الخرطوم واستقبال عقل الاستنارة

 


 

 

كانت الخرطوم تبحث عن عقل الاستنارة منذ أسست مجلتي النهضة و الفجر عام 1931م حيث أسس محمد عباس ابو الريش مجلة ( النهضة) ثم اسس عرفات محمد عبد الله مجلة ( الفجر) عام 1932م و المجلتان كانتا مدعومتان من قبل جماعة أبوروف و الهاشماب و الموردة الادبية حيث استطاعت المجلتان أن تقدما مادة فكرية فيه العديد من الأسئلة المحرجة لفئة المثقفين في ذلك الوقت حول قضايا تتتعلق بالوطنية و الهوية و الاستقلال و غيرها، و ذات الأعوام قد ستقبلت أراء معاوية محمد نور الذي سماه المفكر محمد بشير " عبد العزيز حسين الصاوي" رائد الاستنارة في السودان، من خلال قراءته لإنتاج معوية نور على قلته، لكنه طرح خلاله اسئلة عديدة أولها يجب أن يكون للسودان (أدبا قوميا) خاصيته يعرف بالأداب السوداني.
في ديسمبر 2018م انفجر الشارع السوداني في عدة مدن قبل أن تصل الخرطوم، الكل كان يعتقدها خروجا قاضبا على السلطة، لسوء الخدمات و غلاء المعيشة و تقليص مساحة الحرية، لذلك كانت الثورة مفجأة للعقل السياسي السوداني إذا كان منتميا أو غير منتمي، لأنها ثورة استمرت قرابة الست شهور ترفع شعارا واحدا " تسقط بس" هل كانت دعوة الجماهير لسقوط النظام أم للعقل السياسي التقليدي الذي أورث البلاد الفشل؟ هل كانت الثورة محاكمة لعقل تدثر بالإسلام و أراد أن ينتزع منه الغطاء؟ أم كان الهدف هو انتزاع الغطاء من كل العقول التي تغطت بالمرجعيات السياسية التي خلفتها الشعوب في مسيرتها الحضارية و الديمقراطية؟ ماذا كان ينادي شباب الثورة عندما اعتصموا بساحة القيادة العامة للقوات المسلحة؟ لماذا صنعوا كل تلك اللوحات و الجداريات؟ هل كان الهدف أن يظهروا أنهم مختلفين في كل شيء عن أجيال لم تورث البلاد إلا العجز؟ لماذا جاءوا بموسيقي مغايرة تعبر عن كل خطواتهم و أمالهم؟ هل أرادوا أن يميزوا أنفسهم و يهجروا إقاعات قديمة لم تستطيع أن تنافس في أوبرات الشعوب الأخرى؟ أم كانوا بالفعل يعلنون عن بروز عقل جديد برويء جديدة تتكيء على المعرفة و القدرة على مواجهة التحديات؟ أليس هو ذات العقل الجديد الذي تبحث عنه الخرطوم منذ ثلاثينيات القرن الماضي؟ ماذا نكتب عن هذا العقل الجديد الذي تخلق من المعاناة و فجر بركان ثورته؟ أم ما يزال العقل في طور التخلق و علينا فقط مراقبة ظاهرته؟
هل هذا الجيل الجديد كان على يقين أنه يسطر تاريخا جديدا للسودان؟ يعلن فيه أن الشمولية و الديكتاتورية إذا كانتا عسكرية أو مدنية عليها أن تحمل أدواتها و ترح غير مأسوف عليها، و يجب أن يتربع هو على عرش هذه البلاد، و يصيغها بشعارات ذات مفردات قليلة و لكنها تحمل حمولات يعجز على حملها العقل التقليدي الذي تمرق في الفشل. أم أن هؤلاء كانوا متابعين لمسيرة الشعوب و هي تنتفض من الديكتاتوريات و تؤسس ديمقراطياتها، أم كانوا قارئين للتحولات التي حدثت في الفسلفة (الحداث و ما بعد الحداثة). و أرادوا أن يقذفوا بالعقل الاداتي الذي اعتبره هبرماس من تخلفات الشمولية، الذي انجز كل أدوات القمع و الاستعمار في تركيع الشعوب، فقذف به في عرض البحر، و جاء بالعقل التواصلي الذي لا يمارس عمليات الضغط، بل هو عقل يقوم بالتفاهم و التواصل و النقاش و الإضافة و الحزف ، هو عقل محكوم بجماليات العمل الإنساني و الأخلاقي. عقل لا تفهمه الفلسفات القديمة التي تتبناها العديد من أحزاب السودان. هذه الاستنارة في الرؤية هى التي سوف تفتح الباب أمام قيادات الأحزاب و المؤسسات و العسكر أن تقارن بين مسارين، السير في طريق قاد البلاد للفشل عقودا، و مسارا جديدا محكوم بأدوات الخلق و الإبداع أساسه قاعدته المعرفة و الفكر و الطموح من أجل بناء الوطن و ليس الذات.
يقول عبد العزيز حسين الصاوي في كتابه " الديمقراطية المستحيلة" " استحالة الديمقراطية في السودان؛ لا تعود بصورة أساسية إلي ضعف الأحزاب، و إنقلابية العسكريين، مع أو دون تحريض حزبي، و إنما إلي أنعدام البنية التحتية للديمقراطية التي هي سيادة العقلانية و التنوير في المجتمع" رحل الصاوي بعد انتصار الثورة و لكنه لم يشاهد و يراقب أصرار الشباب علي أن تؤسس الديمقراطية في البلاد، رغم القصور في مقوماتها، أصرار يؤكد أنهم شباب مؤمنين بقضيتهم دفعوا فيها مهرا غاليا، و مصرين على تواصل الدفع بالارواح أو النصر. هؤلاء استطاعوا أن يغيروا قناعات سالبة كادت أن تترسخ في العقول الخربة. أما الاستنارة كقاعدة لعملية التحول الديمقراطية قد فتح بابها هذا الاصرار الشبابي لأنهم غيروا حتى وضع الأسئلة في أذهان الساسة.
هذا الأصرار على شعاري (حرية – سلام و عدالة ) و( الدولة المدنية الديمقراطية) يذكرني بمقولة إدوارد سعيد في كتابه ( المثقف و السلطة) يقول فيها " أن المهام المنوطة بالمثقف أو المفكر أن يحاول تحطيم قوالب الأنماط الثابته و التعميمات ( الاختزالية) التي تفرض قيودا شديدة على الفكر الإنساني و على التواصل ما بين البشر" لكن الثورة تعدت ذلك حيث أصبح االفعل لجماعى المعطون بالتحدى و الأصرار للوصول للهدف قد تجاوز في هذه المرحلة دور المثقف و المفكر. حيث شكلوا هؤلاء الشباب ملاحم وطنية مستمر إذا قدر لها الكتابة السردية سوف تتجاوز الاسطورتين (الاليازة و جلاجامش ) بمراحل فلكية هي الاستنارة التي تبحث عنها الخرطوم عقودا، كانت فكرة طلاب التعليم الحديث لكنها ضاعت منهم، و وجدها هذا الجيل المختلف في كل شيء، حتى في تعبيره عند الفرح و الغضب. أنها ثورة جيل . نسأل الله التوفيق لهم.

zainsalih@hotmail.com
/////////////////////////

 

آراء