الحزن الكبير: الإنقاذ فى طبعتها الثالثة !!؟؟ … بقلم: ابراهيم الكرسني

 


 

 

 

كم كنت أتمني أن تكون هذه المعركة الإنتخابية، إن صحت التسمية،  عرسا سودانيا كبيرا. لكنها و للأسف الشديد تحولت بفعل مواقف و سياسات قياداتنا السياسية، حكومة و معارضة، الى  حزن كبير، بل مأتم سياسي فقد فيه الشعب السوداني أعز ما يملك، ألا وهو إختياره الحر فيمن يحكمه فى مقبل أيامه و يقرر مصير مستقبل أبنائه. لقد حرم نظام الإنقاذ الشعب السوداني من تنسم عبير الحرية و الديمقراطية لعقدين كاملين من الزمان، وهو الشعب العاشق لهما، حتى من قبل ولادة البعض من قادة هذا النظام، ثم يأتي اليوم باحثا عن شرعية مفقودة عبر إنتخابات شائهة، و منقوصة، و مزورة فى العديد من مراحل تنفيذها. إن الذين عاصروا إنتخابات عام 1986، التى جرت بعد إنتفاضة شعبية أطاحت بالطغيان المايوي، سوف يذكرون معنى أن تكون الإنتخابات حرة و نزيهة. سوف يذكرون حرية الرأى و التعبير، التى سمحت للجميع التعبير عن آرائهم كتابة و تحدثا و تظاهرا، دون تدخل من أحد، ما دام كل ذلك يتم فى حدود القوانين التى إتفقت عليها جميع القوى السياسية، دون إستثناء لأحد. سوف يذكرون أيضا كيف كانت تقام الليالي السياسية بمختلف فنون الخطابة و البلاغة و الحقائق التى تملك للجماهير، و من ثم ختامها مسك من الغناء و الأناشيد الوطنية التى تلهب حماس الجماهير، يؤديها مجموعات من الشباب الكورالي، فى منظر رائع يبرز و يعكس إبداعات شبابنا، قبل أن تغشاه أعاصير التوجه الحضاري، و تحوله الى مسخ، لا هم بشاب زاخر بالحيوية، و لا هم بكهول قانعة بحكم المولى عز وجل فى شأنهم، و لكنهم بين منزلتين، حينما تراهم تأسى لهم، ليس من بؤس المظهر فقط، و إنما لحرمانهم مكنونات الشباب الإيجابية، التى حرمهم من نعمتها نظام التوجه الحضاري، بكل ما يحمل من صفات كالحة، هى ضد الفرح و الغناء و الفنون بشتى أنواعها، بل هم ضد الحياة بمعناها الواسع، لأنهم لا لدنيا قد بعثوا، و إنما ليريقوا كل الدماء... فبئس الرؤية، و بئس الرسالة !!

أكثر ما يدهش المرء هذه الأيام هو إتهام مرشح المؤتمر الوطني لبقية مرشحي الأحزاب المعارضة له بالهروب من ميدان المعركة، وذلك لأنهم لا يريدون الإحتكام الى الشعب. حقا شر البلية ما يضحك، و إذا لم تستح فأفعل ما شئت! و يا لجرأة البعض، حينما يتهم رجل، أعلن على الملأ، و لأكثر من مرة بأنه قد سطا على السلطة السياسية المنتخبة و "قلعها" بقوة السلاح، فى تآمر تام و كامل مع الجبهة الإسلامية القومية، أن يتهم القيادات الوطنية، المنتخبة من الشعب، فى إنتخابات حرة و نزيهة، بأنها لا تريد الإحتكام له مرة أخرى!!

لابد إذن من وجود مسوغات قوية و حجج مقنعة تسند هذا الرجل فى تحديه هذا، و فى دعوته الرجوع الى الشعب و الإحتكام الى صناديق الإقتراع. فلولا وجود مثل هذه المسوغات و تلك الحجج، لما تمادى مرشح المؤتمر الوطني فى هذا التحدي، و لما تجرأ على ذكر كلمة صناديق الإقتراع، و هو الذى حكم البلاد لأكثر من عقدين من الزمان بقوة الحديد و النار، و كأنه لم يسمع بهذه الصناديق من قبل، أو كأن الذين "قلع" منهم السلطة قد جاءوا اليها عبر صناديق "القمامة"، و ليس صناديق الإقتراع، التى يدعوهم بالإحتكام إليها، فى جرأة لا يقدر عليها، إلا من كان مصابا بفقدان الذاكرة تماما. إننا نكاد نجزم بأنه لو لا أن توفرت لهذا الرجل معلومات مؤكدة بفوزه المسبق فى هذه الإنتخابات، لما تجرأ على ذكر الإحتكام الى الشعب، و لو لمرة واحدة، لأن من كان صادقا بالفعل فى دعوة الإحتكام الى الشعب، لما تجرأ على "قلع" سلطة منتخبة من قبل هذا الشعب نفسه، فى المقام الأول، فى إنتخابات شهد عليها العالم أجمع بحريتها و نزاهتها!

كيف يستقيم عقلا لرجل تمكن من "قلع" السلطة السياسية بواسطة الإنقلاب العسكري، أن يراهن عليها من خلال الإحتكام للشعب و صناديق الإقتراع، لو لا أن تأكد له، و بما لا يدع مجالا للشك بأن نتائجها ستكون فى صالحه بنسبة مائة بالمائة ؟! و لماذا لم يفكر هذا الرجل فى الإحتكام الى هذا الشعب المسكين من خلال صناديق الإقتراع، حينما إتخذ قراره بالإنقلاب على سلطته المنتخبة فى الثلاثين من مايو من عام 1989؟! بل لماذا لم يفكر فى الإحتكام إليه طيلة العقدين المنصرمين، التى جعل فيها الشعب السوداني كحقل تجارب لأسوأ أنواع السياسات، و فى جميع المجالات، السياسية، و الإقتصادية ،و الإجتماعية، حتى قضى على مكونات و مقومات المجتمع السوداني، التى توارثها أبا عن جد عبر مئات السنين، و أنتجت شعبا أبيا، و صادقا، و أمينا، وكريما، و شجاعا، حتى جاءت الإنقاذ فحولته الى العكس تماما بفضل برامجها البائسة، وقادتها الأكثر بؤسا؟! و ما هو السر وراء هذا الإهتمام المتزايد فى أهمية الأخذ برأي الشعب؟ و منذ متي كنتم تضعون حسابا لرأي الشعب أصلا منذ توليتم زمام الأمور فى البلاد؟!

هل أخذتم رأي الشعب حينما أعلنتم الجهاد على إخوانكم فى الوطن في جنوب البلاد، و حولتم الحرب هناك من حرب مظالم اقتصادية و سياسية و إجتماعية الى حرب دينية، قسمتم بموجبها البلاد الى فسطاطين، فسطاط للمسلمين و آخر للكفار، و أبدتم فيها شباب الوطن من الفسطاطين؟ و هل أخذتم رأى الشعب حينما فصلتم الآلاف من بناته و أبنائه للصالح العام، فى حرب لقطع الأرزراق لم تراعوا فيها دين أو خلق؟ وهل أخذتم رأي الشعب حينما قررتم بيع الناقل الوطني، سودانير، للأجانب؟ و هل أخذتم رأي الشعب حينما قررتم تصفية مشروع الجزيرة، و بيع أراضيه للأجانب من كل حدب وصوب؟ و هل أخذتم رأي الشعب حينما أبرمتم عقود إستخراج البترول مع الشركات الأجنبية؟ بل هل أطلعتم شركائكم فى الحكم بتفاصيل تلك العقود؟ و هل أخذتم رأي الشعب حينما قمتم بتوزيع الأراضي فى المواقع الإستراتيجية، بما فى ذلك الميادين العامة، على محاسيبكم و المؤلفة قلوبهم؟ وهل أخذتم رأى الشعب حينما وضعتم حدا لمجانية التعليم، الذى كنتم أنفسكم من أوائل المستفيدين منه و أحد مخرجاته؟ و هل أخذتم رأى الشعب حينما و ضعتم حدا لمجانية العلاج التى كان يتمتع بها هذا الشعب، الذى تودون الإحتكام اليه الآن؟ و هل أخذتم رأي الشعب حينما فتحتم أبواب البلاد مشرعة لجميع الإرهابيين من مختلف أنحاء العالم، ليعوثوا فيها فسادا، و يخربوا ما بناه شعبنا من جسور للتواصل مع بقية شعوب العالم عبر عشرات السنين؟ و هل أخذتم رأي الشعب فى أخطر القضايا التى سوف تقرر مستقبله، و مستقبل أبنائه، كقضية تقرير المصير، و إتفاقيات الحرب و السلام، التى أخذتم فيها رأي كل من هب ودب من أركان الدنيا الخمسة، سوى بنات و أبناء شعبنا، الذين تودون الإحتكام اليهم الآن عبر صناديق الإقتراع، كما تزعمون؟! إذن لماذا هذا الحماس الدافق لقادة المؤتمر الوطني لأخذ رأي الشعب، و الإحتكام اليه من خلال صناديق الإقتراع هذه المرة؟ هنالك، فى تقديري، سببان مختلفان، و لكنهما سوف يفضيان الى نتيجة واحدة، وهي الفوز المضمون لمرشح المؤتمر الوطني لرئاسة البلاد. هذا هو إذن "سر" هذا الحماس الدافق الى إجراء الإنتخابات و الإحتكام الى الشعب عبر صناديق الإقتراع!

السبب الأول هو الضعف البين لجميع الأحزاب و القوى المعارضة لنظام الإنقاذ، و الربكة و سوء الأداء الذى صاحبها منذ توقيع إتفاقية نيفاشا، التى سمحت بهامش من الحريات لا بأس به،منذ توقيعها، وحتى و قتنا الراهن. ظهر هذا الإرتباك الذى إمتد لسنين عددا،على الرغم من أن مواعيد الإنتخابات الحالية قد تحدد مسبقا وفقا لإتفاقية نيفاشا، أي قبل خمسة أعوام بالتمام و الكمال، فى أن جميع أحزابنا الوطنية، ودون إستثناء، قد فشلت فشلا ذريعا فى تنظيم قواعدها و العمل بكل جد و إجتهاد لرص صفوفها، و تحديد مواقفها، من أجل غاية واحدة فقط لا غير، ألا وهي إسقاط مرشح المؤتمر الوطني، و إحداث التحول الديمقراطي فى البلاد.

ظلت أحزابنا الوطنية فى سبات عميق منذ توقيع الإتفاقية، و حتى وقتنا الراهن، ثم تأتى لتزعم مؤخرا بأنها قد فوجئت بالمعركة الإنتخابية بكل تعقيداتها و متطلباتها، و بالتالي ظلت تسعى الى تأجيلها، بدلا من خوضها بمرشح واحد، لتلتف حوله جماهيرها بهدف إسقاط مرشح الحزب الحاكم. هل كان من الممكن لأحزابنا الوطنية أن تنجح فى تنظيم صفوفها و خوض المعركة الإنتخابية خلال ستة أشهر فقط، بإفتراض تأجيل الإنتخابات حتى نوفمبر القادم، وهو ما ظلت تطالب به، فى الوقت الذى فشلت فى إعداد نفسها لهذه المعركة طيلة الخمس سنوات المنصرمة؟ لا أعتقد ذلك ! لهذا السبب ظل المؤتمر الوطني يصر على إجراء الإنتخابات فى مواعيدها المقررة، متأكدا من الفوز بها، بل إكتساحها، لأنه قد وفر كل المقومات و الضروريات اللازمة لذلك، من إستغلال بشع لموارد الدولة و كافة أجهزتها، دون رقيب أو حسيب، و تعداد سكاني مشكوك فى نتائجه، و قانون جائر للإنتخابات سمح بتوزيع الدوائر الإنتخابية بأسلوب يضمن فوز مرشحيه، و سجل للمرشحين به من أوجه القصور ما يشيب له الولدان، و مفوضية للإنتخابات رضع جميع أعضائها من ثدي النظام المايوي البغيض، و بالتالى فهم مشكوك فى نزاهتهم منذ البداية، هذا فى حالة إفتراض أنهم لا يمتون الى المؤتمر الوطني بأي صلة، أو مصلحة. ألا يحق لمرشح المؤتمر الوطني، و أركان حزبه، الإصرار على إجراء الإنتخابات فى زمانها المحدد هذا؟ فإذا لم يفوز مرشحهم فى مثل هذه الظروف المهيأة له تماما، فمتى سيفوز إذن؟!

السبب الثاني لإصرار مرشح المؤتمر الوطني إجراء الإنتخابات فى مواعيدها،بعد الظروف المواتية لفوزه، و التى أجملناها فى الفقرة السابقة، هو إطمئنانه على قدرة حزبه على ضمان نتائجها لمصلحته، مهما كانت الأحوال و الظروف، و مهما توفر لها من مراقبين، لا حول لهم و لا قوة، فى ظل البنية التحتية المتينة للتزوير، و التى رسمنا أهم معالمها عاليه. لقد إتضح جليا، و منذ الآن، فوز مرشح المؤتمر الوطني فى هذه الإنتخابات، خاصة بعد مقاطعة أحد أكبر الأحزاب السودانية لها، متضامنا مع أخرى ذات نفوذ، و بالأخص فى المناطق الحضرية، حيث يصبح من غير الضروري اللجوء الى التزوير المكشوف، الذى أعد له العدة اللازمة إذا ما إقتضت  الضرورة ذلك، لأن أحزاب المعارضة قد كفته شر هذا الخيار!!

إذن ستفرز لنا نتائج الإنتخابات هذه إنقاذا فى طبعة جديدة، كنت قد أشرت اليها بالطبعة الثالثة، فى أحد مقالاتي السابقة. و لتذكير شبابنا بهذه الطبعات، فقد كانت الأولى إبان سيطرة حسن الترابي، الأب الروحي، المخطط الفعلى لإنقلاب الإنقاذ، و الذي سيطر على زمام الأمور فى البلاد حتى المفاصلة الشهيرة فى العام 1999، وهى أسوأ سنوات الإنقاذ على الإطلاق. أما الطبعة الثانية لها فقد إمتدت منذ ذلك العام و حتى إعلان نتائج الإنتخابات الحالية فى 19/4/2010. أما الطبعة الثالثة فسوف تمتد من ذلك التاريخ، و لكن لا أحد يمكن أن يتنبأ بنهايتها، حيث تقول القوانين المعتمدة بأنها يجب أن تنتهي بعد أربعة أعوام من إجراء هذه الإنتخابات، و لكن من يضمن هذا فى ظل نظام حكم أكثر ما عرف به هو عدم إحترامه للعهود و المواثيق و القوانين، حتى تلك التى سنها بنفسه!!

يبقى السؤال إذن ما هو موقف القوى و الأحزاب السياسية المعارضة للإنقاذ، المشاركة فى الإنتخابات و تلك التى قاطعتها على حد سواء، من نظام الإنقاذ فى طبعته الثالثة؟ كعادتها دوما، و للأسف الشديد، لم تفصح أيا من هذه القوى عن أية رؤية عنما سوف تفعله فى حال فوز مرشح المؤتمر الوطني فى الإنتخابات، و لو عن طريق التزوير المباشر، بدلا من الإنتخاب الحر المباشر، كما توقعته، بل فى حقيقة الأمر كان هذا هو السبب المباشر وراء مقاطعتها لهذه الإنتخابات. أتمنى و آمل أن لا تتصف موقف أحزاب المعارضة بنفس الضبابية، بل الإرتباك الذى صاحب أداؤها إبان هذه المعركة، و أن توحد رؤاها، و ترص صفوفها، لمواجهة الإنقاذ فى طبعتها الثالثة، و التى لن تكون أقل شراسة من الإنقاذ فى طبعتيها السابقتين، حتى تتمكن من إحداث تحول ديمقراطي حقيقي يضمن لها إجراء إنتخابات حرة و نزيهة بالفعل، ووفق قانون متفق عليه، و فى إطار تشريعي و قانوني يضمن حقوقها و حقوق الشعب السوداني. كما أتمني أن تكون أحزابنا الوطنية قد وعت الدرس تماما، و أن تبتعد عن الصراعات الجانبية، و مصارعة طواحين الهواء، حتي لا تضطر مستقبلا الى مواجهة الإنقاذ فى نسختها الرابعة حينها ستندم هذه الأحزاب حيث لا ينفع الندم، وعندها ستكون كمن لم يستبين النصح إلا ضحى الغد!!

12/4/2010

 

 

Ibrahim Kursany [sheeba82@hotmail.com]

 

آراء