الحفاوة بديوان (في انتظار الكتابة) للشاعر : عالم عباس . … بقلم: عبد الله الشقليني
عبد الله الشقليني
5 April, 2009
5 April, 2009
abdallashiglini@hotmail.com
(1)
حريٌّ بمملكة الشِعر العربي أن تحتفي بالشاعر عالم عباس محمد نور ، كما احتفت به دار نلسُن للنشر ببيروت حين نشرت ديوانه الشعري ( في انتظار الكتابة ) .
أي كتاب رفعت به سيدي لُغتك إلى أرجوحة الشِعر المُعلقة أطرافها في بروج الكون تنظر أستار الكعبة منذ المُعلقات ؟. قد لا نُحسن نحن معرفة قدر ما لدينا من الشعراء ، وقد نمجدهم أيما تمجيد ونتعالى إلى سماء الشِعر العربي وأفراس راكبيه والصهيل الذي يضرب الآفاق و يملأ السماء ، لكن شاعراً مخضرماً مثل ( شوقي أبو شقرا ) لن يمُر عليه الأمر كما نحسب . قرأ الباهر دواوينه ، وفي غُرتها ما دلفت به ( دار نلسُن ) وهو ديوان عالم عباس الأخير . جلس الشاعر الفخم ( أبوشقرا ) لمنضدة المنصة وهو يقدم شاعرنا الباسق / عالم عباس محمد نور في ليلة الشعر حين توقيع ديوانه الشعري ضمن فعاليات معرض بيروت للكتاب ( 25) في لثالث من ديسمبر 2008 م :
(2)
كلمة الشاعر ( شوقي أبو شقرا ) في أمسية الشاعر عالم عباس محمد نور-
بيروت 3/12/2008م :
الشاعر الذي نحتفي به في هذه الأمسية يحمل قصيدته الليّنة القوام والنار معها وإذ يفعل وإذ يلعب بالنار يتشكّل عنده الرمز والدور ويقترب هكذا من شخص آخر، من رمز آخر له عبئه وله ناره وهو حامل الهوى الذي صوّره وميّزه الشعر العربي باكراً، وكلاهما كائنان في الانبهار الدائم والحرقة الكاوية وكلاهما يسبحان في ارتفاع عن سطح الواقع وكذلك عن سطح العادات والتقاليد أو أكثر.
وكلاهما في جسد يهزل أو يسمن أو ينوء ويتوكأ على الحلم والمشاعر الملتهبة. وفيما الفارق مع الأول أنه يستخفه الطرب فيطرب في دنيا أوراقه وفي معانيه وفي ذاته على الأقل، فإن الثاني يتعب، فهو تعب، ويكاد ينهدم في برديه من فرط الشوق والحنين إلى النقطة والهدف، إلى حيث يلمع ويتهاوى في لحظة الانفعال أو يتماسك في لحظة الوعي. ولا شك في كل حال، أن حال كلا الحاملين هي القريض والحب وأن هذين هما ما ينفع المرء وأيضاً صناعة الشعر إياها التي تشمل غيرها من الصناعات، جلي وناعمة وفاتنة.
وهو ذا عالم نور الشاعر الأصيل بالصفتين وسائر الملامح الفنية والإنسانية قادماً من السودان بحبره وأدواته وقصائده في ديوان جديد له صدر عن دار نلسن في بيروت. هذا الديوان ترحب به وتأنس المدينة، ترحب بالأسلوب المتين لدى صاحبه، حيث كل شيء يتلاقى في إطار صارم من البيان والبلاغة وحيث الشاعر يرحل إلى جهات عدة وإلى أغراض مثيرة له وترافقه الغنائية والإيقاع الخاص واللغة التي في طوع له تنساب موزونة في أغلب الأحيان. وينتفض الشاعر في هذه الأثناء ليكون رسولاً إلى القارئ ومَن حواليه، رسول غايات تزهو بأبعادها، قائمة على نصوص في جلبابها الثمين وعلى ما يزول وعلى ما يبقى، فالشاعر يأسف ويغضب ويرثي ويحزن ويشقى ويقلق ويشتاق، وكل ذلك في بوتقة الفصاحة، وفي إطلالة على منبع تراثي. ولا يغيب الكشف فهي قصائد تنداح على مساحتها وتغرق في نوع من الروحانية التي تعشش في الثنايا وتمضي قُدماً، وإذا القصائد من عالم نور، طريفة، هادرة متناغمة السياق والسرد المتوافر، عاملة على النزول من عليائها إلى ما يختبئ في الكيان من تساؤلات ومن معالم مفتوحة على الوحي ويحيط به القلم، ولاسيما شعراً واختراقاً لأي ظرف ولأي ليل حالك.
وعالم نور يتقدم في وطنه في بيئة من الأهل والأصحاب والأصدقاء والشعراء والأدباء، والآن في بيئة لبنانية تعوّدت أن تحضن التجارب جمعاء، وأن تكون مرتاحة حيثما تكون، في منابرها في بيوتها، في أبراجها المتاحة لمن يرغب. ولذلك نجد هذه المدينة لأنها جرّبت ما جرّبت وصنعت ما صنعت في الشعر والنثر، تطالع عالم نور من باب الإلفة والشاعر هنا له أن يكون من يكون وأن يكون شكله شديد الصلة بالقواعد وحيث الحرية في وسعها أن تجري حرة كلياً، فلا يستطيع أن يكون إلا كما هو، وإلا أن يكون في ملء عباءته، ذلك القدير على أن يفرحنا في هيئته الشائقة، في بلادنا أولاً إذ هنا يحلو التجوال في التراث وخارجه وأن يبحث عن لون في أملاكه. وأقول إن عالم نور أصالة وأصناف وأنه لمن سعادتي أن أكون ممهداً له وأن يطربنا دائماً عبر قصيدته التي تكرج في مجالها سليمة، كما يكرج الحجل، والعبرة أنه عميق وحالم وأنه في أي من خطواته، يسحب أرنب الشعر من وكره، ويرينا أن اللعبة تتم بأصولها معه، وأن الحمامة ليست في القبعة وأن الحقيقي يكمن في ما يفعل وما يكتب وما ينظم، وأن القيمة متداخلة فيه. ويرينا أيضاً أنه يفلت العصفور من القفص من عقاله، وأيضاً أنه يسكن مرتبة عالية في الشعر العربي، وأن السودان راقية الكلمة، وأن هناك شعراً وشعراء وهم حاضرون في بلاطهم ومطارحهم وفي أمكنتهم الطيبة بادئ بدء، وأنهم على غرار عالم نور يعكفون على الجديد وعلى إطلاق ما في أنفسهم من القوة والثورة والطراوة والأفاس الحرّى.
ومن ثم هناك موجة مرتبطة بما قبل، وبما بعد، ومن يقرأ عالم نور يبصر أولئك من خلاله، من حركاته وسكناته، وكيف يجوز للشاعر ما يجوز من البقاء داخل القيود، أو أن يتركها بعيداً ولا يقربها إلا للحاجة الطاعنة فيه أو للتغيير التعبيري المتطلب الخيار، في لآخر الحكاية.
وعالم نور نموذج آت متفقاً مع الجميع وله نتاج سابق، والجميل في ما نقول أنه ينتعش في تجربته وأنه يسوقها راضية مرضية، وأنه يملك التقنية البيانية، وأنه يملك السليقة وهذه تدوم وتجاور الشاعر في كل يوم وكل وقت، وأنه يملك النغم الذي يحيي والذي يسرّ، وهو ضيفنا في هذه الساعة ونحن في فوران ثقافي وحملة نار وحيث الشعلة في الهواء تهبّ من مرقد العنزة. وأخيراً يملك في متاعه سحراً سودانياً هو جدير به، وهذا السحر كما يتبين لنا لا ينقلب أبداً على الساحر.
شـوقي أبي شقرا
بيروت في 3/12/2008
(3)
مقاطع من أشعار الديوان :
من قصيدته ( في انتظار الكتابة ) :
(1) في انتظار الكتابة
جلستُ على خنجرٍ صَدِئٍ ،
سَمّمَتْه الكآبةْ .
(2) حديد القصيد
لا يفلُّ القصيدَ الحديدُ ، ولا النارُ
إنَّ القصيدَ عنيد !
شمسُ الكلام
ما يفلُ القصيدَ إلا الصمت ،
لا الموتُ ،
فأشْرِق بشمسِ الكلام ،
وإما اكتويتَ بجمر التجاهُل
غرِّدْ ،
وإما احترقتَ بجمر الحروف العصيَّة
أورِقْ
وإما انفجرتَ فأبرِقْ ،
وإن طرتَ حَلِّقْ ،
.....
*
من قصيدة ( استَمْطِرُ الشعر ) :
استَمْطِرُ الشعر ، لا يستجيب سوى الدمع ،
يسقي السهوب اليباب .
استَقْطِرُ الدمع لا يستجيب سوى الشِّعْر ،
يروي سطور الغياب .
استَنْطِقُ اللفظ ، لا يستجيب سوى الصمت ،
صمتٌ يُشَتِّتُ شمل القصيد ،
يبعثر من دمه في كتاب !
وما الشعرُ إن رَقَّ ،
كالشعر إن عَقَّ ،
هل يستوي الصخرُ ، صخرٌ هوى فوق صخرِ،
و ماءٌ ترقرقَ ، كالطلِّ سال ، وكالثلجِ ذابْ؟
.....
*
ومن قصيدة ( ...لكني أعرف أنثى ... ) :
.. لكني أعرف أنثى ،
ألغت كل الحواءات بذاكرتي ،
وأقامت في قلبي
محرقةً كُبرى ،
ألقت فيها كل الليلاوات ،
اللبناوات ،
الميّات ،
البلقسيات
الخنساوات ،
صلبت " كليوباترا " في الطرقات
أشعلت النيران وألقت فيها
وتخَلَّتْ
كل نساء التاريخ .
كل نساء الأرض ،
الشمس ،
القمر ،
وكل نساء المريخ .
واندفعت تضحكُ في هستيريا ،
بين الأطلال .
أنثى كانت ابنة " نيرون "
إبّان طفولتها ،
كانت تحمل حطب النار
إلى والدها ، وتصب الزيتْ.
وحين احترقت روما ،
كانت تطرق باب النسوة ،
بيتاً بيتا .
.....
*
ونقطف من أزهار قصائده زهرة :
لعلّ الحريق الذي شَبَّ في جسدي ،
لم يكن جذوةً من فؤادي ،
وليس الرمادُ الذي قد تَبقّى ،
رمادي ،
لعل اللهبْ ،
نفحة من غضبْ!
وهذا الدخان الذي تسامق كالرمح ،
سارت به الريح عاريةً في السُحُبْ ،
مناراً و ناراً ،
عموداً من الضوء ،
ساريةً للشُّهُبْ ،
لعل الجياد الشَموسة ،
والتي تركض الآن في الأفق ،
حقاً جيادي ،
وأنَّ البلاد ، بلادي !
....
(4)
رفعت الهاتف النقال ذات مساء ، وكان في الطرف الآخر من بيروت الشاعر السفير / جمال محمد إبراهيم . حياني قليلاً ثم قال :
ـ معنا في بيروت سجادة باهرة لا ثَلمة فيها ، يريد صانعها أن يتحدث إليك .
وتحدث الشاعر عالم عباس محمد نور :
صوت رخيم عطوف ، بالغٌ في الرقة مبلغاً خشيت من رقته أن تذوب خطوط الهاتف من وَجدٍ . حكى لي أيامه ، وحفاوة بيروت به ، وإنها لجمرة ثقافة مُتقدة ، تعرف قيمة الفوارس مما تحمله الريح من أصوات صهيل جيادهم . وأقمنا وطننا في الخاطر وفي كل لمحةٍ ونفس ، و وقفنا موقفنا من اللغة وبيانها وفسيفساء وردها وأغانينا الموشاة باللغة التي أمسكنا مِقودها مُستعربين ، وتروضت فرحة بنا . وكان الخير معنا وأفلحنا أن نكون كما نودُ .
لن نتقدم الشاعر السبعيني ( شوقي أبو شقرا ) وهو يتوج مارداً من مردة القصيد ، حمل سيفه العُنابي قلمه ، وفي بلد الأرز كانت محطته . بُهت الكون اللاهب في بيروت أن السودان عصي على أن يكون في ذيل الأمم .
لغة ( شوقي ) جزلة رصينة استظلت من غيم عاشق للغة ، يستدر غريبها ليُذيبه في ما نعرف من المُتداول فلا نتوه ، ونجد الفخامة حيث قرأنا .إن سحر الشعر عند عالم لا ينقلب عليه لتَمكُنه من الصنعة ، فهو يُطوع الخاطر وخيال الشِعر لمَجْمَر اللغة . تنسرب من بين يديه المعاني كأسماك البحر الصغيرة تُراوِغ الأمكنة الفسيحة وتنجو من المخاطر ، وهو يُحيط ببحر اللغة ، يحُفها من شطآنها فلا فكاك من قبضة قلبه . تمتد المعاني بما يُبسط لها من فضاء فتتجول ، وتُقيم زُخرف كسائها بدناً للشِعر .
هذا "عالِم" الذي أجلسه منُبر الشِعر أول جلوسه عند الذكر الحكيم في مُبتدأ أيامه الأولى ، فقرأه قراءة ناهل من بئر اللغة العربية التي لا تنضب ، فهي زاد من أراد أن يُمتِّع نَفسه بحلاوة جرسها ، فالموسيقى القرآنية تجري مَجرى الشِعر حين تتكسر أمواجها الطروب مُنداحة الدوائر.
إن الشعر منطقة عميقة في بحر النفس البشرية . هنالك حيث الأصداف حُبلى باللآلئ المُطرزة في عقود على الجيد الحسن الذي يعرف كيف تزرع اللغة فسائلها في الوجدان . شاعرنا الذي أطرب الشاعر السبعيني ( أبو شقرا ) ، لهو كنـز لم نعرف نحن كل حجارته الكريمة بعد . صور تذوب لها القلوب الصلدة ، ويتبعثر العشق كالماء يتشقق من الصخر . ما أطعم القصيد بين يديه ، وما أغض طرف حين يُسامر اللغة ، فتُعطيه ما يُحب ، وتستخرج له مفاتنها دون حياء .
عبد الله الشقليني
04/04/2009 م