من يتقن العزف على أوتار الحبال الصوتية، غير الموهوب المبدع؟. أغمض عينيك و تخيّل أنك تجلس في مقعد. والمقعد في قاعة هيئت نفسها بالتقنيات الصوتية على أحدث الطرز. أمامك في الواجهة يجلس على البيانو الكلاسيكي موسيقي محترف، جاء ليعرف من أين تبدأ الحكاية و أين تنتهي. ( الخرَز ) تقف قُبالته و تبدأ الصولفيج الغنائي. الصوت الملائكي ينسكب على أذنيك. تلُفك سجادة الصفاء وأنت ترقب تأرجح التكوين الصوتي البديع يبتعد برفق عن ( السوبرانو ) الحاد، و يقترب من ( الألطو ) النسائي الغليظ. امرأة في العشرينات من عمرها، قدِمت من أواسط الستينات لتقف أمام القرن الجديد الذي نحن في سنواته البواكر. حينها يتخفف جسدك الكثيف، ويصبح روحاً هائمة. كأنك تستريح في جنة من الجنان الموعودة.
(2) سمعت صوتها منذ ستينات القرن العشرين. الزمان يموج عندنا بريح الديمقراطية على الطِراز السوداني. ترهل و دعة و بساطة مسرفة. قشرة الاختلاف لا تقتلعك من جذور دفئ العلاقات الاجتماعية. أنت تختلف مع الجميع، و تشترك معهم أفراحهم و أتراحهم. النفوس تغطس في حليب صافٍ، نشربه في موسم ( الدعاش ) الرطب. الجدال بُهار الأسمار في المساء. تختلف الانتماءات، لكن الود بين الجميع. كانت الخصومة محببة قبل أن يرتدي المكر السياسي عندنا رداء الإستئصال, و قبل المنعطفات التي جدت من بعد حين لعبت الريح بالموج، وتأرجحت القوارب و أنشغل الجميع بأنفسهم الى أن أشرق عليهم الفجر الكذوب.
(3) إن ريش المدنية في ذلك الزمان غطاء هش، ينتزعه (النسام العليل )، ويعود به إلي رحاب البداوة من جديد. ما تسمى بالمدينة اصطلاحاً، هي القرية جسداً و روحاً. لن أنسى إيقاع السَيرة المميّز. ( الدلّوكة ) بيدَّي ( الخرَز )، و الأصوات النسائية المصاحبة وسط الزغاريد. طرقات العصي تعلو غُبار معارك الطرب الجسور مع أغنيات الحماسة في ذلك الزمان: ـ ** وينو ...وينو سمير قلبك يا هلال ** يا رجال أمرقوا برة و نادوا لي أخوي عبد الله وينو ... وينو سمير قلبك يا هلال ** يا رُجال شوفوا السوسة و نادوا لي أخويا موسى وينو ... وينو سمير قلبك يا هلال ** قيل أن الأغنية من تأليف ( بنات الفتيح ) تمجيداً لابن العشيرة ( موسى المبارك ). ابن ( الفتيحاب ) و ممثل الدائرة الانتخابية للحزب الوطني الإتحادي في الستينات، أيام الديمقراطية الثانية في السودان. للارتجال طرائقه في صناعة الأغنية. كانت الساحة تمتلك الموهبة والزاد والثراء الفني. المجتمع بألوانه المتعددة و منعطفاته الحادة يفرش أرضاً خصبة للأغاني. الذاكرة وحدها لا تكفي لحفظ ذلك الكم الهائل من التراث المبعثر. عند الأفراح يتخفف المجتمع من بعض الغلو و التزمّت. وجدت طريقي لمجلس( الخرَز) صدفة، تجلس بجوارها طفلة في السادسة. سألتها عن الأغنية التي غنتها البارحة. عندها نهضت شخصيتها الآسرة بجاذبيتها، فبدأ صوتها الخفيض يتموج بالغناء، وسبحت أنا في عالم يتلألأ: ـ
(4) - حقوا لي قُولي ولداً غير عُمر أنا ما بِهز فوقي. نَسيبة البِجري. يا أخوان البنات الجري دة ما حقي. حقي المشنقة و المدفع أب ثكلي ..... اكتملت الأغنية، و أفقت من غيبوبة سحرها وهي تقول: ـ - يا ( عبدالله )، ( عُمر ) دة كان فارس من ( قوز الخرطوم )، ليهو حكاية طويلة و غريبة. ولمن سلّم نَفسو و سجنوهو خمس سنين قامت أختو قطعت ليهو القصيدة دي. - للغنية شاعرة حقيقية؟ - لو سمعتها تغنيها حتجِن!. قاطعتنا زائرة قبل اكتمال الحكاية، ثم ضجّ المكان بالحضور، و أصبحنا وسط الجمهرة. فقدنا الإحساس بالخصوصية، فالمكان لن يسع الجميع. توقف السرد ولم تكتمل الحكاية.
(5) تمتلك ( الخرَز ) صوتاً عميقاً و قوياً. تستمتع بالتطريب الشجي وأنت تبعد أكثر من مائتي متر. الصوت و قد مرنته الفطرة و التجريب، كانت لها ملكة فنية رائعة. الصوت بلا وسائط يشق عنان السماء، يزينها بألوانه المتعددة. ناعماً يلمس طرقات القلب، أو صاخباً بالإيقاع يهزك وأنت تستمتع حتى يمتلئ صدرك ببُخار كثيف يتصاعد يطلب الانطلاق، و ينتهي بك الأمر الى الساحة الراقصة لاعباً ضمن النسيج المتحرك طرباً في أغنية الحماسة. الأفراح و أهازيجها: ( المداعي ) ...(سدّ المال والشيلة )... ( دق الريحة ) ...(التعليمة )... (خت الحِنة) ... ( القيدومة )...( العزومة ) ...( الدُخلة ) ...( الصُبحية ) ... ( الجرتق ) ... ( قطع الرحط ) ...( السبوع ) ... ( حق البنات )...، سلسلة من الحكايات و القصص و الأسمار ( الأمدرمانية ). لا نهاية للطقوس المتلاحقة بزخارفها المتنوعة التي تميّز ( أمدرمان ) عن غيرها من أشباه المدن. الزمن يمتد ويترهل ليتقبل كل تلك التفاصيل الفلكلورية الموروثة منذ القدم. كانت ( الخَرز ) هي الرباط الخفي الذي يخلق من لفائف تلك الطقوس روحاً و أفراحاً حقيقية تلمس الوجدان. أغنياتها تُزهر الدواخل، و تحيل التراتيل الرتيبة إلي تسلية تشدك و ترفيه يُمتعك. ترغِّب النفوس و تحبب لها الزخرف و النقش، و تنفخ فيها نسمة الحياة و طيبها الفوّاح.
(6) إن رغبت أن تعرف كيف تولد الأغنية أو كيف تُصنع خميرتها. فانك تتبع نهج القُداسة: ( في البدء كانت الكلمة ). ثم تجذب اليها كلمة أخرى. تنبت في دواخلها حروف المّد التى تمنح الموسيقى الداخلية للنص مساحة لتتكون. أصابع ( الخرَز ) تهمس بإيقاع ناعم على صفحة ( الدلّوكة ) الموشاة بالحناء. إيقاع ( التُّم تُّم ) و إيقاع ( السَيرة ) لهما السيادة على غيرهما في ذلك الزمان. القدرة المبدعة عند تخيّر الكلمات مع التجريب. التعبير يستهوي ( الخَرز ). تبني عليه مطلعاً، ثم تغزله بخيوطها الدقيقة و تفاضِل بين الألفاظ. تشور صويحباتها حتى يكتمل الإرتجال. اللحن يطغى على لغة الشعر، فهو السيّد هنا، الجميع طوع إمرته.
(7) الغزَّل العفيف، يطفح ببراءته ينسج أعشاشه من خيوط الأغاني و مغازلها المترفة. إن زمن الستينات لم يكن بائساً أبدا، رغم السياج الاجتماعي الحصين. فورق المخطوط القديم بلونه المصفّر، تتكسر أوراقه من القِدم، إلا أنه أثمن من كتاب العصر. أحبت ( الخرَز ) الشاب ( أحمد )، مثل كل العاشقين في صفحة ذلك الزمان المتغيرة. تكتب تاريخها على الرمل و تستمتع بالوشوشة ودفئ الحكاوي حتى أضحى الكون من حولها، رغم بساطة تكوينه جميلاً ومشرقاً. الإبتسام و النظرات هي لغة العاشقين، و لها أبجديتها و مفرداتها الخاصة: ـ { الجاذبية الإنسانية، ثم يبدأ التعارف. وهج النظرة الأولى و الرسائل المُبهمة و المتبادلة بالعيون. تلك من ميراث الإنسانية منذ الآف السنين. بالتدريب و الإنتباه من الطرفين تنمو تلك الموهبة. السياج وقد نهض والتفريق بين ( البيضة و الحجر ) هي اللغة آنذاك. يتلاشى الضجيج من حولك فأنت أسير القيود التي تشدك الى الآخر وأنت عنه بعيد. تغيب الصور و الأصوات من حولك شيئاً فشيئا. يبعد عنك المحبوب بقدر ما تفسح ساحة الرقص. لا يبقى أمامك الاّ أنت و قرص القمر المنير متوهجاً، إنه وجه من تُحب. إن سحر العيون، و قوة تعبيرها أبلغ من كل حديث. غيبوبة ممتعة تذهب بك بعيداً إلى العوالم الحالمة. تأتيك الإجابة الشافية عند كل سؤال وهو في طي الخاطر. أنت على البُعد تختبر المشاعر و صدقها أو زيفها. الحذر من الوقوع في شراك من يبحث عن رفيق عمرٍ تتصيده الصدفة. أنت تمتحن مشاعرك و مشاعر من تهوى في لُجة المنافسة بين الأقران. فرياح العشق تعصف بالجميع من حولك. مَن يختار؟ و أين ترسو مراكب المستقبل؟}
(8) جاء ( أحمد ) يخطبها، و كان سؤال والدها التقليدي له في ذلك الزمان:ـ - كيف عرفت اسمها، من دون أخواتها؟. تردد أحمد و أرتبك. و كان الرد في ذلك الزمان قاسٍ و هين: ـ - البِت لي أولاد عمها، و ما بندي الغريب. الضرب المبرّح هو العقاب للتي اعترفت لوالدها بأن الغريب قد ( جاء من خشم الباب، فلِم ترفضونه ؟). انكسر الصوت الشجي، وأُفرغت الحفلات الصغيرة في الحي عندنا من روح الفرح بعد غيابها القسري. أيام من بعد، ثم تزوجت من أحد أقربائها من( الفتيح )، و غادرت الحي إلى غير رجعة. فقدت الزيجات اللاحقة رنين صوتها الملائكي، وهو يصدح بأغنيات العهد الصقيل. بدأ ( أحمد) يبحث عن محبوبته في أزاهير أغاني ( الحقيبة)، بعد أن فقدها رفيقة لعمره. تتبع أثارها في روائع فن الغناء عله يلثم روائحها العطرة. وجد في المطرب الفنان (عبد الوكيل أبيض ) من بعد خير رفيق. يتتبعه عند كل منعطف، وفي ليالي الأنس ينهل من تطريبه الشجي، و هو يتغنى بدرر أغنيات العهد القديم: ـ {أسمعني واشجيني من ذكرة الأحباب ...بالله ناجيني ... } .
(9) تلك هي أبلغ رسالة تذّكره بليلاه، صار هائماً يفتتنه الغناء أينما وجد. أحب الشعر الغنائي وألحان الثلاثينات و الأربعينات، و نهل من رومانسيتها كثيراً، و من أوصافها الحسية أيضاً حين يرتفع عنده مؤشر الحرمان. تجرع من كأس ( الحقيبة ) كل عذابات العشق ودمه المهدر. الغناء عنده متنفساً لنهر المحبة الجارف، إذ يلوِّن دواخله بعطر الحياة الدافق. وهو عاطفة إنسانية تبحث عن الإتحاد مع الآخر البعيد باحساس متوهج، لكن (درب العِشق ساهل و درب الوصال صعبان ). لقد عرفنا من التاريخ القديم حكايات من وقعوا صرعى العشق، و هاموا في البوادي لا يلوون على شيء. اختلطت عقولهم ولم يصدر عنهم من قول أو فعل إلا ما أتصل بعواطفهم الجارفة. إنه العشق الذي ينتهي بهلاك أصحابه إن بلغ المدى. انها الثمار التي لا بد من قطفها، تتأرجح بين عرف قبلي سابق و نظام اجتماعي لاحق.
(10) تتبع ( أحمد ) كل حكاوي ( المحبين اليتامى ). فدخل محراب الهوى العُذري، تعطر برياحينه و نهل من أسقامه كما تروي القصص القديمة: ( نُحول الجسم و اصفرار اللون و قلة النوم و خشوع النظر و إدمان الفكر وكثرة الأنين و انسكاب العبرات و تتابع الزفرات. و لن يخفى الحب و إن تستر. و لا ينكتم الهوى و إن تصبر. هذا هو الطريق الى صناعة الأعشاش في أغصان الأحلام و ركوب السفائن المُهلكة.) قال لي ( أحمد ) ذات مساء: ـ { لقد كُتب علينا الشقاء. يبدو أن أهلنا لا يعرفون المحبة الإنسانية. حجبت أعينهم غشاوة سميكة. أصبح العشق عندهم كالداء، يستقصدونه بالبتر. لا يقبله مجتمعنا إلا من خلال أطر و قوالب صارمة. تتحول العلاقة بين الرجل و المرأة عندهم الى تعوّد و عُشرة، ولا تبدأ الا بعد الزواج الذي يتم وفق رغبات الأهل. هؤلاء يبدلون ناموس الحياة و الفطرة، يجففون نبع الإنسانية من وهجه و بريقه. إنني أحسب أن معظم أهلنا لم يتعرفوا على العشق ولم يتذوقوا حلاوته طوال حيواتهم، و تلك فاجعة أكبر من فاجعتي. لقد أحببت وهزمتني التقاليد، لكنني لمست حلاوة الحُب العُذري و نهلت من نبعه. تفتحت روحي، رغم الهزيمة القاسية. لم يراودني العبث بالقيّم أو الإلتفاف عليها. ربما استسلمت ( الخرَز ) و انشغلت بالأسرة من البنين و البنات، و انطفأ وهج المحبة في قلبها ولفّتها علائق المجتمع المتشابكة. ربما جرت عليها سُنن العُشرة، و تحولت الى دُمية اجتماعية تركض في طريق ممتد لا نهاية له، و لن تجد في الختام الا المُتعه الآسنة. لقد قتلوها شرّ قِتلة. أهالوا عليها التراب وهي تنظرني بعين دامعة. لن يندمل جرحي يا ( عبد الله ) طيلة عمري.}