية ، فكل من أخطأ وأجرم يجب أن يحاسب وأن يقتص منه لأن ليس هناك كبير على القانون وأن ترد المظالم والحقوق إلى أهلها ، من خلال لجنة دولية محايدة لإزالة الترسبات والغبن العالق بالنفوس ، من أجل التعايش السلمى بأسس وقواعد جديدة لكل العناصر التى تعيش فى المنطقة ، ولا بد من التأكيد أن مطالب النوبة لا تتعارض مع مصالح البقارة والكيانات الأخرى ، وأن لا نسمح لأصحاب النفوس الضعيفة أياً كانوا إستغلال ما حدث برفع قميص عثمان والمطالبة بدمه ، حتى لا يؤدى إلى تأجيج الصراع وزعزعة الثقة بين المجموعات السكانية التى تعايشت لسنوات طويلة ، فلذلك جنوب كردفان تحتاج للمكاشفة والمصالحة ، لأن ما يجمع سكان المنطقة أكثر مما يفرقها ، رغم أن الحركة تحاول أن تقوم بزرع الفتنة بين البقارة والنوبة فى إطار تكتيكاتها فى الحرب الوقائية ، فلذلك نرجو أن تفطن قيادات البقارة والنوبة معاً للمخطط ، حتى لا يدفع الطرفان ثمناً غالياً فى حرب جانبية لا مصلحة لهم فيها ، لأن البقارة والنوبة سواء فى التهميش ..!! فلذلك ليس هناك سبب واحد موضوعى للحرب بين البقارة والنوبة سوى (العامل الخارجى) فى تأليبهم ضد بعض ، والمطلوب هو إعادة الثقة بين تلك العناصر حتى يستمر التعايش السلمى وتذويب الفوارق بخلق برامج بين الأطراف عن طريق مؤتمرات الصلح وأحياء المعاهدات والأحلاف والمواثيق القديمة وتعزيز المجهودات وصولاً لهدف التعايش بينها ، لأن الحرب الأهلية فى جنوب كردفان تسببت فى نزوح كثير من النوبة والبقارة وشردتهم من ديارهم ، كما قتل فيها الآلاف ودمرت مئات المدارس والمراكز الصحية وأبار المياه والمشاريع الزراعية ، وفقدت فيها المواشى والممتلكات ، وحلت فيها ثقافة الحرب والأيديولوجيات العرقية والإقصائية والعنصرية محل قيم التسامح والسلام والإلفة ، التى كانت حياة المجموعتين (النوبة والبقارة) لأكثر من خمسة قرون مضت.
لذلك نحن نقول لقيادات الحركة الشعبية بجبال النوبة قبل أن تتحدثون عن فتح جبهة وفتنة جديدة للقتال ، لتحويل (جنوب كردفان) الى (دارفور) أخرى ، عليكم أولاً الحديث عن تقييم تجربتكم وسنوات قتالكم بالحركة الشعبية والتعايش السلمى ، بدلاً أن تسعوا الى تفتيت ولاية جنوب كردفان وتكريس التقاطع بين سكانها ، فلذلك نحن نحاول تحصين شعب جنوب كردفان وتقوية مناعاته الداخلية حتى يصبح قادراً على صد المؤامرات ، ونحاول أن نضع بداية لتفكير عقلانى وخطاب سياسى مختلف يستصحب جموع سكان المنطقة مع أخذنا فى الإعتبار خصوصية جبال النوبة .. ونمد أيادينا بيضاء لكل حادب على الولاية دون عزل أو إقصاء .. خطاب يغوص فى أعماق واقع جنوب كردفان بشجاعة بحثاً عن أسباب المشكلة وجذورها ووضع الحلول الناجعة دون وضع قنابل مؤقوتة ، وأن نترك سكان جنوب كردفان وحدهم هم الذين يقررون شأنهم ، لأن أحلامهم العامة مع الحركة الشعبية قد تراجعت ، لأن الحركة ساهمت فى إفقار النوبة وإرتكبت جرائم فظيعة فى حقهم .. مثل تجنيد الأطفال والفتيات التى إنتهى بهن المطاف بائعات للهوى فى معسكرات التمرد الأول .. وقد بلغ عددهن (٣٠٠) فتاة أحضرن من جبال النوبة (من أجل التحرير والسودان الجديد) .. كما أن هناك أكثر من حوالى ألف (١٠٠٠) من أبناء النوبة ماتوا فى معسكرات التدريب نتيجة لعمل منظم ومقصود .. بالإضافة الى (٦٠٠) ماتوا أثناء التدريب ضمن دفعة (إنتصار) ، وهناك الكثير من الإضطهاد والموت الرخيص الذى تعرض له أبناء النوبة فى صفوف الحركة الشعبية فى أدغال الجنوب والنيل الأزرق ودارفور ، فإستغلت الحركة أبناء النوبة وما زالت تستخدمهم دون أن تعطيهم وزنهم الحقيقى.
ورغم الإنشقاق الذى حدث فى جدار المنطقة بسبب الحرب والصراع ، إلا أنها شكلت بوتقة تعايش وتمازج أعراق وثقافات متباينة بين قبائلها فى السابق ، وهى أنموذج للوحدة الوطنية ومثال حى لأمة متجانسة فى التعايش السلمى رغم التباين الثقافى والعرقى بين قبائل المنطقة ، إلا أن إستقرار الولاية يحتاج لجهود كل أبناء المنطقة من إثنيات مختلفة دون تمييز لتساهم فى عملية البناء والتعمير وما دمرته الحرب ، ولأهمية ما حدث نقوم بدعوة كل فرد ، ونوجه له رسالة بأن يحملها ويتبناها جميع أبناء المنطقة لخلق إجماع شعبى بالمنطقة لتصبح آلية ضغط للمساهمة فى وقف نزيف الحرب وتحقيق السلام ، لرسم وتحديد مستقبل ولاية جنوب كردفان السياسى والإجتماعى والإقتصادى.
والى لقاء فى مقال آخر ......
آدم جمال أحمد – سيدنى – أستراليا - 21 فبراير 2017 م
elkusan67@yahoo.com