الحل في الشل: نامت نواطير بلدي عن ثعالبها وقد بشِمْنَ

 


 

 

في مقالي بعنوان "هل نسمح بذوبان السودان في حكومة العالم؟" في 5 نوفمبر من هذا العام،
إنه "ﺇﻣﺎ ﺣﻴﺎﺓً ﺗﺴﺮ ﺍﻟﺼﺪﻳﻖ ** ﻭﺇﻣﺎ ﻣﻤﺎتاً ﻳﻐﻴﻆ ﺍﻟﻌﺪﺍ".
فقد نامت نواطير بلدي من كبارها الصغار، من طرق صوفية وإدارة أهلية، فبَشِمت ثعالبها من الخونة من مليشياتٍ خاصة وعامة ومن عملاء وأرزقجية يتشممون لتهريب الثروات واغتصاب النساء وبيع الصبيان درقاً لفداء من يدفع
فألزم حمدوك مركبة الثورة الجابرة بعد يئس من تلك النواطير.
وقدَرَ الله لطريقِ الثورة ان يؤمَّه فلذاتُ أكبادنا الأشاوس. يدقون الطبول ويطلقون الزغاريد، ويشهرون العزة والعزم تزينا جباههم وجباههنّ، يعلنون الثبات والتزام السلام حتى لا يمنحوا العسكر والمتحرّشين شيكاً على بياض يتمنونه.
وهذه خارطة الطريق الذي تبقّى ليمشوه وهم عليه قادرون.
عزم على احتلال الشوارع وهجر المكاتب والمصانع، مترفعين في حراكهم الجديد عن ترس الشوارع الذي لا جدوى له.
إلا إنهم عازمون على حفر الخنادق في أحرامهم وقراهم وحُليلهم
يكشرّون أساريرهم على كل القتلة ومغتصبي الشعب من ضباطٍ وجنود تنكّروا لقومهم وقسمهم لحماية كرامتهم، في كل وحدات الجيش والمليشيات والشرطة والأمن، ويرفضون التعامل معهم وقبولهم أينما حلّوا.
لن يتعدوا على المجال العام، أو مجالات الغير، ولن يسمحوا بأن يُقادوا إلى غير مجالهم ليؤخذوا عن غرة. ولكنهم لن يرحموا من يتعدى على مجالهم، وأحرامهم، واسرهم، وأفرادهم.
ولمحاربة الثعالب، لا تحاربها بالاقتتال معها، بل بحجب المصايد عنها – بالشل
الشل هو الحال
لا تجعل من وجودك حافزاً لها لتتصيد. تخندق وزُد عن حرمك وحرم أهلك، وتمنّع عن الإنتاج ما دمت لا تستطيع حماية الإنتاج لحين الوطن يحتاج. ولا تعرّض نفسك ولا رفاقك ولا أسرتك للذئاب والكواسر المتلصصة بالانزلاق إلى حمل سلاحٍ ولا الانخداع في ورطة حمل سلاح أو أي تعدّي جنائي.
إن التحذيرات التي وردت من الداخل ومن الخارج حول المخاطر التي يتعرّض لها وطننا الحبيب من مؤامراتٍ لتقسيمه واقتسامه وإعادة رسم هوياته لتسهيل تمليكه لمن يدفع أكثر، وبمؤامرات الجوار الذين يعتبرون جوارهم سانحة ذهبية لخطف العروض المغرية، والذي تبدّى جلياً في تهافتهم ولعابهم السائل، وفي نعيقهم بالتهديد والترعيب كالوحوش الضارية تفرض سيطرتها على فوج الصيد قرب موقع صيده، والحديث عن الدول الكبرى وأطماعها ليس هو ما يجب أن نخاف منه ونحذره، فهؤلاء لن يتصيّدوك، ولكن الجوار هو الذي يقوم بالوكالة، فالمعركة في دارك وحولك وليس خلاف ذلك.
الخلاف الذي يعيبون به هذه الثورة هو صحة الثورة والثوار، فالاختلاف دليل الحرية والتنوع والجادة، ولا يضير الخلاف ولا ينقص المكاسب ولا يزيد الخسائر. هو أساس الديمقراطية، وممارسة العدل، ودولة القانون، والأمانة.
العيب ليس في الخلاف، فالخلاف وضوح.
العيب في الرياء ونقض الكلمة وفي السرقة والخيانة.
ومن أجل ذلك فالتسرّع لحكم الشورى بدون تأمين متطلبات أمان الشورى وحمايتها من التزليف والترهيب، ومن السرقة ومن الرياء، ومن الخداع ومن المؤامرة والخيانة، يتوجّب أن يقف حُراس الثورة على تأمين كل ذلك، فليس ذلك بطلسمٍ تعجز عنده الهامات، في هذا العصر الذي تفتحت فيه بصيرة البشر وتطوّر فيه العلم وتوفّرت فيه المراجع.
ولكن مطالبة أولئك الثعالب يبكون شوقاً زائفاً للشورى هم آخر من يقبل الشورى أو تقبله الشورى.
ورجعت بي الذاكرة إلى وقتٍ بعيد كانت تتبلوَر فيه معطيات التشريد وتجارة العسكرة
وكنت وقتها من الناشطين في الكتابة لوقف التشريد وحماية الأوطان مما راج عن التهميش والاعتداء على المحارم والحرم المنزلي.
كتبت وقتها عند تنفيذ اتفاقية نيفاشا مقالاً من جزئين بعنوان "ثقافة السلاح والعسكرية ما بين الثورة والديمقراطية" (لو ترغب قوقلها)، عندما تبدّى حينها خطر تلك الثقافة واحتدم عندها نقاشُ بيننا من مدنيين وعسكريين سابقين في المهجر (لندن).
كتبت تلك المقالات متعجّباً ومستنكراً شعار البندقية، الذي طفح من دول القهر طَوْلاً حتى أرض الحريات والحضارة، باسم التهميش والبكاء على التابوت. كان الحضور شملٌ يجمع مهاجرين شُرّدوا قهراً وظلماً، وأُخَرٌ عسكريون تقاعدوا بعد أن ضاقت بهم، وعسكريون تمردوا أو حملوا السلاح....شملٌ جَمَعَته حالة واحدة هي الثورة والحنين إلى وطنٍ تعمه الديمقراطية والحرية. شملٌ تشرّد قهراً لمعارضته الظلم، لمحاربته الفساد، لرفضه التهميش، لغيرته على الوطن. ولكن أبى العسكريون إلا تحكيم السلاح في تعريف الكفاح.
بقي معي منهم من بقى، وغادر آخرون إلى الوطن في سوانحَ يرون تخديمها للقضية، سلاحاً أو كفاحاً.
وجرت تحت الجسور مياهُ كثيرة ودماءٌ غزيرة لحين أن تنضج ثمرة الثورة التي لم نكن نحلم بنضوجها. سالت خلالها دماء ثورة سبتمبر ودماء غزيرة لأطفال لعبة غزوة اليد الطويلة، وشهداء معسكر الدفاع الشعبي وشهداء رمضان، وأينعت خلالها صور عرقية قميئة أكلحت وجه السودان في كل العالم واسترخصت قومه.
واندلعت ثورة ديسمبر التي لم تكن في الحسبان، ليس لأنها لم يحن وقتها، إنما لأنه لم يكن هناك وجودٌ في علمنا لمن يُفجّرها.
لم يُفجّرها سياسيو المعارضة، ولم يُفجرها تكنوقراط الأمة المشرّدين، ولم يُفجّرها جيشُ الأُمّة ولا دفاع الأمة الشعبي، ولا حركاتُ التحرير في الأطراف.
فجّرها بنوها وبناتها بعد أن لفظهم الوطن المريض الذي لم يتعرّف عليهم. فتمكّنوا من الفكاك من الرباط العائلي لتمزّق رباط العوائل بعد هوانها وتيهها – سبحان الله العظيم، إذ كان ذاك هو ترياق الحراك. تعرّفوا فيها على مؤهلات الكفاح لطلب الحرية والبعث من الممات... كان أكثرهم قد تشتت في ليبيا ودول غرب وشمال إفريقيا ودول الشرق الأوسط بحثاً عن النزوح إلى وطنٍ جديد وكرامة كادت توهن، وفي المساق تشرّبوا بالعلم غير المقيد لفهم الحياة من دون تزييف ووصاية، فصاروا أحراراً وازدادوا معها نضوجاً وصلابة بعد أن قضى منهم العديد في محاولات العبور إلى بر الأمان رحلاتهم الجريئة من معارك الاستعباد في الدول النامية.
كل ذلك حدث وليس هناك من طال توقّعه ذلك الزخم من الخامة النقية في الإرادة والنقاء الوطني.
وانبثقت أبدع وأسمى ثورة، أرعبت الحكام وأيقظت همم الآباء والأمهات، وأسرت انتباه واهتمام العالم.
هكذا اندلعت الثورة ببساطة: لمنع تمزيق السودان وسوم أبنائه دروعاً لمن يشتري في سوق النخاسة.
والآن الشعار: الحل في الشل.

izcorpizcorp@yahoo.co.uk
/////////////////////////////

 

آراء