الحزب الشيوعي والغرق في شبر ماء 

 


 

 

أن إشكالية العقل الأيديولوجي أنه عقل محنط و جامد لا يستطيع أن يتفاعل مع الأطروحات الفكرية و السياسية الأخرى، في اعتقاد أنه وحده صاحب الحل و العقد، كما أنه يحاول أن يلوي عنق الحقائق لكي يوصل الناس لقناعة غير مؤسسة على الحقائق, و سيظل التاريخ السياسي منذ عام 1946 يعيد نفسه فقط كظاهرة في الساحة السياسية السودانية. كان الاعتقاد أن الزملاء في الحزب الشيوعي السوداني أن يستفيدوا من التجارب السابقة، و أن يتواضعوا، و يتحاوروا مع الأخرين من أجل الوصول لتوافق وطني، يقود لبناء الدولة المدنية الديمقراطية. لكن للأسف أن الزملاء عجزوا أن ينزلوا من برجهم العاجي، في اعتقاد أنهم وحدهم يمثلون مرجعية الثورة و أهدافها. و أنهم وحدهم الذين يحملون مشعل الحرية و على الآخرين اتباعهم.

إصدر المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوداني بيانا يطالب فيه الجماهير أن تقف ضد التسوية السياسية. و الذي أسماها تصفية الثورة و طالب الجماهير " التصدي بكل الطرق السلمية لهزيمة المخطط الهادف لتصفية الثورة و تكريس الديكتاتورية و التبعية و التفريط في السيادة الوطنية". أن الحزب الشيوعي عنده قناعة كاملة أنه هو المسؤول عن الثورة، و يجب على كل القوى السياسية الأخرى أن تنصاع لتعليماته الحرفية، و جعلها جميعها في سلة واحدة هي قوى مضادة للثورة. و حتى قبل فض الاعتصام عندما جاء شباب الثورة بشعار فيه قدر عالي من القيم الفاضلة ( يا عنصري يا مغرور كل البلد دارفور) لم يروق للزملاء و جاءوا بشعار أخر ( أي كوز ندوسو دوس) و بعدها انطلقت شعارات الإقصاء و العنصري، و بدأت تظهر لايفات لعناصر تسير في ذات الطريق بهدف صناعة فزاعات تخرس الناس عن الحديث و تقديم أراء مضادة. و بدأ الزملاء في شن حرب نفسية على العديد من قيادات الأحزاب، و منظمات المجتمع المدني بدأت بالانقسام في ( تجمع المهنيين) ثم ( تجمع القوى المدنية) و زحف على بعض الصحف بهدف منع أي رأي مخالف لنهج الزملاء، و الكل يعرف أن إنتاج الثقافة الديمقراطية يتم من خلال الممارسات لكي تعلم الشارع أحترام الرأي الأخر. لكن للأسف أن أصحاب الأيديولوجية لا يؤمنون بالرأي الأخر. و الكل يعلم أن الديمقراطية ليست رأيا واحدا بل هي تيارات فكرية متنوعة و مختلفة، و لكنها تصنع المؤسسات و المواعين التي تتحاور داخلها.

 يبدأ بيان المكتب السياسي للحزب الشيوعي بالرجوع لبداية الثورة، و يحمل الكثير من المغالطات، و لوي عنق الحقائق، و الغريب في الأمر أنه تاريخ يعيشه الناس الآن، و الكل الآن حضور فيه يقول البيان "لا تزال قوى الهبوط الناعم وحلفائها من اللجنة الأمنية وبعض القوى الإقليمية والدولية تواصل مخططاتها التي تهدف إلى قطع الطريق أمام الثورة وتصفيتها في نهاية المطاف، وهي مواصلة لمخططات قديمة ظهرت في الأيام الأخيرة من نظام المخلوع البشير في إطار ما عرف بحوار الوثبة الذي شاركت فيه قوى الهبوط الناعم، التي وافقت على المشاركة في انتخابات 2020، ولكن تفاجأت بإندلاع الثورة في ديسمبر 2018" لماذا يريد الزملاء تغبيش الوعي عند جماهير، و هم يعلمون أن قيادة الانقلاب لم تكن راضية على عمل البعثة الأممية، و هذه البعثة جاءت بموجب خطاب أرسله رئيس الوزراء للأمم المتحدة، طالبا فيه المساعدة الفنية منها لانجاز مهام الفترة الانتقالية، و أن العسكر هم الذين رفضوا البعثة، لكن أيدتها كل القوى المدنية من ضمنها الحزب الشيوعي السوداني و الواجهات التي تعمل معه. و بعد الانقلاب اقترحت البعثة مسألة الحوار مع استبعاد حزب ( المؤتمر الوطني) وفقا لنصوص الوثيقة الدستورية، كما أن المجتمع الدولي أدان الانقلاب وفقا للوثيقة الدستورية، و اعتبره انقلاب عليها و على الشراكة. أما قضية الهبوط الناعم و المشاركة في انتخابات 2020، هي أيضا كانت ضمن رؤية تلك القوى السياسية في منازلة النظام. و هي تستمد ذلك من التجارب الأخرى في أفريقيا و أمريكا للاتينية التي استطاعت أن تنازل فيه المعارضة أنظمة شبيهة للإنقاذ في كل من ( ليبريا و كينيا و زمبابوي و غانا و فنزويلا و شيلي و ارقوي و غيرها) و استطاعت أن تسقط  النظم الديكتاتورية بذات أدواتها. أما المفاجأة بإندلاع الثورة كل القوى السياسية تفاجأت بها من ضمنها الحزب الشيوعي نفسه. و الكل بدأ المشاركة بعد توقيع (أعلان الحرية و التغيير) ليس هناك حزبا هو الذي صنع الثورة. و عندما اندلعت الثورة الكل قد ترك خيارته الأخرى و وقف مع الثورة.

في محطة أخرى يريد أن الشيوعي أن يلوي عنق الحقيقة، و يقول عن (الأحزاب الأخرى) لكي يمارس عليها ضغطا سياسيا و معنويا لكي تكون مقطورة له "اضطرت للإلتحاق بالثورة والتوقيع على مواثيقها، ولكنها تنكرت لهذه المواثيق مبكراً، عندما وقعت على الشراكة مع المجلس العسكري الانتقالي بموجب الوثيقة الدستورية التي كرست هيمنة العسكر على مفاصل السلطة وشاركت في حكومتي عبدالله حمدوك، ووافقت أن تكون واجهة مدنية زائفة لحكم العسكر." أيضا الحزب الشيوعي التحق بالثورة و شارك في كل الحوارات التي دارت مع العسكريين حتى توقيع الوثيقة، يريد الحزب الشيوعي أن يحمل فشل الفترة الانتقالية في الثلاث سنوات للقوى الأخرى، رغم أنه كان عراب هذه التسوية مع العسكر، و صديق يوسف كان موجودا طوال المفاوضات مع العسكر. و أيضا عدد من الشيوعيين في واجهات أخرى. و معروف أن الزملاء يعملون من خلال الواجهات. نعلم أن هناك أخطاء قد حدثت في الفترة الانتقالية و يجب أن يتحملها الجميع أولهم الحزب الشيوعي. ليس المحاولة رميها على الآخرين.

و يقول البيان أيضا في محاولة للهروب من الحقيقة "إن ملامح التسوية التي تسربت تدور حول ما رشح من اجتماع القاهرة للاتحادي الأصل مع الاتحاديين الذين كانوا مشاركين في نظام الإنقاذ ، وما سمعه وفد الحزب الشيوعي من الآلية الثلاثية المكونة من بعثة الأمم المتحدة بقيادة السيد فوكلر والاتحاد الأفريقي بقيادة ودلبات ورئيس بعثة منظمة الايقاد السفير اسماعيل وايس ، تركز حول الغرض من اللقاء الجامع لكل القوى السياسية دون استثناء ، وأن الهدف من هذا الاجتماع هو التوصل إلى وفاق وطني لمناقشة الترتيبات الدستورية، وتحديد المعايير لاختيار رئيس الوزراء والحكومة وإجراء الانتخابات، وتحديد مهام مجلس السيادة والعسكريين" أن التسوية السياسية التي تديرها البعثة الأممية بدأت بعد الانقلاب، و ليس لها علاقة باجتماع الاتحاديين في القاهرة. و هؤلاء قابلوا فوكلر في الخرطوم دون أن يغطوا وجوههم بأصبعهم. و مقابلتهم لفوكلر جاءت بعد مقابلة الحزب الشيوعي له و واجهاته التي ذهبت له بليل. و التسوية لم تكن في الخفاء بل كانت معلنة و الشمس في رابعة النهار، و الكل يعلم أن (البعثة الأممية و الاتحاد الأفريقي و الايقاد) يعملون من أجل تسوية و تعبيد الطريق للديمقراطية. أن التسوية جاءت بفضل تضحيات شباب الثورة (و ليست الثورية) و هذه التضحيات هي التي ضغطت العسكر للتنازل عن السير في طريق الانقلاب و تأسيس دولة شمولية، فالديمقراطية تؤسس من خلال الحوار المتواصل بين أبناء الوطن و ليس محاولات العزل و الإقصاء و تخويف الناس و نشر رايات الزعر حتى لا يصدع الناس بأرائهم. أن الشباب الذين صنعوا الثورة هم الذين أعادوا الكل لطريق التحول الديمقراطي.

و يقول الزملاء في بيانهم "قد أكدت التطورات في اليومين الماضيين أن الترتيبات للتسوية قطعت شوطاً بعيداً بدليل أن أحد المطلوبات التي وردت في لقاء الآلية هي تهيئة المناخ السياسي لإنعقاد اللقاء المرتقب، وردت في خطاب الفريق البرهان الآخير الذي أكد على تهيئة المناخ للتسوية وجاء في المؤتمر الصحفي لقوى الحرية والتغيير الذي أكد نفس حديث البرهان لتهيئة المناخ والتي لا ترقى لمطالب الشارع والثورة." هل عندما ذهب الحزب الشيوعي و تجمع المهنيين التابع له لفولكر، لم يكونوا على دراية أن فوكلر يهدف لتسوية سياسية، و يريد العودة لطريقة بناء الدولة المدنية الديمقراطية، أم كانت مفاجأة للزملاء أكتشفوها مؤخرا. أن الذين لا يرغبون في عملية التحول الديمقراطي يحاولون خلق العراقيل لها.

بدأ الزملاء الرجوع في البيان إلي مرجعيتهم الفكرية لعلهم يجدوا فيها شيئا ينقد عملية التسوية السياسية كما يسمونها، التي تريد أن تفارق مسار (الثورية) و ليست الثورة. حيث يقول البيان "ما يربط بين قوى الهبوط الناعم والمكون العسكري هي المصالح الطبقية والاقتصادية التي تتمثل في نهب ثروات البلاد ، كما يحدث الآن من خلال تهريب الذهب والصمغ العربي والثروة الحيوانية الخ.... والتفريط في السيادة الوطنية من خلال تكريس التبعية للخارج والتي تعتمد عليه في بقائها في السلطة." و هل الثورية التي يريدها الزملاء سوف تحقق الديمقراطية، أن الثورية التروتسكية التي تتبناها القيادات التاريخية في الحزب الشيوعي تؤسس نظاما ليس له علاقة بالديمقراطية. و ماذا فعلت الثورية في كل دول أوروبا الشرقية سابقا غير نظم ديكتاتورية، و انتهاكات للحقوق، لذلك عندما سقط الاتحاد السوفيتي جميعهم هرولوا تجاه الراسمالية و الديمقراطية. و لا يعتقد أحدا أن الأفكار التي قد تجاوزتها البشرية منذ نهايات القرن الماضي سوف تصبح مفيدة في السودان. يجب على الأجيال الجديدة في الحزب الشيوعي التي لم تستطيع أن تصدع برأيها، أن تنهض من كبوتها، و تقود النضال من اجل الديمقراطية من داخل حزبها الذي اقعدته المركزية الديمقراطية. الزملاء يعلمون تماما أن الديمقراطية صراع متواصل بين الأفكار، و أنهم لا يملكون زادا للسير في هذا الطريق، لذلك وقفوا في محطة واحدة و تعلقوا بأهداب الثورة و هم يقصدون ثورية تروتسكي.

يحاول الزملاء بشتى الطريق البحث عن تبريرات للهروب من الانتخابات، التي تشكف رصيد كل قوى سياسية من الجماهير، حيث يقول البيان التسوية تسمح باجراء انتخابات في ظل ظروف هيمنة العسكريين وحلفائهم المدنيين على مفاصل مؤسسات الدولة، وبمساعدة القوى الخارجية الاقليمية والدولية التى تراهن على المؤسسة العسكرية وقوى الهبوط الناعم لرعاية مصالحها، لذلك تخطط هذه القوى لاجراء هذه الانتخابات للسماح لها بالعودة لمواقع السلطة، لذلك من المؤكد حدوث عمليات تزوير واسعة النطاق في وجود جيوش ومليشيات قبلية تضم أعداداً هائلة من الأجانب ، الذين تحصلوا على الرقم الوطني والجنسية السودانية واحتلوا أراضي النازحين واللاجئين، هذا من جانب ومن الجانب الآخر تنص اتفاقية جوبا المرفوضة من قبل الجماهير تنص على أن جيوش الحركات الموقعة على الاتفاقية يحق لها الاحتفاظ بسلاحها لمدة 40 شهراً من تاريخ التوقيع ، وهي القوات التي ستكون تحت امرة قادة الحركات المسلحة." كان الأفضل للزملاء الحديث عن شفافية الانتخابات و خلق البيئة الصالحة لها و تكملة كل الأجراءات التي تقود لانتخابات نزيهة مثل ( أجراء إحصاء في البلاد – تكوين مفوضية الانتخابات و أعداد قانون للانتخابات – تكملة أجراءات الترتيبات الأمنية – تحسين الاقتصاد – تحويل كل الحركات لأحزاب سياسية و غيرها من المطلوبات التي تجعل الانتخابات نزيهة و شفافة) و نقف معهم في مثل هذه المطلوبات، أما القوى التي رفضتها الجماهير كما يقول الزملاء، أفضلهم أن ترفضها الجماهير من خلال صناديق الاقتراع لكي يحدث العزل الجماهيري، إذا كان فعلا الزملاء يثقون في المجاهير. لكن الزملاء لا يريدون انتخابات و لا حريصين عليها. و كما قالت أمال الزين القيادية في الحزب الشيوعي لجريدة (الجريدة) قبل يومين أن الحزب الشيوعي و تجمع المهنيين و بعض لجان المقاومة سوف يكونون مركزية لقيادة للثورة. الزملاء ألان في حالة عشق جديد مع التيار الفكري للتروتسكية. كما أصبح الزملاء يرددون نفس الحديث الذي يقال في الايفات و Clubhouse بدخول اعداد هائلة من الأجانب و غيرها. الأمر الذي يؤكد أن الزملاء غرقوا في شبر ماء. و يجب على الزملاء أن يقرأوا عن كيف استطاعت الشعوب أن تصل للديمقراطية. ليست برؤية حزب واحد و لكن من خلال تراضي مجتمعي عام. نسأل الله لنا و لهم حسن البصيرة.



zainsalih@hotmail.com

 

آراء